«هذه قصة حقيقية».
في عام 1996 افتتح الأخوان كوين تحفتهم السينمائية «فارغو» بهذه الافتتاحية. يكذب الأخوان كوين علينا كذبة بيضاء عندما يخبراننا أن هذا الفيلم مبني على أحداث حقيقية وتم تغيير الأسماء احترامًا للضحايا وذويهم.
فكرة أن ما تشاهده حدثَ بالفعل، وأن هذه الحكاية وظروفها وملابساتها مر بها أناس حقيقيون، كافيةٌ لجذب انتباهك. ما بالك إذا أضفنا أن هناك ضحايا؟ هنا تتأهب وتجلس على حافة مقعدك، يستعد عقلك لتلقّي مشاعر الحزن والفقد والتعاطف وما يصاحبها من شغف في معرفة النهاية التي تتمنى أن تُغلَّف بانتصار العدالة، كل هذا قبل أن تعرف تفاصيل القصة وأبطالها. تريد أن تنتصر العدالة من داخل أعماقك، فأكثر ما يغضبنا -نحن المشاهدين- أن نشاهد جريمة على الشاشة الكبيرة لنعرف في النهاية أن المجرم ما زال حرًا طليقًا يعيش بيننا، بل ربما يجلس على الكرسي المجاور لنا في السينما.
يقول إيثان كوين لهافينغتون بوست:
«أردنا أن نصنع فيلمًا من النوع الفيلمي "قصة حقيقية". ليس من الضروري أن يكون لديك قصة حقيقية لتصنع فيلم "قصة حقيقية"».
ما حدث في «فارغو» لم يكن قصة حقيقية كما نعهدها، بل هي نصف الحقيقة أو ربما أقل. لقد جمعا قصتين مختلفتين ومزجاهما في قالب يغلب عليه دومينو من سوء الحظ، حيث كل حدث يثمر عن وقوع مأساة لشخص آخر لم يكن من المخطط له أن يكون في عملية الاختطاف من البداية ولا يقدر جيري لوندجارد المدبر لعملية اختطاف زوجته أن يوقف الخطة قبل إسقاط آخر قطعة وحلول الكارثة.
إن هذه العبارة وما تحمله من قوة جعلت «نواه هولي» يستكمل ما فعله الأخوان كوين في مسلسله «فارغو» الذي استوحى موسمه الأول من فيلمهما وتقاطعت بعض أحداث المسلسل مع الفيلم، وذلك بكتابة هذه العبارة التي ظهرت قبل كل حلقة، حتى مع ظهور طبق طائر في إحدى الحلقات! وهذا ما جعلني أبحث عن حقيقة الأحداث لأجد أن كل هذا لم يحدث حقيقة وهو ما أدى إلى معرفتي بكذبة الأخوين كوين والتي غفرتُها لهما فيما بعد.
كل هذا يدل على مدى تأثير هذه العبارة في النفس، فهي تجعل المشاهد يتقبل ما يحدث مهما شاهد من صُدف وغرائب، وحتى لو امتلأت حياة المتلقي بمئات الأحداث والصدف، فإنه عندما يجلس ويُرجِع رأسه إلى الوراء ليشاهد فيلمًا، يحتاج إلى أن يكون التسلسل المنطقي حاضرًا بأبهى صوره، وأحيانًا عند نقل بعض الأحداث التي وقعت بالفعل، ولكن لا نعرف بالضرورة دوافع أصحابها، يظل المشاهد يحتاج إلى تبريرات وتفاسير لما حدث، وكأنه لا يتقبل أنه من الممكن أن تنتهي حياته في مشهد عبثي من دون أي مبرر أو دافع.
ولكن هل تكفي قوة القصة أو الأمانة الشديدة في نقلها لصناعة فيلم سينمائي متميز؟ سنستعرض هنا ثلاثة نماذج لأفلام مختلفة نقلت قصة حدثت بالفعل إلى عالم السينما، نجحت كل منها في نقل القصة والأحداث بدرجات متفاوتة، ولكن هل نجحت جميعها في صناعة فيلم جيد؟
تحفة سينمائية خالدة
عندما خرجتُ من صالة السينما لفيلم Oppenheimer «أوبنهايمر»، أول ما جال في خاطري هو فيلم The Social Network «الشبكة الاجتماعية»، فـ«أوبنهايمر» هو المعادل لمحاولة صناعة الأكلة التي اعتدتَ تناولها من يد والدتك، ولكن شتان الفارق بين النتيجتين. التشابه واضح، الشخص المهووس بعمله وتحقيق إنجاز شخصي من الممكن في سبيله أن يدمر أي شيء، حتى حياته الشخصية نفسها، بالإضافة إلى السرد غير الخطي على ثلاثة خطوط زمنية، وجلسات المحاكمة التي تشبه جلسات التسوية القانونية.
وبعيدًا عن أن فينشر صانع أفلام متمكن من أدواته أكثر بكثير من صانع أفلام متميز مثل نولان، ولكن الفارق الجوهري هو النص المكتوب من قِبَل آرون سوركين. في الواقع نولان يثبت مع تجربة تلو الأخرى أنه كاتب سيناريو ضعيف. تعاونه مع أخيه جوناثان نولان يغطّي قليلًا على ضعف نصوصه، التي تختبئ خلف قوة الحبكة وإثارتها من دون أن تحمل بناءَ شخصيات مميز أو حواراتٍ ذكية أو شيئًا أعمق مما هو على السطح، ولكن أكثر ما يعيب نصوص نولان هو عدم قدرته على صنع مشهد كافتتاحية «الشبكة الاجتماعية»؛ نولان إذا أراد أن يعبّر عما يدور بداخل شخصياته جعلهم يخبرونك صراحةً بذلك، أو في مشهد يصارح أحد الشخصيات الآخر بحقيقة، على عكس سوركين الذي يصنع درسًا في كيفية كتابة مشهد يلخص الفيلم كله من البداية إلى النهاية في الافتتاحية.
ورغم تألق كافة عناصر الفيلم فإن سوركين هو رجل العمل الأول. جميع مشاهد الفيلم خلابة. بإمكانك اقتباس عشرات العبارات من الفيلم لتصبح عبارات رائجة تستخدمها في حياتك بسهولة. كل هذا قَدِم من دون إقحام أو افتعال وبانسيابية بالغة.
ولأنه كاتب من الطراز الرفيع، يستطيع تقديم شخصياته بطريقة مبتكرة تجعلك تعرف كثيرًا عن حياتهم وعن ذواتهم من دون مباشرة. مشهد تقديم التوأمين وينكليفوس ومشهد تقديم شون باركر خير مثالين على عبقريته.
دراسة شخصية سينمائية بامتياز
مارك، رغم عبقريته الجلية، لا يملك أي ثقة بنفسه ويحاول تعويض ذلك إما بأن يكون متعجرفًا أكثر، عن طريق التقليل من الآخر ومما يفعل، فيكتسب حينها بعض الثقة المزيفة، أو عن طريق استعراض مهارات ذكائه وقدراته محاولًا إبهار الآخر، متغافلًا عن أنه عندما تجلس مع شخص على طاولة فإن أهم شيء أن تُظهر له كم أنت لطيف وودود وكمّ الحب والإعجاب الذي تُكِنّه له ولحياته، فلا يكترث أحد لمقدار ذكائك الحاد وهو يحتسي البيرة منتظرًا الطعام!
يقلل من تعليم صديقته لأنها ترتاد جامعة بوسطن، ويقلل من انضمام إدواردو لنادي فينكس، ويخبره بأن انضمامه إليهم بسبب رغبتهم في التنوع لا أكثر، ويقلل من أعضاء النادي أنفسهم بالسخرية من الأسماء التي استخدموها في بريدهم الجامعي، وفي محاولة للتقليل من الفتيات ينشئ موقع «فيسماش» Facemash، فإذا لم تروني أستحق التقدير سأجعلكم كلكم محط سخرية وأحوِّلكم إلى مجموعة من الصور بلا قيمة. دافعه دائمًا هو الرغبة في أن يثبت للجميع أنه الأفضل رغم أن أحدًا لم يطلب منه ذلك، ظنًا منه أنه عندما يصبح كذلك سيصير محبوبًا.
أفضل أعمال فينشر
على المستوى الإخراجي، فينشر في أبهى صوره؛ هو ضابط الإيقاع الأمهر. هذا أفضل منتَج إخراجي له بكل تأكيد. لم أرَ فينشر يحافظ على إيقاع فيلم بهذا التماسك، بل هو واحد من أفضل الأفلام في الحفاظ على إيقاع متوازن منذ اللحظة الأولى حتى مشهد النهاية. هو مَلِكُ الدقة المتناهية، فقد صوّر المشهد الافتتاحي في تسع وتسعين لقطة واستغرق المحررين ثلاثة أسابيع كاملة من أجل تحرير هذا المشهد فقط.
ينتقل في هذا المشهد بين اللقطات المتوسطة واللقطات من خلف الكتف (Over The Shoulder Shot)، بناء على حدة الحوار، فيتصاعد الحوار بين مارك وإريكا بين الحين والآخر، وتحاول هي التهدئة وإيضاح أنها لا تقصد الإهانة عندما يُفعّل هو آليات الدفاع عن النفس خاصته بالتقليل منها ومن حياتها. يفعل فينشر كل ذلك بالتبديل بين نوع اللقطات بدقة متناهية في عمل مونتاجي أقل ما يقال عنه إنه عظيم. استحق الثنائي أنجوس وول وكيرك باكستر جائزة الأوسكار عن أفضل مونتاج، كما حصداها مرة أخرى معًا في فيلم آخر لفينشر وهو «الفتاة ذات وشم التنين» (2011) The Girl with the Dragon Tattoo.
فينشر يعرف قيمة الكاميرا وزواياها ويستخدمها جيدًا لنقل المشاعر التي تمر بها الشخصيات والحالة العامة للمشهد، فبعد أن يتعرض إدواردو للخيانة ينقلنا فينشر إلى جلسات التسوية، ولكن يبدأ الكادر من أسفل الطاولة مُجسدًا حالة الخسة والغدر الذي تعرض إليه إدواردو، وعندما يعرف إدواردو بالخيانة يبدأ فينشر اللقطة المطولة من الأرض وإدواردو يدعس على كلمة فيسبوك فلم يعد لديه شيء هنا والآن أصبح مارك عدوه. تفاصيل بسيطة، ولكنها تؤكد على أن السينما وسيط بصري بالأساس وأن الإجابة على سؤال كيف تضع الكاميرا وتحركها هو ما يفرق بين مخرج وآخر. كل هذا العمل مُغلَّف في صورة فخمة من قِبَل المصور السينمائي جيف كرونينويث دائم التعاون مع فينشر.
هل كل هذا حدث بالفعل؟
يقول سوركين في حواره مع مجلة «نيويورك»:
«عندما تكتب عملًا غير خيالي، فإن السؤال الذي تتصارع معه دائمًا، وخاصة عندما تكتب عن أشخاص ما زالوا على قيد الحياة هو، من ناحية أنت لا تريد العبث بحياة الناس، ولا تريد أبدًا أن تقول أي شيء غير صحيح، ولا تريد العبث بالتاريخ. ومن ناحية أخرى، هذا ليس فيلمًا وثائقًيا... هناك مجموعة من الحقائق التي أتعامل معها، وأحاول أن أتخيل الدوافع وأملأ الفراغات التي لا يستطيع أحد منا رؤيتها... هذا ليس الفيلم الذي يخبرك أن "مارك زوكربيرغ سرق فيسبوك"، أو أنه لم يفعل. ولكن بالتأكيد مثل هذه الأمور نحب أن نتحدث عنها في موقف السيارات».
ولذلك فإن الإجابة عن سؤال «هل كل هذا حقيقي أم لا؟» في الواقع لا تهم. بإمكاني البحث عن المعلومات والحقائق في الكتب أو الأفلام الوثائقية، ولكن لن أجد حكاية تجسد مشاعر حقيقية لشخص تَمَلّكه الهوس بالنجاح من أجل أن يثبت للجميع أنه الأفضل وليصبح محط الأنظار ويصبح الشخص الذي يرغب الجميع في التودد إليه والحصول على حبه، لشخص فقد حب وصداقة حتى أقرب الناس إليه، ليتحول إلى شخص منعزل أكثر وأكثر مما كان، يجلس على كرسيه يُحدّث صفحة صديقته السابقة على الفيسبوك كل ثانية آملًا أن تقبل صداقته مجددًا.
هذا لا يعني أن ننكر أحداث حدثت أو أن نغير من الواقع كليًا، ولكن لا مانع من اختلاق مشاهد في الحياة اليومية، فبالطبع لم يكن أحد يسترق السمع أو النظر إلى الشخصيات في غرفهم، ولكن هذه المشاهد قادرة على أن تكون أدق تعبير عن الشخصيات وما تحمله بداخلها وعن جوهر الفيلم في مجمله، وأن تقدم لنا في النهاية وجبة سينمائية دسمة قابلة للمشاهدة مئات المرات، وأن تخلق لك حكاية من الممكن أن تتقاطع مع خطوط حياتك رغم اختلاف الوقائع والأحداث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش