أوراق سينمائية

ما الدراما؟ ما الميلودراما؟ في رحلة المفهومين من المسرح إلى السينما

تنقسم الدراما الإغريقية إلى أقسام ثلاثة هي التراجيديا والكوميديا والمسرحية الساتيرية1. ويختزل إبراهيم محمود حمدي الإشارات المتباعدة التي أوردها أرسطو لتعريفها في كتابه «فن الشعر»2 بقوله: «الدراما drama كلمة إغريقية قديمة يرجع اشتقاقها اللغوي إلى الفعل dran الذي كان يعني عند الإغريق "الفعل"، أو التصرف أو السلوك الإنساني بوجه خاص (..) ولكن الإغريق لم يختاروا للاستخدام سوى كلمة (الفعل dran) بعينها للدلالة على كل الفنون المتعلقة بالمسرح، حيث تتم المحاكاة عن طريق التمثيل»3. أما اليوم فقد باتت تُستعمل في الحقول الفنية على نطاق واسع بعد أن اكتسبت دلالات جديدة عبر العصور، طوّرت من مفهومها الأصلي متفاعلة مع ما اُكتشف من الوسائط الجديدة، فأضحت تشير بخاصّةٍ إلى فنون القصّ التي تعوّل على التمثيل في خلق حكاياتها وتعرض على الرّكح أو تجسَّد في السينما أو الإذاعة أو التليفزيون. ويكاد المعجم الفرنسي يقتصر في استعمالها مستواها التراجيدي فحسب. لذلك، سرى فهم محرّف في الاستعمال اليومي عند الفرنسيين ومنه تسلل إلى بعض الاستعمالات العربية، يقرن الدرامي بالمأساوي ويجعله مرادفًا له. اتُخذت من الدراما المواقف المتباينة، فذهب بعضهم إلى أنها تظل، على اختلاف أنماطها ودرجة الخيال فيها، من الأشكال الرمزية التي ينقل المبدع أفكاره حول واقعه وتصوّراته لمشكلاته الاقتصادية والدينية والسياسية بواسطتها إلى المتقبل، وينظر بعضهم الآخر إليها أحيانًا نظرة سلبية فيجدها من وسائل التأثير في الجماهير والتلاعب بالعقول4.
يتبنى المتفرّج زاوية الإبصار التي يفرضها عليه موقعه في المسرح أو يقترحها عليه تنوّع المَشاهد وسلّم اللقطات وزوايا التّصوير في الفيلم. ورغم خموله والتصاقه بكرسيه يكتسب وجودًا افتراضيًا داخل العرض ينقله من فضاء من أفضية الحكاية إلى آخر. ولعلّ ردّة فعل متفرّجي سينما البدايات في فيلم «وصول القطار» (L’Arrivée d’un Train) للأخوين لوميار أن تشرح فكرة اسكينازي جيّدًا، فقد أصيبوا بالهلع وفروا من مقاعدهم لمّا كانت اللقطة تعرض قاطرة تفد من عمق المجال وتتجه إلى الأمام صوب الكاميرا، ظنًا منهم أنهم سيُدهسون تحت عجلاتها، ففي تلك اللحظة تقاطع وجودهم الواقعي في قاعة العرض بوجودهم على سكة الحديد، الافتراضي والمتخيّل5.
ولا يتسرّب المتفرّج من موطن إدراكه في قاعة العرض ليحلّ افتراضيًا في مواقع التمثيل إلاّ ليدرك غيريّة في ذاته مأتاها تمثّله للحكاية من وجهة نظر شخص آخر هو مخرج الفيلم أو شخصية من شخصياته6، فيجادلها من منطلق معيشه وخبراته ومواقفه من الوجود ومن منطلق انفعالاته وأحلامه أيضًا، فالمتفرج لا يستدعي المتخيّل إلا وهو ذات متجذّرة في كيان جماعيّ له خصوصياته الثّقافيّة والحضاريّة في آنٍ واحد. ومن هذه الحقيقة يجد أندريان باكي في الفرجة ما يفتح على الهم الاجتماعي الخامل عادة، ويصعد به إلى السطح عبر ضرب من الإسقاط والتّوسعة والمبالغة بحيث نعيد، عبر انفتاح الشّاشة على عوالم المتخيّل، التفكير في حيواتنا باعتبارنا أفرادًا من المجموعة، «وعبر استدعاء القصص يمكّن السّينمائيون المجتمع من إعادة ضبط ممارساته اليوميّة مع المثاليّ»7.
ولا يُنظر إلى الدراما دائمًا بهذا المنظور الإيجابي، فالترابط العضوي بين أحداثها والتشويق لمعرفة النهاية يورط المتفرج في الأثر وفق بريشت، فيستنفد نشاطه الفكري في حل العُقد وفي التعاطي مع الأحداث على اعتبارها وقائع، فيتعاطف معها بدلًا من أن يضعها في سياقها بما هي تجسيد لمواقف تتطلب منه فَهْم خلفياتها أولًا ومجادلتها ثانيًا. وحتى يتجاوز ما رآه مصدرًا للاستلاب في العروض ابتكر الشكل الملحمي، وقُدّر مضادًا للشكل الدرامي مقاومًا لاندماج المتقبّل في الأثر عاطفيًا، وجعل تهميش الحبكة التقليدية أساسه، فـ«يجب أن تترابط الأحداث ولكن تبقى الحلقات بارزة بجلاء، بما أنه لا يطلب من الجمهور الغوص في الحكاية كما في جدول ليلقي به هنا أو هناك حسب رغبة التّيّار. ولا يجب أن تتعاقب بشكل خفيّ. [بل] ينبغي أن يظلّ المتفرّج قادرًا على الحكم على الأشياء في الفاصل.. إذن فمن المناسب أن تتضاد مختلف عناصر الحكاية بعناية فنمنحها بنية خاصّة، بنية الأثر داخل الأثر»8. وتبنّى قولة شيلر الدّاعية إلى تحرير فكره بالحدّ من اندماجه في الأثر، ويقتبس تصوّره حول علاقة المتقبّل بالأثر متبنّيًا مضمونها، فيجعله أساس إخراجه من لجّ العمل الفنّي ليراقبه بهدوء وروية بدل الانغماس فيه عاطفيًا واصطلح عليه بمفهوم التّبعيد. يقول شيلر: «يعرض العمل الدرامي أمامي ولكني أنا من يحيط بالحركة الملحمية التي تبدو بشكل ما ثابتة. وهذا الاختلاف في رأيي على قدر كبير من الأهميّة. فإذا ما كان الحدث يدور أمامي، أكون سجين حضوره، ويفقد خيالي كل حرّية. فينتابني اضطراب مستمرّ يجعلني دائمًا أسيرًا للأشياء إن لم أتخلّص منه»9.
ومن طرائق تهميش الحبكة عند بريشت تهشيم زمنها ومقاومة خطيّة الحكاية والعمل على تشذيرها بإدراج موارد جديدة للكتابة، من تاريخ وحكايات شعبيّة وعروض بهلوانية وسيرك ورقص، فإنسان القرن العشرين يعيش حالة من الاغتراب. وليست الدراما سوى ردّةِ فعل سلبيّة يلجأ إليها حتى يتعايش مع وضعيته وضربٍ من الاستسلام إلى الوهم وخداع النفس. ولذلك أيضًا عمل على تغريب الأثر وعلى نزع القناع عن الحقيقة وتقديمها عارية من خلال تحليل متناقضات النظام الرأسمالي المسؤول عن هذه الحالة، وفق تقديره، حتى يجعل المجتمع يدرك قضاياه ويعي أسبابها العميقة ويسعى إلى معالجتها وتجاوزها. والتّغريب وتهميش الحبكة تقنيتان من تقنيات التّبعيد. والتّبعيد في تصوّر بريشت الجمالي أسلوب في الإنشاء يعصم المتقبّل من أن يغوص في الأثر وجدانيًا إلا بمقدار حتى يكون قادرًا على اتخاذ الموقف الواعي منه ومن واقعه بالنتيجة بدل الانفعال به.
تعرضت الدراما عند كُتّاب تعاملوا مع قوانينها الصّارمة بتراخٍ، إلى تحوّل جذري قطع مع أغلب أصولها. ولعلّ مسرحية «بجماليون» -التي أعاد جون جاك روسو اقتباسها من المسرح الإغريقي عام 1770 لتنتشر لاحقًا في كامل أنحاء أوروبا- أن تمثّل التحوّل العميق الذي وصل حد الانفصال وإنشاء جنس جديد، فقد وصفها جون فرونسوا دي هارب بقوله: «هذا العمل العجيب، ليس سوى مناجاة طويلة مليئة بالخطابة والميتافيزيقا، وموضوعه هذيان متواصل ينتهي بمعجزة، وهذا الهذيان بارد، فمن يستطيع أن يهتم بشغف تمثال؟»10. ثم أطلق النقد على هذا الجنس تسمية الميلودراما بعد أن ضبط أهم سماته، وعُرّف بأنه نوع مسرحي شعبي يظهر خاصّة في الأزمات، وأن معالمه اتضحت خلال الثورة الفرنسية11، وغلبت على استخدامه النزعة التحقيرية، فهو يشير إلى عمل يحتوي على حبكة غير محتملة التحقّق ونمطية تجعل المتفرّج قادرًا على التنبؤ بمآلات أحداثها، وتوظّف مؤثرات عاطفية مسقطة، وكثيرًا ما تستهين بعلم النفس أو قواعد الاجتماع، فكان العمل المسرحي يصاغ وفق حبكة رومانسية وتضاف إليه خلفية موسيقية تحمل كثيرًا من الشجن الذي يستهدف التأثير في تقبّل المتفرّج وتوجيهه نحو معنى الألم والمعاناة. ثم أصبح يمثل عرضًا ذا زحم عاطفي يشبع مادة العرض بالتعبيرات العاطفية والشعورية والمتخيلة. والمصطلح «ميلودراما» الذي ظهر في بداية القرن التاسع عشر كلمةٌ إغريقية في الأصل منحوتة من كلمتين، الأولى «ميلو» MELOS وتعني نغم أو أغنية، والثانية دراما التي عرضنا تعريفها أعلاه.
من البديهي أن مؤسسات الإنتاج التي لا ترى في السينما غير استثمار وربح ستسحب قوانين الميلودراما على الأعمال السينمائية وستحاول توظيفها لاستدراج الفئات الشعبية إلى قاعات العروض، فسريعًا ما ظهرت أفلام تركز على العاطفي، ليتناوب فيها المحزن والمفرح على نحو عنيف، ولم تكن تنفكّ عن تأجيج مشاعر المتفرّج من خلال المؤثرات الموسيقية وتحاول أن تقوده نحو ذروة الاستثارة والتّفاعل، فتوظّف في سبيل ذلك الحبكات غير المعقولة والمواقف المتعارضة وتلاعب وجدانه فتوهمه بأنّ الطّرف الشرير سينتصر، ثم يؤول الصراع، بتدخُّل الصّدفة أو القدر، إلى الطّرف الخيّر، فتمثل الشخصيات وظائف أو أفكارًا متعارضة أكثر من كونها أفرادًا.
يعتبر فيلم دفيد غريفث «اليتيمتان» الذي ينتمي إلى السينما الصامتة بطبيعة الحال الجسر الذي عبرت من خلاله الميلودراما من المسرح إلى السينما، ومدار قصته على مأساة اليتيمتين هنريت جيرار ولويز، فترافق هنرييت جيرار، قبل فترة قصيرة من الثورة الفرنسية، أختها بالتبني لويز الكفيفة، إلى باريس على أمل معالجتها، ولكنها تُختطف من قِبَل الماركيز دي بريسلز، وتقع لويز في أيدي فروشارد العاهرة والمدمنة على الكحول فتجبرها على التسول وتسرف في إذلالها. وعامة يمكن اختزال الميلودراما السينمائية التي لم تتخلّص من البُعد القدحي الذي رافقها في المسرح، في صراعات أصحاب الجاه أو السلطة أو الحب المستحيل بين أطراف من خلفيات اجتماعية أو دينية متناقضة. وللفقراء فيها نصيب، خصوصًا علاقات العشق التي يدمرها الصعود الاجتماعي المفاجئ لأحد المحبين أو ظهور طرف منافس ثري، وتوظّف كل مؤثراتها لحشد التعاطف مع الضحية الخيّرة التي تواجه حشدًا من الأشرار والمتآمرين، غير مكترثة بجعل أفعال الشخصية منسجمة مع بنائها النفسي والذهني أو بأداء الممثلين الضعيف، الذي ينزع بجلاء إلى المبالغة، ففي سبيل اصطناع المؤثر ظلّت الميلودراما تجافي المنطق وتعتمد إيقاعًا بطيئًا، خصوصًا في المواقف العاطفية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.وهي عبارة عن مسرحية تشبه إلى حد بعيد التراجيديا في نمطها ، ولكن موضوعها يدور بوجه عام حول الأساطير ، ولقد سُميت بالمسرحية الساتيرية لأن أفراد الجوقة فيها ظلوا محافظين على ارتداء ملابس الساتيروي، أتباع الإله ديونيسوس، وهو الزي الذي كان يرتديه أفراد الجوقة.. وكثيرًا ما كان هذا النوع من المسرحيات يصور البطل المشهور هيراكليس بصورة كوميدية. إبراهيم محمود حمدي: نظرية الدراما الإغريقية، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، القاهرة، ط1، 1994. ص 19.
2.يخبرنا أرسطو وهو يعرّف التراجيديا بكونها [محاكاة لفعل جاد تام في ذاته ص 96] ومن خلال قوله [ولما كانت المحاكاة التراجيدية يقوم بها أناس يفعلون: فإنه يجب أن يأتي عنصر: المرئيات المسرحية ، في المقام الأول، ص 96] بمنشأ الدراما وأما من خلال قوله [ولهذا، يطلق البعض لفظة "دراما"  على مثل تلك المنظومات "المسرحيات" التي تقدم أشخاصًا وهم يؤدون أفعالًا" ص ص 72-73] أو [وتستند حجتهم في ذلك على مصدر کلمتي، كوميديا ودراما.. فان الدوريين يقررون بأن كلمة «يفعل» في اللغة الدورية هي: دران - dran. بينما كلمة يفعل، عند أهل أثينا هي – براتين  – praltein، ص 73] فيخبرنا عن بداية الوعي بماهيتها ومكانه. لمزيد من التوسّع انظر: أرسطو: فن الشعر، ترجمة إبراهيم حمادة، مكتبة أنجلو المصرية ط1 القاهرة 1983.
3.إبراهيم محمود حمدي: نظرية الدراما الإغريقية، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، القاهرة، ط1، 1994.. "ص 9.
4.«إنها فن ساحر حقًا واسع التأثير، له أبعاده الكبيرة في حياة الشر، والسيطرة علي العقول، بل لقد أصبحت مجالًا واسعًا للدعاية، وترويج الأفكار والميادين، وإشمال الثورات وتحريك الشعوب، أو تحريرها أو إغراقها في غياهب الوهم والحلم الزائف أو إفسادها وإصابتها باللامبالاة وتحييدها إزاء القضايا الملحة في مواجهة القوى المعادية التي تحاصرها. أو بتقديم كل ما هو سطحي» عبد المجيد شكري: الدراما المرئية، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة ، 1994 ص 11.
5.لمزيد من التوسع انظر: Jean-Pierre Esquenazi, Film, Perception et mémoire, 1ere éd, Paris 1994, P 13.
6.يبقى المسار المعاكس صحيحًا أيضًا. فالمخرج يكتشف في ذاته أوان الإنشاء هذا المتفرّج باعتبار استحالة إبداعه ما لم يتصور صورة ما لمتفرّجه. Claude Baiblé, À la recherche du spectateur réel, in  Médiamorphoses - 2006 - n.18, P P 42-43
7.لمزيد من التّوسع انظر  Andréanne Pâquet: Un Regard anthropologique sur le rituel de la salle obscure, in  cahier du gerse, No 5, L'expérience d'aller au cinéma : Espace, cinéma et médiation éd UQUM Montréal automne 2003 P 54.
8.يورد بريشت الفكرة عن Friedrich SCHILLER. انظر: Bertolt Brecht : Ecrits sur le théâtre, tome 2, L’arche, 1969, P.P 201-202.
9.م. ن. ص 522.
10.Jean-François de La Harpe : Correspondance Littéraire adressée à Son Altesse Impériale Mgr le Grand-Duc, aujourd'hui Empereur de Russie et à M. le Comte André Schowalow, Chambellan de l'Impératrice Catherine II, depuis 1774 jusqu'à 1789 , Migneret, imprimeur, an ix., 1801 P 281.
11.يقول بيكسيريكورت (Pixérécourt) مؤلف كتاب «كويلينا أو طفل الغموض» (Coelina ou l’Enfant du mystère): «(...). ولذلك فهو مرتبط بأصله بزمن الاضطرابات السياسية والاجتماعية العميقة، التي يعبر عنها عن مشاعر ممزوجة بالأمل والفزع» BOURGET, Jean-Loup, Le mélodrame hollywoodien, France, Ramsay Poche Cinéma, 1994,P 9.
د. أحمد القاسمي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا