1«مَن يقاسمني الجوع والشِّعر والصعلكة/ من يقاسمني نشوة التهلكة؟»
الصعاليك، وواحدها صعلوكٌ، ومنها يتصعلك صعلكة. والصعلوك هو امرؤ أقرب إلى الشرذمة من الناس، عالة على المجتمع، فقير بالضرورة، ضائع، متشرد، لا رجاء منه، ويثير الازدراء. وهذا مفهوم يغلب على الوعي الشعبي لدى القوم. فأن يُنعت الواحد بصعلوك، فذلك أقرب ما يكون إلى السُّبة والهُزء. أما في الوعي الأدبي، فإن الصعلوك هو واحد من الذين انشقوا عن قبائلهم وأخذوا بالإغارة على قوافلهم، وفي الأغلب فُرادى -أو هكذا صورهم قَصص التراث- لو استثنينا «عروة بن الورد». فقراء أيضًا بالضرورة (بديهي، كلُّ مُنشق فقير) مخربون، أناركيون قبل المصطلح عند بعض الآراء الحديثة، ويثيرون الخشية. وفي المجمل، ما بين المفهومين على اختلافهما في الصفات أو فيما تثيره هذه الصفات، فالمتفق عليه في كِلا الحالين أنهم عبء على استقرار الحال الاجتماعية، ولا بد من التخلص منهم.
2«كِلانا إذا ما نالَ شيئًا أفاتَهُ/ ومن يحترث حرثي وحرثك يُهزَلِ»
ثمة، في إسكندرية الثمانينيات، صديقان صعلوكان نتعرف إليهما، في البداية، من خلال عملية نصب صغيرة في مطعم شعبي، على طريقة «كُل واهرب!». الأول «مرسي» يعمل حمّالًا في الميناء، والثاني كما يسميه صاحبه «أبو صلاح» يعمل في بيع تُحف مُقلدة. وما بين المهنتين اللتين لا تؤكلان عيشًا، يدوران في أعمال جانبية من بيع المشروبات الغازية والنصبات الصغيرة كلما استطاعا إلى ذلك سبيلًا. إنهما صعلوكان في الدرك الأسفل من ثمانينيات ما بعد الانفتاح الاقتصادي.
هكذا يبدأ فيلم «الصعاليك»، الصادر عام 1985م، مُناقشًا هَمَّ الثمانينيات المصرية الأرأسَ، من إخراج صاحب سينما الهموم الشخصية -كما سماه بذلك الشاعر علاء خالد في كتابه- وهو باكورة أعماله الروائية الطويلة. فيلم يتناول زمان «البوتيكات» والفرص السانحة لكل ذي يد ولسان، والسوق المفتوحة، ومَن كان أشطرَ كان للغنى أسرعَ. ولك أن تعرّف الأشطر بالأذهَن والأذكى أو بالأدهى والأخبث، فمثلها -مفردة الشاطر- مثل الصعلوك، إلا أنها اتخذت مكانةً أفضل في اللغة (اللهجات) المعاصرة. المهم أن بطلا الفيلم كانا صعلوكين شاطرين ترقّيا من طبقة الكادحين إلى طبقة التجار ورجال الأعمال.
لم تكن الشرارة الأولى لانطلاق بطلينا في طريق الصعود إلى الطبقة العليا، بالشطارة -بأي معنى أحببت- إلا كلمة «صعاليك» التي قالها لهما أفنديٌّ وقور ومحترم، كما يبدو من هيئته، بازدراء. لقد انزعج منهما بسبب خطأ غير مقصود منهما، حيث اصطدم أحدهما به في الشارع، فَشَخَطَ الأفندي عليهما: «صعاليك!»
3«وسائلةٍ أين الرحيلُ وسائلٍ/ ومَن يسألِ الصعلوك أينَ مذاهبُهْ؟»
يستغرب الصديقان من كلمة الأفندي هذه (صعاليك) فيتساءل «مرسي» عن معناها حيث يجيبه صاحبه على بساطته، قائلًا: «مش عارف، يمكن قصده سُعال ديكي؟». إن هذا «السعال الديكي» هو ما يحوّل المرء إلى الشطارة أو الصعلكة. لم يكن للصعاليك القدامى أن يصيروا إلى ما صاروا إليه لولا بيئتهم المحيطة في دفعهم إلى الخروج والانشقاق. وكذا حال المعاصرين منهم في أن يصيروا رجال أعمال ومهربين لولا انفتاح السوق وحال البيئة المحيطة. إنهما -أعني الصعاليك بالمعنيين كليهما- ليسا إلا نتاج المجتمع لا أكثر وفي حرب دؤوب، غير أن الاختلاف في السلاح والأخلاقيات.
يُرى إلى الشطار والعيارين في التراث الإسلامي عادةً، بين الباحثين والمختصين، بنظرة دونية واحتقار، ويعامَلون في الأغلب الأعم معاملة السراق والمخربين، بلا أي نوع من الاحترام، على العكس من صعاليك ما قبل الإسلام، فحتى وإن اختُلِفَ معهم فإن لهم تراثًا من القصص والأشعار مُعتبَر ومُستشهَد به، بل ويُعمل في صناعة دواوين لكبارهم مثل «الشنفرى» الذي تُعتبَر لاميته لاميةً للعرب أجمعين5. والفارق الحق الذي سيجعل من خروج هذا صعلكةً ومن تخريب ذاك شطارةً هو فارق أخلاقي بالأساس. إن خصالًا من قبيل اقتناص الإغارة على الغني دون الفقير، وتوزيع الغنائم على المساكين، وشجاعة الفتك بالكبار، تجعل السارق ذا شرَفٍ في أن يتصعلك. أما خصال كالتي تستوجب التحايل والبلطجة والتسلق على أكتاف التجار الصغار، كالعَلَق، وصولًا إلى تجار أكبر لزيادة الأسعار في السوق المفتوحة، فتلك خصال تضع السارق موضع الشطارة والعيارة لا يعلوهما ولا بالمال. وكأننا، والحال هذه، نساير الدنيا في قوانينها ونقول: «لا بأس بالسرقة. فالعالم حراج كبير، ومن كان ذا حيلة فليحتال!» غير أنها الطريقة لا الطريق.. المذاهب لا الذُّهوب.
6«طافَ يبغي نجوةً/ من هلاكٍ فَهَلَكْ»
كان الأفندي الذي حقّرَ من بطلي الفيلم يرتدي بدلة بيضاء ناصعةً وفخيمةً، وبعدما أدرك «مرسي» و«صلاح» أن ما قاله لهما لا علاقة له بالسعال الديكي، بل هو ضرب من الشتيمة، لم يقبلا على نفسيهما بهذا وقاما بالانتقام منه فورًا. لقد لحقا به وقاما بتلطيخ بدلته البيضاء بالطين حتى اتسخت. لا شيء يُرضي الصعاليك، في العادة، بقدر التلطيخ -رمزيًا- كعملية لتركيع رجل الطبقة العليا (الأفندي، البيه، الباشا.. إلخ) نحو الطبقة الأدنى من خلال وسيط الملابس. إن الأزياء أكثر من مجرد ستر للعورة، ولتاريخه تفاصيل كثيرة منذ ورقة التوت وحتى ممرات استعراض الأزياء ومشية القطة؛ العالم البشري في صورة من صوره الأهم -والأوضح من حيث بروزها للعين أولًا- هو معرض أزياء، فأن ينقل الصعلوك المعاصر وسخ ملابس طبقته -المتأتي من طبيعة الكدح- إلى نظافة ملابس المترفين، هو فعل لا يقل في انتقاميته من إغارة الصعلوك التراثي على قوافل القبيلة.
المتنفذون وسفن الشحن في الثمانينيات استُبدِلوا بالقبيلة والقوافل في الجاهلية. وإذا كانت القبيلة تستمد شجاعتها وقوّتها من المجموع العددي لأفرادها وتعاضدهم تحت رأي رجل واحد، فالمتنفذون يستمدون ذلك من العلاقات والأموال والتحالفات، أما الصعاليك -على اختلاف تواريخهم ومذاهبهم- فيستمدون الشجاعة من أنهم لا يملكون شيئًا يخسرونه. وكما قال جمس بالدوِن: «أخوَفُ ما يخافه المجتمع هو رجل ليس لديه ما يخسره». إنما وقد تبدلت الأحوال وارتقى الصعلوكان -مرسي وصلاح- مراتب الأموال حتى صارا من كبار التجار فقد صارا إلى درك من الجُبن والخشية لأنهما يمتلكان كثيرًا مما يُمكن فقدانه، فلا بد إذن من حامٍ يحميهما. وهذا ما يحدث إذ يعقدون شراكة مع السيد «الدواخلي»، وهو رجل متنفذ وذو علاقات من علية القوم. غير أن الحكاية المعروفة تُعاد مرة أخرى هنا، أعني حكاية «حاميها حراميها». ينقلب «الدواخلي» على شريكيه «مرسي» و«صلاح» ويورطهما في تهمة جنائية. يقف «مرسي» بإزاء هذا مكتوف اليدين، ويقرر عدم المقاومة ومحاولة استرضاء الرجل الكبير. أما «صلاح» فما زال الصعلوك القديم حيًا بداخله ولا يقبل أن يسكت على «السعال الديكي» مهما يكن من عواقب، فيقرر المقاومة على طريقة «عليَّ وعلى أعدائي». وهنا مفترقٌ بين الصديقين؛ إنهما غير قادرين على تحويط «الدواخلي» وتلطيخه بالطين كما فعلا مع الأفندي سابقًا، ولا هما اللذين اتفقا على الخنوع والتسليم.. مفترق لا يقل شناعة عن مفترق قابيل وهابيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1.محمد الثبيتي.
2.تأبط شرًّا. في الأصل قالها الشاعر للذئب، ولنفترض في سياقنا هنا أنها قيلت بين بطلي الفيلم، جدلًا.
3.داوود عبدالسيد سينما الهموم الشخصية-علاء خالد- دار المرايا.
4.تأبط شرًّا.
5.بصرف النظر عما إذا كانت القصيدة منحولة أو من صنع الوراقين، كما في بعض الآراء.
6.السلكة أم السليك، في رثاء ابنها بعد مقتله.