مقالات

الورقة والشاشة: حينما اقتُبس ألبرتو مورافيا سينمائياً

ردًا على سؤال طُرح عليه خلال الأعوام الأخيرة من حياته: «هل أنت نادم لأنك لم تفعل بعض الأمور أو لم تخض بعض التجارب في حياتك؟» قال ألبرتو مورافيا: «لا، أنا لست نادمًا على شيء، وذلك بكل بساطة لأن كل حياة إنما تساوي أي حياة أخرى، وأيضًا لأن بإمكاننا أن نرى في نهاية المطاف أن كل الحيوات إنما هي حيوات مخففة. الحياة ليست سوى عدم كبير لا يمكننا أن نخرج منه إلا ببعض بقايا نظام غامضة وشديدة السرية». ومع ذلك، حين سُئل مورافيا عن الكيفية التي سيكون عليها عالم المستقبل، في رأيه، أجاب: «أنا، في نهاية الأمر، متفائل. بالأمس فقط كان الناس يمتشقون السيوف ويرتدون الشعر المستعار على رؤوسهم ويمتطون الأحصنة. أعتقد أن الإنسانية بالكاد خرجت حديثًا من طفولتها، ولذلك فهي اليوم لا تزال تعيش مرحلة المراهقة. أما مستقبلها فما هو إلا مستقبل العلم والتطبيقات التكنولوجية التي لا يزال في وسعها أن تقلب العالم رأسًا على عقب. ومع هذا، صحيح كذلك، أن المراهقة في الحياة هي مرحلة أزمة عميقة وأن عالمنا يمكنه أن يفنى حتى من قبل أن يصل إلى كامل شبابه».
هذه الحيوية الجدلية، وهذه البساطة في التعبير لم تطبع، فقط، ما كان ألبرتو مورافيا يصرح به في آخر أيامه، بل طبعت كذلك أدبه كله، ما جعل لأدبه شعبية لم تضاهِها شعبية أي أديب أوروبي آخر في طول القرن العشرين وعرضه. وحتى لئن كانت شعبية أدب كاتب إيطاليا الكبير قد جعلت دهاقنة جائزة نوبل يغضون الطرف عنه دائمًا، فإن الباحثين المتعمقين في الأدب لم يفُتهم قط أن يدركوا كم أن البساطة التي تطبع رواياته وقصصه كانت من النوع الخادع، إذ غالبًا ما كانت الحياة بأعماقها تلوح ظاهرة من خلال أدب كان يبدو للوهلة الأولى سطحيًا، أو على الأقل، ميلودراميًا في ملامسته لموضوعاته. من هنا كان شعار باحثي أدب ألبرتو مورافيا على الدوام يتلخص في عبارة تقول: «لكنه، بعد كل شيء، ليس الكاتب الذي تعتقدون»، لكن هؤلاء الباحثين لم يكونوا الوحيدين الذين وجدوا أمورًا تلفت النظر على نحو غير متوقع في مسار ألبرتو مورافيا، فهناك إلى جانبهم أيضًا أهل السينما وهواتها من الذي يكتشفون، ودائمًا بدهشة، كم أن اهتمامات مورافيا شملت السينما وبأكثر كثيرًا مما كان في إمكانهم أن يتوقعوا بحيث يمكن اعتباره واحدًا من أكثر كُتاب القرن العشرين اهتمامًا بالسينما وليس فقط بوصفه كاتبًا تقتبس السينما الجيدة غالبًا رواياته، بل فيما يتعدى ذلك بالتأكيد وكما سنرى بعد سطور.
قبل ذلك، قد يكون مفيدًا أن نتوقف عند شيء من سيرة هذا الكاتب الإيطالي الكبير والذي يكاد يكون منسيًا في زمن الجحود الذي نعيشه لنُذكِّر بأن ألبرتو مورافيا الذي رحل عن عالمنا في عام 1990، وُلد عام 1907 في مدينة روما، وعرف الشهرة مبكرًا وعلى نحو مفاجئ منذ روايته الكبيرة الأولى «اللامبالون» التي نشرها وهو في الثانية والعشرين من عمره، ولكنها لم تكن، مع ذلك، عمله الأول، إذ كان قد نشر قبلها مجموعة شعرية بعنوان «ثماني عشرة قصيدة» يقال إنه كتبها حين كان في الثالثة عشرة من عمره. ومورافيا يقول لنا عن صباه إنه انطبع بداءين أصاباه وهو بعد في أولى سنوات وعيه: داء السل العظمي الذي أصابه يافعًا واضطره للمكوث سنوات طويلة في مصحات التيرول عاجزًا عن الحركة، والفاشية التي بدأت تغزو إيطاليا منذ العشرينيات وتحاول أن تحطم لها روحها.
ومن الواضح أن وعي مورافيا -وكان اسمه الحقيقي بينكر لي- قد اكتمل عبر رد فعله على ذينك الداءين، ما جعل كل أدبه التالي يُكتب بوصفه رد فعل على صدمهما للجسد والروح. والحال أن الشغل الشاغل لمورافيا طوال حياته الأدبية كان الرد على تينك الصدمتين المبكرتين. النجاح الذي كان من نصيب «اللامبالون» شجع مورافيا على الإمعان في الكتابة، فراح يصدر طوال سنوات الثلاثين والأربعين كتبه التالية، بادئًا بـ«الطموحات الخائبة» و«تربيع الأقنعة» وصولًا إلى «الحياة الجميلة» (1935) وهو الكتاب الأول الذي عرف فيه مورافيا كيف يصور سقوط المجتمع المخملي في روما خير تصوير، فاستبق بذلك نظرة فلليني الثاقبة إلى المجتمع نفسه، مع ما في نظرتي الفنانين من لمسات ساخرة ناقدة مشتركة، علمًا بأن فلليني كثيرًا ما كان يقول إن فكرة تحقيق فيلمه «الحياة اللذيذة» إنما واتته فيما كان يقرأ رواية ألبرتو مورافيا تلك، بل إنه أراد شراء حقوق أفلامها فعجز عن ذلك واضطُر إلى أن يستبدل بذلك المشروع مشروعًا قريبًا حمل على أية حال عنوانًا مشابهًا لعنوان رواية مورافيا، بل موضوعًا يكاد يكون متماثلًا مع موضوعها.
وعلى أية حال لم يكن مورافيا لا في ذلك الحين ولا بعده غريبًا عن عالم السينما، بل من المعروف أنه خلال فترة طويلة من مساره الكتابي احترف النقد السينمائي وكتب عشرات المقالات التي كانت تلفت الأنظار حقًا. لكن ذلك لم يكن كل شيء في نشاط مورافيا السينمائي، فالأهم من ذلك هو أن أدب مورافيا الروائي قدم للسينما عددًا من الموضوعات في أفلام بتواقيع عدد من كبار المخرجين الإيطاليين وغيرهم، يُعتبر معظمها علامات في تاريخ الفن السابع بحيث يمكننا دائمًا، إذا جمعنا بين تلك الأفلام وبين عشرات المقالات والدراسات السينمائية التي حملت تواقيع مورافيا، أن نجد أنفسنا أمام ما يمكن أن يُعتبر متنًا سينمائيًا متكاملًا. وحسبنا للتيقن من هذا، أولًا أن نراجع كتابًا في نحو 300 صفحة صدر مترجمًا عن الإيطالية إلى الفرنسية والإنجليزية ويضم عددًا كبيرًا من مقالات سينمائية لمورافيا، لعل أهمها تلك التي عبّر فيها عن متابعته عن كثب لنتاجات «الواقعية الجديدة» الإيطالية كما عن اهتمامه بالسينما الاجتماعية الأمريكية، ودائمًا انطلاقًا من مشاهدته للعروض الأولى ودائمًا في صفوف المتفرجين العاديين، لأفلام كان يسرع إلى حضورها ما إن تُعرض.. وبعد ذلك أن نتصفح لائحة شديدة الغنى تضم فيلموغرافيا شرائط اقتُبست من روايات لمورافيا واشتُهر هو بمتابعة العمل عليها إلى جانب مخرجيها وحتى حضور جلسات المناقشة بين المخرجين وممثليهم لتوضيح بعض ما قد يبدو منغلقًا في سيماء الشخصيات التي يلعبونها.
ومن بين تلك الأفلام يمكن التوقف بشكل خاص عند تحفة برناردو برتولوتشي «الممتثل» (1970)، الذي يُعتبر واحدًا من أكثر الأفلام السينمائية فضحًا للفاشية وعلاقتها بالجنس والانحطاط الأخلاقي، ولكن كذلك بشكل خاص عند فيلم «الاحتقار» (1963) لـ«جان لوك غودار» والذي يدور موضوعه حول فريق عمل سينمائي يسعى إلى تصوير فيلم مقتَبس من ملحمة «الأوديسة» في جزيرة كابري الإيطالية. ويعتبر «الاحتقار» عادةً واحدًا من أقوى أفلام غودار، بيد أن الأكثر شعبية بين الأفلام السينمائية المقتبَسة من رواية لمورافيا يبقى فيلم فيتوريو دي سيكا «امرأتان» (لا شيوشارا) (1960) الذي قامت صوفيا لورين ببطولته والذي يُعتبر أحد أقوى أدوارها والدليل على ذلك أنها نالت عن أدائها فيه جائزة أفضل ممثلة في مهرجان «كان» في ذلك العام، وجائزة مماثلة في أوسكارات هوليوود، ما كرسها نجمة عالمية ودفع مورافيا لأن يكتب عنها مقالًا استثنائيًا. وتدور أحداث «امرأتان» حول أم تحاول حماية ابنتها المراهقة من أهوال الحرب العالمية الثانية عام 1943، وأهوال السقوط الأخلاقي جراء احتلال إيطاليا خلال تلك الحرب. ولئن كانت هذه الأفلام الثلاثة تُعتبر أبرز مساهمات ألبرتو مورافيا الكبرى في عالم السينما -بوصفه كاتبًا روائيًا عَرفت السينما كيف تقدّم نصوصَه دون أن تحتاج إلى بذل جهود كبيرة في سبيل ذلك، إذ إنه اشتُهر وكما سيقول برتولوتشي عنه، بأنه إنما «يكتب انطلاقًا من رؤية بصرية تجعل نصوصه تبدو وكأنها كُتبت للسينما أصلًا»- فإنّ ثمة أفلامًا اقتُبست من نصوص له، قد لا تقل عن تلك الأفلام الكبرى أهميةً، حتى وإن لم تبلغ شهرتها، مثل فيلم داميانو دامياني «الضجر» (1964) الذي يحكي عن حالة خاصة لابن عائلة موسرة يستبد به ضجر فتاك لا يخلصه منه حتى ولا ارتباطه بعارضة أزياء تعمل بين الحين والآخر «موديل» للرسامين.
ليس من اليسير بالطبع إحصاء كل ما اقتبسته السينما من روايات مورافيا، ولكن يمكن القول بأن السينما اعتبرت تلك الروايات مخزونًا احتياطيًا تلجأ إليه في كل مرة تحتاج فيها إلى فيلم يجمع بين النخبوية والشعبية ويمكنه أن يجتذب المنتجين بسهولة، ولكن أن يجتذب بسهولة أكبر كبارَ النجوم الذين كانوا لا يتوانون عن إبداء توقهم للعب شخصيات يبتكرها كاتبهم المفضل هذا، و«يعرف تمامًا كيف يصور أبعادها الروحية موفرًا لممثليها فرص تعبير هائلة»، كما أشارت صوفيا لورين مرة تعقيبًا على المقال الذي كتبه عنها.
وتبقى هنا إشارة إلى بعضٍ من أبرز أعمال مورافيا التي نقلتها السينما إضافةً إلى ما ذكرنا: «العصيان» و«الحب الزوجي» و«امرأة من روما»، و«حكايات رومانية». وإضافة إلى رواياته كما إلى اهتماماته السينمائية، تمرس مورافيا في أدب الرحلات، وتدخل في القضايا السياسية وأمضى آخر سنوات حياته يناضل في سبيل البيئة وضد انتشار السلاح النووي، هو الذي غلب على شخصيات أدبه طابع اللامبالاة والحياد السلبي ولكن كذلك الرغبة المخبوءة في تدمير العالم وصياغة علاقات لا تستجيب للنظم الاجتماعية. ومن هنا لم يكن غريبًا أن يقول عنه ناقد إنجليزي كبير: «إن مورافيا صاحب أدب وجودي عبثي، روعته أن وجوديته وعبثيته لا تظهران إلا للمنقبين بدقة».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. إبراهيم العريس
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا