مقالات

«مارسيلو ماستروياني»: أيقونة السينما الإيطالية

كان مارسيلو ماستروياني (26 سبتمبر 1924 - 19 ديسمبر 1996) أكثر من ممثِّل؛ إنَّه أيقونةٌ سينمائيَّةٌ تجاوزت حدودَ الزمانِ والمكان. لم يكن وجهًا وسيمًا على الشاشة، بل كان مرآةً تعكسُ روحَ عصره، وتجسِّد تعقيدات الإنسان المعاصرِ بكلِّ شفافيَّة. ولم يقتصر دورُه على تقديمِ أداءٍ تمثيليٍّ متقَن، بل ساهمَ في تطوير لغة السينما بحضورِه الجسديِّ الفريد، مضيفًا إليها أبعادًا فلسفيَّةً عميقة. حتى في أعوام الشيخوخة، حافظ ماستروياني على سحرهِ الخاص، فظلَّ يضيءُ الشاشةَ بابتسامتِه الساحرة. في فيلمه الأخير "رحلةٌ إلى بدايةِ العالم"، جسَّد تجربته الفنيَّة بعمق، وكأنَّه يمنحُنا رسالةً أخيرةً عن حبِّه للسينما، وتقديره للمُشاهد.
كان رحيله صدمةً هزَّت عالم السينما، فمن منَّا ينسى صوتَه المميَّز ونبرته الشاعريَّة التي كانت تلامسُ القلوب؟ كانت شخصيَّته مزيجًا فريدًا من القوَّةِ الناعمةِ والهشاشةِ الرومانسية، ومن الفكاهةِ والمأساة، ممَّا جعله أيقونةً تتجاوزُ حدودَ الزمانِ والمكان. لقد رحلَ الجسد، ولكنَّ روحَه ستظلُّ حاضرةً في كلِّ لقطةٍ من أفلامه. ماستروياني كان فنانًا شاملًا، استطاع أن يتركَ بصمةً لا تمحى في تاريخ السينما. بابتسامته الساحرةِ ونظراتِه العميقة، جسَّد أحلامَ ومخاوفَ جيلٍ بأكمله، وببراعةٍ فائقةٍ استطاع تجسيدَ شتَّى الأدوار، من الأرستقراطي الفخم إلى البروليتاري المتواضع، وكأنَّه كلُّ شخصيَّةٍ يتقمَّصها، يعيشها في الواقع. ما أن تفكِّر في اسم ماستروياني، حتى تبرُز أمامَك صورةُ الرجلِ الأنيق، المدخِّن بشغف، الذي يحملُ في عينيه بريقًا خاصًا. سواء كان يمشي بخطواتٍ واثقةٍ في شوارع روما، أو يتأمَّل الحياةَ من خلفِ عدسة كاميرا، كان يمثِّل نموذجًا للرجلِ المعاصر، بكلِّ تعقيداته وتناقضاته.
لم يكن ماستروياني وجهًا جميلًا وساحرًا على الشاشة، بل كان فنَّانًا شاملاً، يمتلكُ قدرةً عجيبةً على إيصالِ المشاعرِ والأحاسيس إلى قلوب المشاهدين. في أفلامه، كان يعكسُ همومَ وقضايا عصره، ويطرحُ أسئلةً جوهريَّةً عن الحبِّ والحياةِ والموت. ولكن وراء هذه الصورة الأيقونيَّة، كان هناك رجلٌ بسيط، يحلمُ بالهدوءِ والسكينة. ورغم شهرتِه الواسِعة، كان يأسف أحيانًا للضجَّة الإعلاميَّة التي أحاطت به. ومع ذلك، ظلَّ وفيًّا لفنِّ التمثيلِ حتى آخر لحظةٍ من حياته، وسيظلُّ إرثه الفنيِّ خالدًا، يروي قصصَ حياتِنا بصدقٍ وشفافيَّة.

في معظم أفلامه جسَّد مارسيلو ماستروياني ببراعةٍ متناهيةٍ تناقضات الإنسانِ الحديث. ففي أدواره المتعددة، كان يمثِّل صراعًا مستمرًا بين الحسِّي والعبَث، بين الواقع والخيال. لقد كان طليعيًا حقيقيًا، سابقًا لعصرِه بأفكارِه الجريئة وتجسيداته الفنيَّة المُبتَكرة. ويمكِنُ ملاحظة ذلك في أدواره، سواء كانت تتَّسمُ بالرقَّة والحساسيَّة أو بالسخريةِ اللاذعة، وبذلك كان يدعونا إلى إعادة النظر في مفاهيمنا عن العالم من حولنا، مقدِّمًا لنا رؤى جديدة، أحيانًا مشوَّهة كصورةٍ في مرآةٍ منحنية، وأحيانًا أخرى شاعريَّة تتجاوزُ حدودَ الواقع. في فيلم "الكلبة" للمخرج ماركو فيريري، مثلًا، تجسِّد هذه الرؤية المزدوجة بوضوح. إذ نصادف شخصيَّة ماستروياني المنعزلة، التي تختارها كاثرين دونوف لتكون بديلًا عن كلبِها، وهذا يرمزُ إلى ذلك الصراع الدائم بين الحاجةِ إلى الحبِّ والشعورِ بالوحدة. ولعلَّ دورَه في فيلم "الحدث الأهم منذ أن مشى الإنسان على القمر" لجاك ديمي يجسِّدُ مثالًا آخرَ على عبقرية ماستروياني في تجسيد الشخصيَّات المعقَّدة. ففي هذا الفيلم الساخر، يجسد ماستروياني دور "الرجل الحامل"، ليقدِّم لنا نقدًا لاذعًا للمجتمعِ وتقاليده. أمَّا رقصةُ الرومبا التي يؤديها في فيلم "يوم خاص" لإيتور سكولا فهيَ بلا شك من اللحظات الخالدة في تاريخِ السينما. يعبِّر ماستروياني في هذه الرقصة عن ألمِ ومأساة رجلٍ يعيشُ في ظلِّ نظامٍ فاشي، ليُثبت لنا أنَّ الفنَّ قادرٌ على التعبير عمَّا تعجز الكلماتُ عن قوله.
ولولا أنَّ لقب "سنابوراز" الذي أطلقه فيلليني في فيلم "مدينة النساء" على ماستروياني وظلَّ يلاحقُه كظله، لكان كازانوفا وحده كفيلًا بأنْ يخلُقَ له هويَّة فنيَّة متفرِّدة. ففي كلِّ تجسيدٍ له للشخصيَّة، كنَّا نشهدُ ولادة كازانوفا جديد، يختلفُ عن سابقه في التفاصيل، ولكنَّه يتَّفق معه في الجوهر؛ جوهرُ الرجل الذي يحاولُ فهمَ عالمِه المتغيِّر. وماستروياني، في فيلمه "كازانوفا 70"، تجاوَز حدودَ الصورةِ النمطيَّة، ليقدِّم لنا قراءةً عصريَّةً جريئةً للشخصيَّة، كاشفًا عن عمقٍ نفسيٍّ لم يكن متوقعًا. أما في "ليلة في فارينز"، فقد تجاوزَ قناعَ المغامر ليُظهِر لنا كازانوفا المثقَّف، المهتم بالقضايا الإنسانيَّة والسياسيَّة.
لم يقتصر اهتمام ماستروياني على الشخصيَّات التاريخيَّة، بل امتدَّ ليشملَ الشخصيَّات المعاصرة. ففي فيلم "الرفاق"، جسَّد الشكلَ الثوري، وفي "دعم بيريرا" جسَّد الصحفيَّ الشجاع الذي يواجهُ الديكتاتوريَّة، وفي "الجلد" قدَّم لنا صورةَ الكاتبِ المناضلِ ضدَّ الفاشية. وفي فيلمه النبوئي "بطريقةٍ ما"، جسَّد شخصيَّة "دون غايتانو"، ذلك الزعيم السياسي الذي يسيطرُ على خيوطِ اللعبة في الخفاء، ليقدِّم لنا تحليلًا عميقًا للفساد السياسيِّ في إيطاليا. وحتى في أدواره باللغة الإنجليزية، كما في فيلم "ليو الأخير"، استطاع ماستروياني أن يتركَ بصمتَه الخاصة. فشخصيَّة الوريثِ المهووسِ بمراقبة الطيور، والتي تبدو في ظاهرها بعيدةً عن السياسة، تحملُ في طيَّاتها نقدًا اجتماعيًّا لاذعًا، حيث يصبح هذا الرجلُ المتوحِّدُ جزءًا من حركةٍ احتجاجيَّةٍ دفاعًا عن حقوقِ جيرانه. يمكننا القول إن أدوار ماستروياني، مهما تنوَّعت، قد حملت في طيَّاتها بعدًا سياسيًا واجتماعيًا عميقًا.
غادر مارسيلو ماستروياني، ذلك العملاق الذي أضاء سماء السينما الإيطالية، مسقطَ رأسه حزينًا. كانت مغادرته، في مطلع التسعينيات، كأنَّها انسحابٌ بطوليٌّ من معركةٍ خاسرة. فبعد أن توَّج مسيرته الفنيَّة بالأسدِ الذهبيِّ في البندقية، وبعد أن غزا "قاتل السينما" سيلفيو برلسكوني المشهدَ السياسي، اختار ماستروياني الصمتَ والانزواء. وكأنَّ روحَه الفنيَّةَ لم تعد تجدُ موطئَ قدمٍ في وطنٍ تغيَّر جذريًا.
كان ماستروياني، طوال مسيرته، قد تجاوزَ حدودَ الممثِّل ليصبحَ صوتًا معبِّرًا عن همومِ الإنسان المعاصر. لهذا لم يكن راضيًا عما يحدثُ في إيطاليا. بل كان عارفًا أنَّ الأمور تسوءُ أيضًا في أنحاء أخرى. لقد اكتسب تجربةً كبيرةً من تنقُّلِه بين شخصيَّاتٍ متناقِضة، من المهاجِرِ الساذَجِ الباحثِ عن الحظ إلى الطبيبِ النفسيِّ الماكر، وفيِّ كلِّ شخصيَّةٍ كان يعكسُ جوانبَ مختلفةٍ من النفس البشريَّة، متأرجحًا بين اليأسِ والأمل، وبين السذاجةِ والحكمة.
في فيلمه الأخير "ثلاث حيواتٍ وموت واحد"، كشف لنا عن رؤيته الفنية الشاملة للحياةِ والسينما. ففي تلك القصَّة المتشعِّبة، والتي تحكي عن رجل يعيشُ عدَّة حيوات، كان ماستروياني يودِّعنا برسالةٍ مؤثِّرة عن قوَّة السينما في تجاوزِ الحدودِ والقيود.
رحيلُ ماستروياني لا يعني نهايةَ مسيرةٍ فنيَّة، بل كان خسارةً فادحةً للسينما العالميَّة. لكنه بالمقابل، ومن خلال أدواره المتنوعة، أهدانا هذا الممثل العظيم رؤيةً عميقةً للإنسان والمجتمع، تاركًا للامتناهي إرثًا فنيًا لا يمكن نسيانه.

محطات خالدة.

ليالي بيضاء، من إخراج لوتشينو فيسكونتي (1957)

في خضم خمسينيَّات القرن الماضي، كان مارسيلو ماستروياني يصقلُ موهبَته ببطءٍ وثبات، متنقلًا بين أدوارٍ ثانويَّةٍ في أفلامٍ تجارية. كانت تلك السنوات بمثابةِ صبرٍ جميل، استعدادًا للقفزة الكبرى. وفي هذا السياق، يأتي فيلم "ليالي بيضاء" للمخرج لوتشينو فيسكونتي كمحطَّةٍ فارقةٍ في مسيرة الممثِّل الشاب. وبأداءٍ مرهفٍ وحساس، جسَّد ماستروياني شخصيَّة ماريو، الشاب الحزين الذي يقع في حبِّ ناتالي. في هذا الفيلم، المستوحى من رواية دوستويفسكي التي تحملُ العنوان نفسه، يتجسَّد الألمُ والشوقُ والحبُ بعمق، ليكشف لنا عن موهبةٍ فنيَّةٍ استثنائيَّةٍ كانت كامنةً في أعماق ماستروياني واستطاع فيسكونتي إخراجها بإبداع.
لقد كان فيلم "ليالي بيضاء" بمثابةِ بوابة عبورٍ إلى عالم الشهرة، حيث أبان ماستروياني عن قدرته على تجسيد الشخصيَّات المعقَّدة، والغوصِ في أعماقِ النفس البشرية. وبفضل هذا الدور، أصبح اسمه مرادفًا للرومانسيَّة الحالمة والشخصيَّة المعذَّبة.

ماريو مونيشيلي: الحمامة (1958) والرفاق (1963)

في قلبِ الكوميديا الإيطالية، وفي واحدٍ من أبرز أفلامها "الحمامة" لماريو مونيشيلي، يلوح لنا مارسيلو ماستروياني في دورٍ ثانوي، ولكنَّه لا يقل أهميَّةً عن أيِّ دورٍ أساسي. في هذا التجمُّعِ من النجوم الذي ضمَّ كوكبةً من ألمعِ نجوم السينما الإيطاليَّة، حيث مثل رِناتو سالفاتوري وفيتوريو غاسمان، تمكَّن ماستروياني بشخصيَّته المميَّزة والمليئة بالظلال، من أن يخترق الأضواء والأفاق.
يجسِّدُ ماستروياني في هذا الفيلم دورَ المصوِّر الفوتوغرافيِّ الفاشل، الذي يحملُ على عاتقِه عبء تربيةِ طفلِه الصغير في ظلِّ ظروفٍ صعبة. يمزجُ الممثِّل بين المأساة والكوميديا في أداءٍ بارع، مستوحيًا من تقاليد الكوميديا dell'arte وتأثير تشارلي تشابلن. حينما يبالغُ في البؤس وسوء الحظ، يرسمُ لنا لوحةً ساخرةً عن الحياة، مليئةً بالمفارقاتِ والأحداثِ الطريفة.
في عام 1963، أخرج ماريو مونيشيلي فيلمه اللافت "الرفاق"، والذي شكّل علامةً فارقةً في مسيرةِ مارسيلو ماستروياني الفنية. بعد أن صار نجمًا ساطعًا في سماءِ السينما بفضلِ تعاونه مع عباقرةٍ مثل فريدريكو فيلليني، وجد ماستروياني في هذا الفيلم منصَّةً لعرضِ موهبته المتعدِّدة الأوجه.
يحكي فيلم "الرفاق" قصة إضرابٍ عماليٍّ ملحميٍّ في تورينو عام 1905، ويسلِّط الضوءَ على دور المثقَّفين في الثورات الشعبيَّة. يجسِّد ماستروياني شخصيَّة الأستاذ سينيجاليا، المثقَّف الثوري الذي يحملُ على عاتقهِ مهمَّة تحريضِ العمَّال على الثورة، إلا أنَّ الأمور تأخذُ منحى مأساويًّا وغيرَ متوقَّع.
في هذا الدور، يتحوَّل ماستروياني إلى شخصيَّة مركَّبة، تتأرجحُ بين النبلِ والضعف، بين الحماسِ والتردُّد. فهو الثوري الحالم الذي يؤمن بقضيَّةٍ عادلة، ولكنَّه في الوقتِ نفسِه يعاني من تناقضاتٍ داخليَّةٍ وتساؤلاتٍ حول دورِ المثقَّف في تغيير المجتمع. يمزجُ ماستروياني بين المأساة والكوميديا في أداءٍ ساحر، حيث يتنقَّل ببراعةٍ بين اللحظات الدراميَّة القويَّة والمشاهدِ الساخرة التي تخفِّف من وطأة الأحداث الجادَّة. يمكنُ اعتبار فيلم "الرفاق" أكثر من فيلمٍ تاريخي، فهو تحفةٌ فنيَّةٌ تتناول قضايا جوهريَّة مثل المسؤوليَّة الفرديَّة، ودور المثقَّف في المجتمع، وأثرُ الثورات على الأفراد. وبذلك يقدِّم الفيلم رؤيةً نقديَّةً عميقةً للثورات، وكيف يمكن أن تتحوَّل إلى أعمالِ عنفٍ وتدمير. وبفضل أدائه الاستثنائي في هذا الفيلم، أثبتَ ماستروياني أنَّه ليس ممثِّلًا موهوبًا فحسب، بل فنانٌ متعدِّدُ الأبعادِ وقادرٌ على تجسيدِ أعمق المعاني الإنسانية.

فيديريكو فيلليني: الحياة الحلوة (1960)، ثمانية ونصف (1963)، مدينة النساء (1980)، جنجر وفريد (1986)، والمقابلة (1987)

كان مارسيلو ماستروياني في الخامسة والثلاثين من عمره عندما أشرق نجمه في سماء السينما العالمية بفيلم "الحياة الحلوة". تلك العلاقة الوطيدة التي جمعته بفريدريكو فيلليني وزوجته جيوليتا ماسينا، والتي تمتد جذورها إلى أيام شبابهم في المسرح الجامعي، كانت بذرةً مثمرةً أثمرت أعمالًا فنيَّةً خالدة. في "الحياة الحلوة"، جسَّد ماستروياني شخصية مارسيلو، الصحفي الرومانسي الحالم الذي يبحثُ عن المعنى وسط زحامِ الحياة الرومانيَّة. أصبح مارسيلو، ببساطته وسحره، أيقونةً للجيل الأوروبي، وتجسيدًا للرجلِ المعاصرِ بآماله وتناقضاته.

ولعل مشهد نافورة تريفي، الذي لا يزال محفورًا في ذاكرة السينما، هو أكثر من صورةٍ رومانسية. إنَّه لحظةُ ذروةٍ تعبِّر عن شغف الشباب وحُلمهم بالحبِّ الأبدي. وقد أصبحت هذه اللحظة أيقونةً عالميَّة، لدرجة أنَّ السلطات الإيطاليَّة أوقفت تشغيل النافورة حدادًا على رحيل ماستروياني. لم يكن فيلم "الحياة الحلوة" مجرَّد فيلم، بل لوحة فنيَّة تتَّبع حياة مارسيلو على مدار ثلاثِ ساعات، لتكشف عن جوانب شخصيَّته المتعددة: فهو الضعيف الحالم، البريءُ المتمرِّد، والصادقُ الذي يتلوَّن بألوان الحياة. بعد ثلاث سنواتٍ من "الحياة الحلوة"، عاد مارسيلو ماستروياني ليلعبَ لعبةً أدائيَّةً جديدة، ومرَّةً أخرى تحت قيادة المُخرج فريدريكو فيلليني. في فيلم "ثمانية ونصف"، انغمس ماستروياني في عالمٍ فنيٍّ عميق، حيث جسَّد شخصيَّةً مزدوجةً تعكس صراعَ المخرج مع ذاته. في هذا الفيلم الاستثنائي، الذي يُعتَبر رحلةً نفسيَّةً عميقةً في عالم السينما، يتحول ماستروياني إلى مرآةٍ تعكس انعكاسات فيلليني نفسه. إذ نُشاهِد ماستروياني يرتدي زيَّ المخرج، ويتنقل بين الواقع والحلم، بين الماضي والحاضر، في محاولةٍ لفهم ذاته وإعادة بناءِ هويَّته الفنيَّة.
"ثمانية ونصف" فيلم بروستي (نسبة إلى مارسيل بروست)، وفيه تتجوَّلُ الشخصية في متاهات الذاكرة، تستعيدُ ذكريات الطفولة والأحلام، وتستكشفُ أعماق اللاوعي. تتركُ النهايةُ المفتوحةُ المُشاهِدَ في حالةٍ من التأمُّل العميق، متسائلًا عمَّا إذا كان ما يشاهده فيلمًا أم حلمًا، حياةً أم موتًا.
وفي فيلم "المقابلة"، عاد الثنائي الأسطوري فيلليني وماستروياني مجددًا، هذه المرة في فيلم وثائقي مزيَّف، ليقدما لنا لحظةً مؤثِّرة من الحنين إلى الماضي. ويمثِّل مشهدَ إعادةِ تمثيلِ لقاء نافورة تريفي، الذي كان رمزًا للحب والشباب، منتهى جمال الفنِّ وقدرته على تجاوزِ الزمان.

أنطونيو الوسيم، بازوليني (1960)

في تحفةِ بيير باولو بازوليني السينمائيَّة المستوحاة من رواية فيتاليانو برانكاتي "أنطونيو الوسيم"، نجدُ أنفسَنا أمام ملحمةٍ إنسانيَّةٍ تتجاوزُ حدودَ القصَّةِ الرومانسيَّة لتغوصَ في أعماقِ النفس البشريَّة. بأسلوبِه الساخرِ المميَّز، ينزعُ بازوليني قناعَ الكمال عن الأسطورةِ الإيطاليَّةِ المتمثِّلة في شخصيَّة كازانوفا. فبدلًا من الغاوي اللاتيني الذي لا يُقهر، نرى أمامنا رجلًا هشًّا يعاني من أزمةٍ وجوديَّةٍ عميقة. يقدِّم مارسيلو ماستروياني أداءً متميزًا، حيث يجسِّد الشخصيَّة بعمقٍ وحساسيَّة، وكأنَّه يكشفُ عن جانبٍ خفيٍّ من الروحِ الإنسانيَّة.

الليلة، لميكيلانجيلو أنتونيوني (1961)

في قلب ميلان، العاصمةُ النابضةُ بالحياةِ والاقتصاد، يعيشُ جيوفاني، الكاتبُ الناجحُ الذي يجسِّدُ صورةَ المثقَّف العصري. يشهدُ زواجه بليديا، المرأة الجميلة والذكية، أوقاتًا عاصفة. في حفل استقبالٍ فاخرٍ يجمعُ نخبةَ المجتمع، يلتقي جيوفاني بفالنتينا، الشابة التي تجسِّد شبابًا متمردًا، بينما تغرق ليديا في عالمها الخاص. في مشهد الصباح الباكر، يجلسُ جيوفاني وليديا على العشب، في صورةٍ تعكس بوضوحٍ التصدعات التي بدأت تظهرُ على زواجهما. يلعب مارسيلو ماستروياني دورَ الرجلِ الناضجِ الذي يتصارع مع مشاعره المتناقضة، بين الرغبة في التجديد والارتباط بماضيه. بأدائِه المتميِّز، يندمجُ ماستروياني تمامًا في عالم ميكيلانجيلو أنتونيوني، العالم الذي يتَّسم بالبرودة والانعزال، حيث تسود العلاقات السطحيَّة والبحث عن الهوية. يقدِّم أنتونيوني لنا تحفةً فنيَّةً أخرى، حيث يستكشف أعماقَ النفس البشريَّة في عالمٍ حديثٍ معقَّد، عالمٌ يزداد فيه الشعورُ بالوحدةِ والعزلة.

الطلاق على الطريقة الإيطالية، لبييرو جيرومي (1961)

في واحدٍ من أبرز أدواره الكوميديَّة، يجسِدُ مارسيلو ماستروياني شخصيَّة البرجوازي الإيطالي المتوتِّر والمنحرف، في فيلمٍ يسخر من تقاليد المجتمع الإيطالي وعلاقاته المعقَّدة. يشترك هذا الفيلم مع "الزواج على الطريقة الإيطالية" لفيتوريو دي سيكا في تناولِ موضوعِ الزواج والطلاق من منظورٍ ساخرٍ ومفارق، ولكن لكلٍّ منهما نكهته الخاصة. في هذا الفيلم، يلعب ماستروياني دور رجلٍ يواجه تحديًا صعبًا: يريدُ التخلُّص من زوجته في مجتمعٍ لا يعترف بالطلاق. يتحول بطلنا إلى مهرِّجٍ حقيقي، يستخدمُ كلَّ الحيلِ والمكائدِ للتخلُّص من هذه العلاقة التي أصبحت عبئًا عليه. يؤدِّي ماستروياني هذا الدور ببراعةٍ فائقة، حيث يمزجُ بين الكوميديا السوداء والدراما الاجتماعية، ليقدِّم لنا شخصيَّةً لا يمكنُ نسيانها.

يوميات عائلية لفاليريو زورليني (1962)

في "يوميَّاتٍ عائليَّة"، ينسجُ فاليريو زورليني سجَّادةً من الحزنِ والأمل، حيث يتصارعُ شقيقان مع الزمنِ والموت. يلتقي مارسيلو ماستروياني وجاك بيرين في مشهدٍ خريفيٍّ حزين، يرتدي الأول قناعَ المهرِّجِ الأبيض، وكأنَّما يحاولُ إخفاءَ آلامه خلفَ ابتسامةٍ مصطنعة. يقدِّم الفيلم دراما نفسيَّة عميقة، تستكشفُ العلاقات العائليَّة المعقَّدة، وتطرحُ تساؤلاتٍ حول معنى الحياةِ والموت.

صوفيا ومارسيلو: أمس واليوم وغدًا لفيتوريو دي سيكا (1963) و"جاهز للارتداء" لروبر ألتمان (1996)

في رحلة عبر الزمن، يلتقي عالم السينما بمارسيلو ماستروياني وصوفيا لورين، حيث يجسدان شخصيتيْهما الأيقونيتين في فيلمي "أمس واليوم وغدًا" لفيتوريو دي سيكا و"جاهز للارتداء" لروبر ألتمان. وكأنَّ الزمن قد توقَّف، يعيدُ الثنائي تقديم مشاهدَ لا تُنسى، وكأنَّها مرآةٌ تعكسُ تاريخهما الفني المشترك. في هذا التكرار، نكتشفُ عمقَ موهبتهما، واستمرار سحرهما على الشاشة.

الضحية العاشرة لإليو بيتري (1965)

في فيلمه المثير للجدل "الضحية العاشرة"، يدخل إليو بيتري عالمَ الخيالِ العلميِّ المظلم، ليقدِّم لنا رؤيةً مستقبليَّةً قاتمةً حيث يحوِّل القتلَ إلى رياضة ترفيهيَّة. يجسِّدُ مارسيلو ماستروياني، بشعرِه الأشقر المميَّز، شخصيَّة رجلٍ محترفٍ في الصيد البشري، يجد نفسَه في مواجهةِ امرأةٍ قويَّةٍ ومنافسة. هذا الفيلم الغريب والمبتَكر، الذي يمزجُ بين الخيال العلمي والرعب، يعتبر واحدًا من أجرأ أعمال ماستروياني، حيث يتجاوز فيه حدودَه التمثيليَّة التقليديَّة.
يُعتبر فيلم "الضحية العاشرة" نقدًا لاذعًا للمجتمع المعاصر، حيثُ يسلِّط الضوءَ على العنفِ والنزعة الاستهلاكيَّة. من خلال تصويرِ عالمٍ مستقبليٍّ ينتقلُ فيه القتلُ إلى لعبة، وهنا يحذِّرنا بيتري من مخاطر التكنولوجيا والتطوُّر العلمي عندما تُستَخدم لأغراضٍ شريرة. الفيلمُ يثيرُ تساؤلاتٍ عميقةٍ حول طبيعة الإنسان، وحول العواقبِ الوخيمة للعنف.

ماركو فيريري: ليزا (1972)، العشاء الكبير (1973)

في فيلم "ليزا"، يغوص المخرجُ في أعماقِ نفسيَّةِ رجلٍ منعزلٍ عن العالم، يجد نفسَه في مواجهةِ امرأةٍ متكبِّرة تسعى جاهدةً لكسر حاجزه النفسي. العلاقة التي تنشأ بينهما هي علاقةٌ ملتوية، تتراوحُ بين الحب والكراهية، الساديَّة والمازوشيَّة. يقدم ماستروياني أداءً قويًا ومؤثرًا، يجسِّدُ فيه شخصيَّة الرجلِ الغامضِ والمعقَّد. وفي فيلمٍ مجنونٍ آخر، ينسجُ فيريري سجَّادةً سوداء من السخرية اللاذعة، حيثُ يصوِّرُ لنا مجموعةً من البرجوازيين يختارون طريقةً غريبةً ومؤلمةً للانتحار. ماستروياني بدوره يمثِّل شخصيَّة طيارٍ مدني، يجسِّدُ نموذجَ الرجلِ الإيطالي المنهار، الذي يبحث عن الهروب من واقعه المرير في عالمٍ من الشهواتِ المفرطة. يقدِّم الفيلم نقدًا لاذعًا للمجتمع البرجوازي، وكشفًا صادمًا لزيفِ القيم والمبادئ التي يحملها هؤلاء الأشخاص.
وعلى النقيض من ذلك، يُعد فيلما "يومٌ مميَّز" لإيتوري سكولا و"العينان السوداوان" لنيكيتا ميخالكوف، اللذان شارك فيهما ماستروياني أيضًا، عملين تجاريَّين ناجحين، إلا أنهما يبدوان قديمين مقارنة بأعمال أنجيلوبولوس.

الحدث الأهم منذ أن مشى الإنسان على القمر، لجاك ديمي (1973)

أما فيلم "الحدث الأهم منذ أن مشى الإنسان على القمر" لجاك ديمي، فيمثل تحفةً فنيَّةً فريدةً من نوعها. يقدِّم الفيلم، بطريقةٍ ساخرةٍ ومُبتكرة، رؤيةً جديدةً للأدوار الجندريَّة التقليديَّة. إن تحول ماركو، الذي يجسِّده ماستروياني، إلى امرأةٍ حامل، هو أمرٌ مثيرٌ للدهشة والتفكير، ويطرح تساؤلاتٍ حول الهويَّة الجنسيَّة والأدوار الاجتماعية.

ثلاث حيوات وموت واحد، لراوول رويز (1996)

في فيلمه الأخير، "ثلاث حيواتٍ وموت واحد"، يقدِّم المخرج المبدع راؤول رويز لوحةً فنيَّةً مؤثرة، حيث يجسِّد مارسيلو ماستروياني، في واحدٍ من آخر أدواره السينمائية، رجلًا يعيش ثلاثَ حيواتٍ متوازية. هذه الحيوات المتعدِّدة ليست سوى استعارةٍ عميقةٍ لرحلةِ الممثِّل الفنيَّة، حيث يتقمَّص الممثِّل شخصياتٍ متعدِّدة، ويعيش حياةً متعدِّدةً عبر أدواره. ماستروياني، ببراعته المعتادة، يستكشف في هذا الفيلم أعماقَ النفس البشريَّة، ويقدم لنا تحفةً فنيَّة ستبقى راسخةً في الذاكرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

سعيد بوكرامي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا