1- من السّينما السيكودرامية1 إلى السّينما الثورية التي تعمل على تثقيف الطّبقة العاملة
بعد تأميم الصناعة السينمائية الروسية ووضع الاستوديوهات الخاصّة تحت رعاية مؤسسة السينما الوطنية (VGFK) في 27 أوت 1919 إثر انتصار الثّورة البلشفية، حظي الفنّ السّينمائي في الاتحاد السوفييتي بكثير من الدّعم السّياسي والمالي المعلن، وروهِن عليه لدعم الثّورة ونشرها في العالم بأسره، فيؤثر عن لينين قوله: بأنّ «للسينما من الأهمية ما لا يسمح بتركها بأيادي الفنّانين». ويؤثر عنه أيضًا قوله: «تعد السّينما بالنّسبة إلينا الأهم من بين كل الفنون». وممّا يذكر عن تروتسكي بعده قوله: «عندما يكون لقرانا سينمائيون نكون جاهزين لإنهاء بناء الاشتراكيّة». وهذا ما سمح لجيل من السّينمائيين الشّباب المؤمنين بالأفكار الاشتراكية بالظهور2، فتركوا الحكايات السيكودراميّة التي كانت سائدة في عهد روسيا القيصريّة، وانصرفوا إلى «السّينما الثّورية» المتناغمة مع الأهداف السّياسية للثورة3 والتي تعمل على «تثقيف الطبقة العاملة» ونشر القيم الاشتراكية، ومالَ أغلبهم أكثر إلى الفيلم الوثائقي لما فيه من خطاب مباشر يتناول الحقيقة دون وساطة الخيال ويكفل التّعبئة الجماهيريّة في ظل رؤية ثوريّة للفنّ تستند إلى النّجاعة والشّحن والتّحريض، وركّزوا اهتمامهم على القضايا السّياسيّة والتّاريخيّة.
ولئن بدا هذا الجيل متّفقًا من جهة المقاربات المضمونيّة المنغرسة ضمن مبادئ الفكر الماركسي ورؤيته للوجود، فإنه كان يختلف من جهة المقاربات الجماليّة أيّما اختلاف، فقد أخرج لوف كولشاف، على سبيل المثال، كوميديا هزليّة بعنوان «المغامرات الخارقة للعادة للسيد واست في بلاد السوفيات» Les Aventures Extraordinaires de Mr West au Pays des Soviets وأخرج جاكوب بروتازانوف (Jacob Protazanov) فيلمًا من الخيال العلمي هو «أيليتا» Aelita، وكثيرًا ما كان أناتولي لوناتشارسكي يجاهر بإعجابه بنجاعة السّينما الهوليوودية وباعتقاده بأن التّصوير في مثل هذه الاستوديوهات يفيد أكثر في نشر أفكار الثورة.
2- المونتاج من التّقنية السّردية إلى الفلسفة الجمالية
تعود بدايات الاشتغال على تقنية المونتاج إلى عمل فلادمير كولشيف النّظري ضمن تجاربه في مخبر دراسة الكتابة السينوغرافيّة، فقد جمع مَشاهد ولقطات تجري في أفضية مختلفة وأوعز للمُشاهد بأنها تجري في الفضاء نفسه، فاعتمد لقطة كبيرة لوجهٍ بملامح محايدة ثم جاوره مع لقطات مختلفة من الفيلم: مع آنية حساء أوّلاً ثم مع نعشٍ ثانيًا ثم مع طفل أخيرًا، وعرض حاصل كل مونتاج على جمهور مختلف من المتفرجين، فكان أن انتهى المتفرجون في الحالة الأولى إلى أن هذه الملامح تفيد الجوع، وانتهى الجمهور الثاني إلى أنها تفيد الحزن، فيما استنتج الجمهور الثالث أنها تدلّ على العطف الأبوي، وانتهى كولشيف من حاصل التّجربة إلى أنّ نوعًا من التّجاذب يحصل بين لقطة وأخرى حالما نضعهما في علاقة جوار.
وينحدر المعين الثّاني لتطوير تقنيات المونتاج من إسهامات إيزنشتاين، فقد استند إلى خصائص كتابة اللّغتين اليابانية والصينية اللتين تخلقان معنى جديدًا من خلال الجمع بين صورتين مختلفتين، ومنهما، ومن منجز كولشاف في الآن نفسه، حوّل المونتاج إلى فلسفة جمالية، ونزّلها ضمن الدّيالكتيك المميّز للفكر الماركسي4، فتحدّث عن مونتاج التّجاذب5 الذي يهدف إلى خلق صدمةٍ ما لدى المتفرّج من خلال المجاورة المخصوصة بين لقطتين لا علاقة تجمعهما من جهة تكوينهما أو مضمونهما، ثم طوّر رؤيته فنحت مفهوم المونتاج الدّيالكتيكي وعمل عبره على معالجة المشكلات الحياتية النّقدية، وعلى إدراك قوانينها بما هي معطى مادي يمكن تشريحه وكشف متناقضاته والوقوف على قوانينه العميقة وعلاقاته المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية.
وكان المونتاج في هذه السّينما يضطلع بجملة من الوظائف، منها خلق المجاز بإسقاط محتوى لقطة على أخرى، ومنها الوظيفة الإيقاعية المنتِجة للدلالة والتي تعكس صدامًا مـا، سواء كان هذا الإيقاع زمنيًا أو كان تشكيليًا، «فالصّدام بالنّسبة إلى [إيزنشتاين]...صيغة شرعيّة للتّفاعل بين وحدتين من الخطاب الفيلمي... ويمكننا أن نكتفي باستعراض بعض المقاطع من مقالة تعود إلى 1929 من بين النّصوص العديدة (ليس المونتاج، من وجهة نظري، فكرة مُشكّلة من عديد المقاطع المتتالية ولكن فكرة تولد الصّدمة بين مقطعين مستقلين»6.
أمّا اليوم، ومع التطور التكنولوجي للوسيط السينمائي، فيمكننا أن نفهم سبب تعويل المدرسة السوفييتية على المونتاج وتحميله كل هذا العبء الإيديولوجي، فقد كانت الأجهزة السّينمائيّة عصرئذ بدائيّة. وبتطوّر التّكنولوجيا لاحقًا استطاعت السّينما «أن تقدّم حلولاً جذريّة بتمكين الكاميرا من الحركة المطلوبة واختراع وتطوير (كذا) أنواع العدسات، وكذلك استخدام الشّاشة العريضة. كل ذلك أدى إلى قيام الكاميرا ذاتها من خلال حركتها، بتصوير اللّقطات المتوسطة والمكبّرة، دون أي قطع، وبذلك أصبح دور المونتاج متوازيًا مع باقي العناصر الفيلميّة»7.
3- بحثًا عن فنّ «اشتراكيّ في المضمون واقعيّ في الشّكل»
ركّزت أفلام هذه السّينما الأولى على مناهضة القيصرية، فكانت تجعل قواتها مجرد قتلة وسفّاكي دماء، وكانت ترمي إلى إسقاط صورتهم تلك رمزيًا على عامّة المعسكر الغربي الرأسمالي، وبالمقابل كانت تحتفي بالعمال والمُزارعين وتجعل منهم أنموذجًا للبروليتاريا التي تتحدّى مُلاّك وسائل الإنتاج بقدر ما تحتفي بالأبطال الجماهيريين الذين يخوضون معاركهم لتحديد مصير الجماعة.
على المستوى الإداري وخلال المؤتمر الأول للمصوّرين السّينمائيين، في عام 1928، انتقد الأعضاء بشدّة الرقابة على السّينما التي يفرضها النّظام، ثم شهد مؤتمرهم الثاّني عام 1935 انسجامًا بين المشرفين مع أفكار الحزب وسياساته8، ويعود هذا الانقلاب إلى وضع بوريس شومياتسكي يده على هذه السّينما وإخضاعها في تلك الأثناء، فقد حدّد، بصفته وزير السّينما والمشرف على الإدارة المركزية لمؤسسة «سويوزكينو» التي تسيّر صناعة السينما بأكملها، ثلاث قواعد جديدة لإنشاء الأفلام في كتابه «سينما للملايين»، وفرضها على المخرجين، وهي: أن تكون مثيرة للاهتمام من الناحية الفنية بما يكفي لجذب الجمهور العريض، وأن تُثبت ولاءها السياسي والإيديولوجي للحزب عبر مضمونها، وأن تكون مسلية وذات شعبية كافية لتعبئة خزائن الدولة. ثم انعقد مؤتمر الكتاب في 1934 في موسكو، ففُرض على الفنّانين عبره أن يُظهروا في أعمالهم التّحول الاجتماعي الذي تعمل الدّولة السوفييتية على إنجازه، مثل إزالة الفوارق بين الطبقات وبناء المجتمع الاشتراكي، ودُعوا إلى الإسهام في تنوير المجتمع بأن يجعلوا الشخصية تدرك أنها مُستلَبة في المجتمع المتدهور بفعل هيمنة الطبقة البرجوازية، فتتحوّل إلى بطل إيجابي يتجاوز استلابه أولاً ويعمل على تغيير المجتمع نحو الأفق الاشتراكي لاحقًا.
ضمن هذا التصوّر للفن «الاشتراكيّ في المضمون والواقعيّ في الشّكل» الذي «ينأى عن كل غموض أو تجريب باحثًا عن الصّيغ الأكثر فاعليّة في توصيل مبادئ الفكر الاشتراكي للشعوب»، تحوّلت المعالجة الواقعية من رصد الواقع بما هو عليه من التّدهور بكل أمانة إلى تصوّر طوباوي يبالغ في إظهار ما يمكن أن تكون عليه الحياة في ظل قيام الدولة الاشتراكية. وبالتّزامن مع هذه القرارات الملزمة للمبدعين، كان بوريس شومياتسكي قد بسط نفوذه المطلق على الصناعة السينمائية مما فتح المجال للقرارات الاعتباطية وإهدار المال. ورغم الحدّ من سطوة الإيديولوجيا بوصول خروتشوف للسّلطة وإزاحة بوريس شومياتسكي عن منصبه، فإن السّينما التي باتت في عهد ستالين بيروقراطية ودعائية لم تستطع التّخلي عن عاداتها السيئة، وفق جاي ليدا.
4- هل هي الحلقة الثّانية من الصّدام مع السّينما الغربية؟
لقد فقدت السّينما السّوفييتية بريقها، ثم تلاشت مع تفكّك الاتحاد السوفييتي. وحاولت السّينما الروسية الاتحادية، وريثتها، فرض نفسها ضمن معايير السينما الغربية، فطوّرت استوديو «موسفيلم» لصناعة السّينما الموروث عن الحقبة الشيوعية، وظهر سينمائيون أفذاذ شأن أندريه زفياغينتسيف الفائز بالأسد الذهبي لمهرجان البندقية السينمائي الدولي عام 2003. ولكن الحرب الرّوسية الأوكرانية الأخيرة أفضت إلى صدام سينمائي جديد، فمُنعت الأفلام الرّوسية من المشاركة في المهرجانات السّينمائية الدّولية الغربية، فقد قرّر مهرجان غلاسكو السّينمائي في بريطانيا سحب فيلمين روسيين من قائمته، وأعلن مهرجان «كان» السّينمائي عبر موقعه الرّسمي رفضه استضافة وفود رسمية روسية أو مشاركة أي هيئة مرتبطة بحكومة موسكو في الدورة الخامسة والسبعين «ما لم يتوقف العدوان بشروط تُرضي الشّعب الأوكراني»، واستنكر كل من مهرجان برلين السّينمائي الدولي ومهرجان جوائز SAG في هوليوود الغزو الروسي لأوكرانيا وأصدرا بيانَيْ تضامُن مع الشّعب الأوكراني. وبالمقابل منعت روسيا الأفلام الأميركية من دور عرضها واستبدلت بها سينما بوليوود الهندية، وأعلنت الأكاديمية السّينمائية الروسية عن عدم ترشيحها لأي أفلام للمنافسة على جوائز الأوسكار الأميركية المقررة لعام 2023. ولكن يبدو أنّ هذا التأثير سيقتصر على المستوى التنظيمي والإداري والتّسويقي أو على موضوعات بعض الأفلام باعتبار أن ملامسة البناء الفني والرؤى الجمالية ستتعسّر عليه، لانعدام وجود تباينات إيديولوجية جوهرية بين المعسكرين كما كان الأمر في عهد الحرب الباردة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. يشير مصطلح السيكودراما في السينما إلى الأفلام التي تركّز على التعبير الدرامي عن الحالة النفسية والعاطفية للشخصيات. يعتمد هذا النوع من الأفلام على تطور الشخصية والصراعات الداخلية، مستخدمًا الحوار والتمثيل لاستكشاف وعرض الأبعاد النفسية للشخصيات.
2. كان بودفكين يبلغ السابعة والعشرين من العمر، أما كوزتشاف فلن يعد الخامسة عشرة.
3. تقول ميريام تسيكوناس (Myriam Tsikounas) " إن ثمانية من السّينمائين المنظرين غيّروا السّينما الصّامتة إلى شيء أسطوري هم كولشوف (Kouléchov) ودوفجينكو (Dovjenko) وبودفكين (Poudovkine) وإزنشتاين (Eisenstein) وروم (Room) وفرتوف (Vertov) وكورينتشاف (Kozintsev) وتروبيرق (Trauberg) Myriam TSIKOUNAS, Les Origines du cinéma soviétique, Cerf, 1992P164
4. هو «حركة الفكر التي تثبت المسألة أو القضيّة وتنقضها ثم تتجاوز الإثبات والنّقض إلى تأليف يضمهما ويتعدّاهما» جلال الدّين سعيد، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفيّة، دار الجنوب للنشر، تونس 2007، ط 2، ص121. والدّيالكتيك في الفكر الماركسي منهج يفضي إلى فهم حركية المجتمع، فصراع الأضداد هو المحرك الأساسي للتطور الاجتماعي وللصيرورة التاريخية. يقول أنغلز: «إن التّطور الجدلي الذي يظهر في الطّبيعة وفي التاريخ لا يعدو أن يكون في نظره غير انعكاس الحركة الذّاتيّة الشخصيّة للفكرة المستقلة عن دماغ الإنسان». المصدر نفسه ص: 123
5. «مونتاج التجاذب» Montage d'attraction وهو في نظريّة إيزنشتاين (Eisenstein) تجاور سينات شبه مستقلة أكان أسلوبها هزليًا أو كاريكاتوريًا مثل تجاذب مسرح المنوعات الذي استُعير منه هذا المصطلح.
6. Jaques Aumont, Les théories des cinéastes éd Armand Colin,Paris 2005 P 60. والاقتباس الوارد ضمنه لإيزنشتاين دون تحديد المصدر.
7. علي أبو شادي، لغة السّينما، سلسلة الفنّ السابع، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2006، ط 3، ص 183.
8. LEYDA ,Jay, Kino: Histoire du cinéma russe et soviétique, Lausanne, Editions de l'Age d'homme ,p.283-284.