(1)
1917
"يامل قلب عذبه كثر الانواع
يبي الطمع مير الطمع يخلف الطوع"
هكذا تكلم زيد بن غيام المطيري يومًا حينما رأى ارتحال البدو، وهو الرجل الذي أراد أن يترك البداوة وينزل مع جماعته بالأرطاوية ويحضر مجالس الذكر ويقرأ القرآن، مع من يقرأ في ذلك الوقت، على الشيخ العنقري، هاجرًا البداوة ومُلهياتها إلى التعبُّد في رحاب الهجرة، ولكن للقلب فيما يهوى عذابات، لا ينفكُّ المرء منها، ويَبقى بها أبد الدهر مُتوجِّدا، فما عاد الناسك زيد صيادا يطرد فرائسه، وما عاد للعابد زيد قُدرة على أن يعود إلى ملهاة مطاردة "الربيع"، والاعتناء بالإبل. وعلى خطى زيد، ترك باديةُ الجزيرة مضاربهم ورحلاتهم، إلى بيوت الهجر يتلون على "المطوع" تنزيل العزيز الحكيم.
1960
ولكن ليّام بن بادي في آخر روائع الثنائي "الشلاحي والمجفل" يعكس الهجرة التي بدأت قبل "زويد"، ويعود إلى البادية التي هجرها البدو التقاة، لنفس السبب الذي دفعهم لهجرها: "اقتربت الساعة وانشق القمر" وضجت الأرض بفتنها حتى ما عادت تكفي أهل الأرض أنفسهم؛ لذا يرى ليّام على عكس من سبقه من بادية الجزيرة، أن هجر الديار إلى الخلاء هو النجاةُ بالدين والدنيا من غضب رب شديد العقاب، و"يجمع" ما لديه إلى نفسه في صحراء لا يعرف إلى أين يصل مداها.
(2)
1990
تسير الأعوام، لنرى حفيدةَ ليّام في أول مشاهد الفيلم وقد لاقت مصرعها بسبب الحصبة. في ذلك الوقت، كان هذا المرض نادرًا بفضل اللقاح، لكن اللقاح موجود في "الديرة"، والدِيرة حرامٌ على ليّام وأبنائه حتى تقوم الساعة. من هنا تبدأ الحبكة، ومن هنا تلتقي عُقد القصة؛ واحدةٌ ماتت، وأخرى تُصارع الموت في خيمة باردة. وبين الخيام تتصاعد الآهات، تبكي بنت عياد سرًّا على ابنتها، عسى ألا تلحق بغزيّل، بينما تتوسل "صيتة" أن يتحرك زوجها "نهار" ليوقف هذا الصمت.
وهنا تتوالى المشاهد: ترى ليّام، المسنّ الذي لا تبدو عليه علامات الهرم إلا في لحيته البيضاء، قليل الكلام، كثير الذِكر، دائم العزلة. رجل يهابه أبناؤه، ويتجمع أحفاده حوله ليُفسّر لهم أسرار العالم، بينما تبحث زوجات أبنائه في لحيته عن سترٍ يحميهن من تقلبات الزمان. إنه "باديةٌ" تمشي على الأرض، ولكنه أكثر تزمّتًا من غيره، وأشد قسوة بقراره المتطرف بالهرب من أشراط الساعة.
ثم يظهر بتال، أصغر الأبناء وأصدقهم نية. يحفظ القرآن صفحة تلو أخرى على أمل أن يُسمح له بالذهاب إلى "الديرة" ليقترب من حبيبته، ابنة مرزوق، ويجلب حاجيات الأسرة، لكنه دائم الاصطدام بوجه شنار.
أما شنار، فهو عُقدة في كل زاوية من زوايا القصة. رجلٌ تختصره كلمة واحدة: "الخسة". تزوج من الفتاة التي كان يحبها الأخ الأكبر، وأخرى كان يحبها الأخ الأصغر. يتملق الأب ليُبقي مكانته آمنة، ويتلذذ بإيذاء الجميع، بما فيهم ابنته التي تركها تصارع الحصبة وحدها.
ثم نعرف سطام، الابن الذي قطع كل علاقاته مع أهله، فاختار "الديرة"، وعمل في الحرس، لكنه لا يجد مكانًا بين أهله إلا بشروط الأب القاسية: توبةٌ نصوح وهجرٌ للمدينة.
أما نهار، فهو رجل غاب عنه النهار فعلًا؛ وجهه مظلم وحزنه دائم، زوج صيتة ووالد غزيّل التي ماتت في خيمتها، لا يتحدث إلا في نومه، ولا يملك من الحياة سوى ذكريات أخيه ماجد، الأخ الذي تجرأ على كسر قوانين ليّام وأخذ زوجته للعلاج.
وماجد هذا، رغم كونه قد مات قبل أن تبدأ أحداث الفيلم، إلا أن ظِلاله واضحةٌ على وجه "نهار" المُذنب بقتله، وواضحةٌ على ابنه عساف، اليتيم الصغير الذي لا يعرف المستحيل، والذي ورث الفِراسة وقَصاصة الأثر من والده. وبكلمات مساعد الرشيدي، صاغ مفرج المجفل شخصيته:
"حالف إني لأعكس الريح واخذها عناد
لين تلقح عاقر النود برعود الضنا."
عساف هو بطل القصة الحقيقي. طفلٌ في أعين الزمن، لكنه بأفعاله يَحمِلُ الفيلم على كفيه حتى النهاية. هو قَصَّاص أثرٍ، مُروءته أثقل من الجبال، وشهامته تقوده إلى أخذ ابنة عمه ريفة إلى الوحدة الصحية رغم كل المحاذير. تُشفى ريفة، لكنه يُصاب بالحصبة، وبينما يعزلونه في خيمة الموت، تخرج جدته نورة لتأخذ الذلول بحثًا عنه في الصحراء.
لا يدور الفيلم حول أبناء ليّام فقط، بل نرى "سرّا" بنت عياد، التي تُجابه شنار في كل مرة، لتُنافح عن حق ابنتها في العلاج وتستعين بحكمة الجد ليّام لتحتمي به من شره. وهناك صيتة، التي تمضي وقتها بالبكاء على غزيّل، متوسلةً أن يعود نهار للحديث معها، لكنه يغرق في صمته، فتُقرر في لحظةِ يأسٍ أن تنتقم من الجميع.
وفي آخر الفصول، تتركنا الشخصيات مع لغز سقوط ليّام نفسه. الرجل الذي قاد الجميع إلى هذا المصير تحت راية الهرب من أشراط الساعة، لكنه اختفى في الصحراء، تاركًا خلفه إرثًا من الألم. تنتهي القصة بعودتهم إلى "الديرة"، المكان الذي هربوا منه منذ البداية، بعدما "تليمتهم" الحصبة جميعًا، وكأن القدر يسخر من كل مُحاولاتهم للهروب من الواقع.
في معاني الأسماء
لكل اسم في الفيلم بُعدٌ رمزي يعكس شخصية صاحبه ودوره في القصة: فهناك "بتال" أي الذي سيبقى طوال حياته بتولًا أسفًا على الحب الضائع. و"نهار"؛ الرجل الذي غابت عنه شمسه وأظلم وجهه حزناً. و"شنار"، الذي هو عنوان الخزي والخيانة المُثقِل على الجميع. أما "ماجد"، فيعني الشامخ المتسامي عن صغائر الآخرين، رغم مآسيه. ثم هناك "سطام"، أي الذي قطع كل الروابط مع أهله، مثلما يقطع السيف. و"عسّاف"، الذي طوّع المستحيل بعزيمته وإصراره. وفي الختام يأتي اسم الجد "ليّام"، أي الجامع لعائلته بيده من جهة، ومُمزقها بقراراته من جهة أخرى.
من خلال هذه الأسماء، يتجلى صراع الإخوة كجوهر درامي للفيلم، حيث ينعكس الصراع الشخصي والجماعي على معاني الأسماء وأفعال الشخصيات.
(3)
التعقيد الفني
رغم أن "هوبال" يعد من أهم الإنتاجات السعودية الأخيرة، إلا أن تشعُّب القصص داخله أضعف تماسك القصة الرئيسية. فالأحداث الجانبية استحوذت على مساحة كبيرة، مما أدى إلى تهميش الحبكة الأساسية وفقدانها الزخم المطلوب. كذلك، عانت الشخصيات المحورية، مثل ليّام، من غياب التأثير المرجو منها في تطور الأحداث، حيث كان لاختفاء الشخصية الأهم وزناً درامياً أقل من المتوقع.
المونولوجات الطويلة أيضًا أثقلت إيقاع الفيلم وأثرت على الديناميكية العامة، مما جعل بعض المشاهد تبدو وكأنها تُكرر نفسها. وبينما أبدع الفيلم في التصوير والإخراج، في جانبه الفني – خصوصًا في إبراز هوية المخرج عبد العزيز الشلاحي كمبدع رائد – إلا أنه عانى من ضعف واضح في المؤثرات البصرية. على سبيل المثال، مشهد العقبان التي تتصارع على جيفة كلب، ومشهد الطائرات، جاءا أقل إقناعاً مقارنة بجماليات التصوير التي قدمت طبيعة الصحراء بشكل ساحر.
الجماليات
أتقن "عز" نقل ما كان في الورق إلى مَشاهد ساحرة، لكل إطارٍ، ولكل إضاءةٍ منها معنًى يتجاوز الجمالية المصاحبة كأثرٍ جانبي، لعل أبرزها أن شنار هو من أَمَّ في صلاة القوم، أي أنه أقرءُ من والده للقرآن، رغم أن والده هو من وضع القواعد، وهو من يبدو بينهم الناسكَ المتعبد الذي يعتزل القوم في كل ارتحالٍ لهم 7 أيامٍ وترا.
وعلى ما يحتويه الفيلم من تعقيدٍ تراجيدي، وصراعٍ مهول شبيه بصراع الإخوة كارامازوف، إلا أن مشاهد عساف وريفة في رحلتهم إلى الديرة، كانت مُتنفسًا طريفًا أزال عنا بعضًا من أعباء الحزن.
وعلى أن سطام هو الوحيد الذي قطعهم وذهب إلى "الديرة"، وكان له من اسمه نصيب، إلا أنه أيضا سيكون هو نفسه من سيقطعهم ويبقى في البادية هاجرًا لهم، حتى بعد عودتهم.
خاتمة
يعتبر هوبال أحد أهم فتوحات السينما السعودية مؤخرا، ويضع عز الشلاحي في مقدمة المخرجين السعوديين بأسلوبٍ وبصمةٍ وهوية خاصة تُميّزه عن جميع أقرانه، كما يضع مفرج في قمة عرش كتاب السيناريو السعوديين بلا منازع، وذلك لقدرته على إيجاد القصص وإجادتها، وليثبت الثنائي مدى نجاعة التركيز على صنع القصص المحلية في الوصول إلى الجمهور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش