أوراق سينمائية

ما المدرسة السّينمائية؟ ما الحركة؟ في تأصيل المفاهيم

يمثل التصنيف آلية مدرسية يعتمدها النقد لرصد الظواهر الفنية وضبط مساراتها ودلالتها. ومن خلاله يتمّ تحديد الأنماط الكبرى وتفريعاتها وأجناسها. أما تاريخها فيُضبط من خلال استيعاب حركيتها وما ينشأ بينها من انقطاعات وتقاطعات، فقد اتفق السينمائيون عبر تاريخ هذا الفنّ على قصره، حول رؤى مشتركة للممارسة السينمائية أو اختلفوا ونشأ بينهم الجدل لتباعد تصوّراتهم الفكرية والجمالية أو لتباين منطلقاتهم الحضارية. ودرج النقّاد على الإشارة إلى تجمعاتهم هذه بمصطلحي «مدرسة» أو «حركة». ولا شكّ أنّ السؤال يُطرح خاصّة حول وجوه الاختلاف بين الاستعمالَين وعمّا يميزهما عن المفاهيم المجاورة التي يُشار إليها عادة بـ«التيار» أو «الموجة» أو «المذهب».
دأب نقّاد السّينما على استعمال مفهوم «المدرسة» على نحو مطمئنٍّ للإشارة إلى أنماط مختلفة من الإبداع السينمائي نحو تعيينهم لـ«لمدرسة البريطانيّة» أو «المدرسة الإيطالية» أو «مدرسة ممثّل الاستوديو»، دون الوقوف عند ما يميّز  هذا الاستعمال عن مفهوم الحركة الذي يُعتمد عند الإشارة إلى السّينما السرية وسينما الدوغما أو عن مفهوم التّيار السّينمائي كالسّينما الواقعيّة أو التّجريبيّة أو السّينما التعبيرية. وتكاد المعاجم والمؤلفات السّينمائيّة المختصّة تتواطأ في السكوت على تحديد هذا المفهوم فتذكره دون محاولة توسّع أو تدقيق. ومن التعريفات القليلة التي صادفناها لمفهوم «مدرسة» ما يورده معجم لاروس الموسوعي، فيذكر ما يلي:
«مجموعة من المنتمين إلى عقيدة فلسفيّة أو أدبيّة أو فنيّة...
مجموعة من الفنانين المنتمين إلى بلد بعينه أو نزعة إلخ.. من ذلك المدرسة الإيطاليّة أو المدرسة الانطباعيّة»1.
ولا يخلو هذا التعريف من تعميم ومن إشكال لمطابقته بين الانطباعية بما هي قواعد توجيهية للإبداع الفني ظهرت في الفنون التشكيلية خاصّة وتُصنّف عادةً ضمن التيارات أو المذاهب الفنية، والمدرسة الإيطالية التي ظهرت لمّا حاول سينمائيو إيطاليا التكيّف مع ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية، فابتكروا أسلوبًا خاصًا يكفل لهم مواصلة الإبداع السينمائي في ظل انهيار «نظام الاستوديو» بعد أن دمّر الحلفاء بنيته الأساسية ردًّا على استخدام موسيليني للسينما في دعايته السياسية.
انتهى بنا تقصّي الوجوه المختلفة لاستعمال مصطلح «المدرسة» في سياقاتها المتعدّدة إلى تعبيره عن وجود روابط جمالية أو موضوعية قوية بين ممارسات السينمائيين الإبداعية أو توجهاتهم الفكرية. وتُحدّد هذه الرّوابط وفق مجموعة من المعايير المتفاعلة منها معيار القرب الزمني أو التقارب في شكل الممارسة الفنية التي يضبطها أساس نظري يحدد القواعد أو الأهداف ويتمّ التعبير عنه في شكل بيان أو نص ذي قيمة تأسيسية. وغالبًا ما يمثّل المدرسة زعيم رمزي يحاول ضبط القواعد التوجيهية حتّى يوحّد الممارسة السينمائية لدى أتباعه.
وقد يختلف في المدرسة الواحدة الزعماء والمنظِّرون وينشأ بينهم تنافس عنيف كذلك الذي حكم العلاقة بين دزيغا فرتوف وسيرغي إزنشتاين رائدي المدرسة السوفييتية. واتخذ الخلاف بينهما عناوين مختلفة منها ضرورة اعتماد السيناريو من عدمه أو حظ الفيلم من السرد أو الشّعر. وللمدرسة أن تجمع بين مبدعين من البلد نفسه، فنتحدّث عن المدرسة السوفييتية والمدرسة البريطانية والمدرسة الإيطالية والمدرسة الكندية أو بين مبدعين يتقاربون في اتجاهاتهم الفكرية أو الجمالية وإن باعدت بينهم الجغرافيا أو الخلفيات الحضارية والتاريخية مثل ما يجمع بين المنتسبين إلى سينما المؤلف.
تُعدّ السينما الهندية المعروفة بالعبارة «بوليوود»2  أكبر المدارس السينمائية في العالم3، فهي تنتج اليوم -فضلًا عن الأفلام الوثائقية- نحو ألف فيلم روائي طويل سنويًا، وتبيع حوالي 800 مليون بطاقة لأفلامها. أما على المستوى المالي، فزيادةً على خلقها للنجوم الكُثّر، فهي تمثل مصدر الدخل الرئيس لنحو عشرة ملايين مواطن في الهند فحسب.
للسينما البوليوودية عناصر جامعة تخترق مختلف أفلامها، فتقرّب بينها وتمنحها هوية خاصة، أهمها صدورها عن قصص شيقة تأخذ المتفرّج إلى عوالم الخيال وتدفعه إلى الحلم بحياة أخرى، مثالية غالبًا، وتعويلها على أبطال نموذجيين، ويكون العشق الجارف المتمرّد على الأعراف البالية مدارها، فيعشق شابٌ فقيرٌ فتاةً من الطبقة الراقية (أو العكس)، ولكنّ التباين الاجتماعي يشكّل الحاجز الأساسي الذي يحول دون تتويج هذا العشق بزواج مستقرّ. وكما في السينما الاستهلاكية عامةً يكون الحبيبان على نصيب وافر من الجمال واللطف، ويتمتّع الفتى بقدرات جسدية خارقة تخوّل له أن يتجاوز أعتى المصاعب، وتكون النهاية مؤثرةً، سعيدةً غالبًا، حزينةً محبطةً أحيانًا، ولكنها تظل مفروضة على مساق القص فرضًا، متماشية مع النزعة الميلودرامية التي تحفّز مشاعر المتفرّج للتعاطف مع البطلين. وتتطوّر القصة غالبًا دون أن تطرح قضايا المجتمع الشائكة لحرصها على أن تكون الفرجة متعة محضًا.
ومن مصادر الإمتاع في هذه الأفلام الاستعراض، فالسينما البوليوودية استعراضية بالأساس عمادها الغناء والرّقص، وأشهر ممثليها من المغنين الرّاقصين، فتكون أغانيها شجيّة معبّرة عن عواطف الحبيبين الملتهبة ويصاحبها إيقاع سريع ينسجم مع الاستعراضات الشيقة ومهرجان ألوان الملابس. ومن هنا مأتى انجذاب عشّاقها إليها.
ومن هذه العناصر الجامعة ما يَلحقها من قدح من قِبَل مناوئيها، فكثيرًا ما يشار إليها بشيء من الاستهجان، على أنها أفلام الخمس عشرة أغنية والثلاث ساعات4. ويُسخر من جوقة الراقصين الذين يظهرون فجأة ليؤدوا رقصات منعشة منسجمة على أنغام موسيقى جاهزة لا نعرف مصدرها، وهي الاحترازات نفسها التي يبديها النّقد الواقعي تجاه السينما الاستعراضية في الولايات المتّحدة الأمريكية، موطن نشأتها، أو في مصر، في الثلث الثّاني من القرن الماضي خاصةً، أو في سينما إيران ما قبل الثورة. وحجة أنصارها أنّ هذه السينما نمط خاصّ يقتضي تعاونًا من المتفرّج ليسلّم بما يفارق منطق الأشياء في الواقع، فهي في النهاية خيال بديل يلوذ به المتفرج من الواقع المقرف.
تفيد عبارة «حركة» تحوُّل الأجسام في الفضاء، ضمن بُعد زمني معيّن، ومن هذا البُعد المعجمي استمدّت دلالتها على مستوى الاصطلاح السينمائي، فأفادت انخراط مخرج ما ضمن نهج إبداعي أو ضمن وفاق تَجْمَع بين أفراده صلاتٌ واعية تهدف إلى تطوير الممارسة السينمائية ودفعها إلى آفاق بعينها. ورغم ما يجمع بينهم من القيم الجمالية أو الأيديولوجية، فإنهم لا يستندون إلى نص أو بيان يضبط قواعد الإنشاء أو ينمطه. وتظلّ تطلّعاتهم محدودة مقارنة بما يُحقّق في المدارس. من أبرز الحركات السينمائية حركة سينما الدّغمائية في الدّنمارك وما أرسته من قواعد اصطلحت عليها بقواعد العفّة5، أو حركة الموجة الجديدة في فرنسا التي عملت على تخليص السّينما من شوائب الاستهلاك والارتقاء بها إلى مصافّ العمل الفني الحقيقي، أو حركة السّينما السريّة التي نشأت في نيويورك وفي المدن الساحلية الكبرى بولاية كاليفورنيا الأمريكيّة وعملت على تقريب الفن السّينمائيّ من الوسائط التّقنيّة والمادية المتداولة كالإسطوانة وديوان الشّعر لمقاومة احتكاره من قِبَل مؤسسات الإنتاج الكبرى ولنشره في النّوادي والجامعات6.
تشترك «الحركة» مع «المدرسة» في جملة من الخصائص منها تعيين مدونة لفترة معينة أو اتجاه جمالي، وكثيرًا ما يتداخل المفهومان، فنستعمل «المدرسة» بما يفيد الحركة والعكس. ولكن عامّةً يُعدّ مفهوم المدرسة السّينمائيّة أوسع من مفهوم الحركة أو الجنس أو التيار أو المذهب، فيسمح له اتّساعه هذا أن يجمع بين الوثائقيّ والتّخييليّ أو بين الواقعيّ والتّجريبيّ، ويمكن تحديده بكونه نزعة تشمل الخصائص الشّكليّة بما فيها من أبعاد أسلوبيّة أو تقنيّة كما تشمل الخصائص المضمونيّة. ولعلّ العنصر الفارق أن يتمثّل في التمدرس نفسه، فمن المدرسة وحدها تتخرّج أجيال من السينمائيين، وفيها وحدها تتراكم تجارب الأفراد والجماعات فيمكّنها شمولها هذا من أن تجمع أعمالًا متناقضة داخل الأفق الواحد مثل جمع المدرسة الإيطاليّة بين بازوليني وبانيني على ما بينهما من اختلاف عميق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.Larousse dictionnaire encyclopédique 1994 Volume I وهو التعريف نفسه الذي يعتمده Le petit Larousse: grand forma 1996.
2.الكلمة نحت من كلمتي بومباي، اسم عاصمة الترفيه في الهند مدينة مومباي، حتى 1995، وهوليوود، مركز صناعة الأفلام الأمريكية، وفيه تعبير عن جعل صناعة السينما هناك من نمط الإنتاج السينمائي الأمريكي أنموذجًا يحتذى.
3.لا نقصد قيمة الإيرادات طبعًا، فسينما هوليوود لا تضاهى في هذا المستوى.
4.معدّل مدّة الفيلم الطويل عامّةً ساعة ونصف.
5.سعت هذه الحركة إلى الاختلاف عن الاتجاهات السّينمائيّة السائدة عبر ما اصطلحت عليه بقواعد العفة، من أهمها أن يتم التصوير في
موقع الحدث دون ديكورات اصطناعية أو مؤثرات بصريّة أو مرشحات ضوئيّة (filtres) وأن تكون الكاميرا محمولة باليد لأن مكان
وقوع الحدث هو الذي يحدّد وضع الكاميرا لا العكس... لمزيد من التّوسع انظر: إيمان عاطف، سينما الدّوجما، أكاديميّة الفنون، سلسلة
دفاتر الأكاديميّة (سينما) ط 1، القاهرة، 2005 خاصة ص 40، 41.
6.روبير لافون: السّينما المعاصرة، قضايا الساعة، ترجمة موسى بدوي، مطابع الأهرام التجارية، القاهرة، ص 134.
د. أحمد القاسمي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا