إن الغائية من الفلسفة في الحياة هي اكتشاف مَواطن الضعف والانتهاك البشري. يحدث أن تجعلنا الأفكار الشكوكية نبحث في طريقنا إلى النهاية عن ملذات قد تجعلنا نستلذ ونشتهي ذلك الطموح الذي قد يباغتنا للحظات وميضية ويختفي، فنظل خلفه لاهثين للنبش والحفر فيه، عسى أن يمدنا بتلك الراحة الأبدية من صراعات الحياة والدنيا، من خلال هذا الركض المثير للشفقة أحيانًا. يجد بعض المبدعين قوافل ومحطات يريحون فيها ذلك الخبط الذي تعرضوا له في مشوارهم المتأزم هذا عبر الصناعة الترفيهية على وجه العموم، والصناعة المرئية خصوصًا.
إن صناع السينما -بقدر ما- تعتمد أدواتهم الحرفية على كثير من النشاط التجاري، إلا أن موجات الفن والجمال قد تضرب أعمالهم ونجد في كثير من مَواطن هذه الصناعة تشبهات حقيقية بالمُعاش، نجد أن الإنسان يحتل المركزية المطلقة في هذه الصناعة، وأن الأخلاقيات المنتجة عبر المراحل التاريخية من تطور الحياة البشرية لها نصيب من هذا الكادر والتصدير، فالجاذبية الجمالية والشعورية التي تختص بالسينما بوصفها شكلاً من أشكال الفن لا تنفك أن تكون في أحفورياتها كثير من الفلسفة والرغبة والتراجيديا، هذا ما يجعل استجابة وتعلق الجمهور بالسينما لا يحدث شبهه مع أي شكل من أشكال الممارسة الإبداعية الأخرى.
محمد خان... التشكلات والصناعة
«عندما يحدث أن الإنسان ينغمس في أعماقه، فهو بكل تأكيد يغفر زلاته لنفسه بنفسه» ـ هذا ما يجعل سينما محمد خان الأكثر فلسفية على الإطلاق.
وُلد محمد خان في مصر في 26 أكتوبر عام 1942 لأب باكستاني وأم مصرية، ويُعدّ أحد أبرز مخرجي «السينما الواقعية» التي انتشرت في جيله من السينمائيين نهاية السبعينيات وطوال ثمانينيات القرن الماضي، وركز في أفلامه على حياة البسطاء من أبناء الشعب المصري، وعُرف عنه اهتمامه بشخصيات أفلامه أكثر من قصتها، شارك في كتابة 12 قصة من 21 فيلمًا أخرجه، تزوّج وسام سليمان، وتعمل ابنته نادين خان أيضًا في مجال الإخراج السينمائي.
اختيرت أربعة من أفلامه ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية وهي: «زوجة رجل مهم»، و«أحلام هند وكاميليا»، و«خرج ولم يعد»، و«سوبرماركت».
اتجه محمد خان إلى إنجلترا سنة 1956 لدراسة الهندسة المعمارية، ولكن تحوّل شغفه فجأة إلى عالم البصريات الفنية، والتحق بمعهد السينما في لندن. كان هذا المعهد بمثابة الانطلاقة الحقيقية في عالم الإخراج الفيلمي، حيث إن الطبيعة الفكرية التي صادفها هناك، وموجات السينما الجديدة الفرنسية La Nouvelle Vague (من أمثال جان لوك غودار وكلود شابرول وفرانسوا تروفو) والواقعية الإيطالية Neorealismo (ومن متصدري هذه الحركة الثقافية التي أثرت في فكر خان وصقلت عقليته ونموذجه الاستقصائي الفكري روبرتو روسيليني، وجوزيبي دي سانتيس فيتوريو دي سيكا، وفيديريكو فيليني) أعادت تركيب تلك الهندسة الفنية والفلسفية التي كان يحملها هذا الرجل القادم من المشرق العربي، ومن خلال تعرضه المستمر لهذه الرؤى والنظريات الفكرية السينمائية تبنى محمد خان أسلوبًا فكريًا وإخراجيًا يشبهه هو فقط ويختلف عن السائد والمتواجد في المنطقة العربية في تلك الفترة، وبذلك سيكون محمد خان من بين المشتغلين الحقيقيين في الحقل السينمائي الذي تُوجت أعماله بالأصالة الفنية والجودة على مستوى الطروحات، بالإضافة إلى اشتغاله مع مجموعة من المخرجين أمثال صلاح أبو سيف ويوسف معلوف ووديع فارس، وكذلك من خلال تمرسه مع كبار كتاب السيناريو، على سبيل المثال لا الحصر: رأفت الميهي ومصطفى محرم.
مثالب السينما والحضور الكثيف للفلسفة:
إن أول أعمال محمد خان الروائية الطويلة هو فيلم «ضربة شمس» (1980) الذي كان من تأليفه كذلك. يُعتبر هذا العمل السينمائي هو لبنات الفكر الواقعي الجديد في مصر، حيث إن تصوير شوارع مصر بتلك الاحترافية لا يجيدها إلا مَن تعلّم السينما الحقة وتشرّب من منابعها وأصولها. إن الاهتمام بالشخصيات الروائية والتفطّن لماهيتها والتعلق بها وتفكيك شعوراتها هو اختصاص الخان من دون منازع، حيث إن شخصية «شمس» التي لعبها نور الشريف ما هي إلا نمذجة بصرية للتهميش السياسي الذي يمسّ طبقات حساسة من الأصول الاجتماعية، حيث إن الطبقية التي صورها محمد خان داخل حركات الفيلم ما هي إلا نتيجة للمقاومة الضمنية التي يسعى أبناء الطبقة المتوسطة لإلغائها، حيث إن التوحش الرأسمالي في فكر الخان هو الشيفرة الأساسية في كل تلك التراكمات التي تحدث وتنهش بالحركية الاجتماعية، وذلك يؤدي بالضرورة إلى الاغتراب الممنهج للفرد داخل محيطه النسقي. يرى كارل ماركس أن الاغتراب صفة ملازمة وحالة عامة للمجتمعات الرأسمالية التي حوّلت العامل إلى كائن عاجز وسلعة بعد أن اكتسبت منتجاته قوة مستقلة عنه، بل معادية له.
إشكالية الاغتراب في فيلم «خرج ولم يعد»
تعيش المجتمعات -على اختلافاتها السياسية والعقائدية والثقافية- حالة من التغيرات والتطورات الراديكالية التي تعمل على إفراز معطيات تساعد من خلالها على عملية الإشباع في المجالات الحياتية المختلفة، اقتصاديًا من خلال اللوجستيك أو الإمداد التكنولوجي والمالي، وبيداغوجيًا عبر تطوير المضامين والمناهج التعليمية، وسياسيًا من خلال فتح آفاق المشاركة الديمقراطية الفعالة والتعبير السلطوي ودواليك.. لتصب في كامل الحقول المجتمعية كما يسميها عالِم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو .
يحاول محمد خان من خلال تجربته الأكمل في نظري، فيلم «خرج ولم يعد» (1985) من بطولة الفنان يحيى الفخراني وفريد شوقي وليلى علوي، أن يبرز تلك التناقضات التي يعيشها الفرد المصري داخل القوالب الرأسمالية والإفرازات المدنوية، حيث يعيش «عطية» -بطل القصة- تلك الاختلالات الوظيفية في المدينة، حيث إن التوجه إلى الريف كان رد فعل على الإقحامات السياسية والاقتصادية المميتة في القاهرة. هذا الفيلم يُعتبر الفيلم الأوحد الذي لا يحتوي على شخصيات شريرة، فالشرير في هذا الفيلم هو كابوسية المدينة.
في خضم هذه البنية شديدة التعقيد، نجد بأن الفرد العربي (عطية نموذجًا) يعيش حالة من التباعد الملموس بينه وبين إفرازات الدولة السياسية، والتي تتمثل في مؤسساتها الحكومية، والجهات الرقابية، وأجهزتها النظامية، بكل ما تحمله هذه الأخيرة من خصائص ومميزات تدخل ضمن الكينونة العامة لحالة الدولة الآنية. هذه الجذرية الضمنية يُعبّر عنها الفرد بأنشطةِ وأساليبِ مقاوَمة ورفض تأخذ نوعًا من الابتكارية والإبداع، فكل شكل من التعبير اللفظي أو الجسدي أو الممارساتي هو آلية دفاع عن كيانه من جرف هذه الأنظمة التي يراها مخدرًا يحاول الفتك به وبكل ارتباطاته الفعلية بالمجتمع (الهروب إلى الريف). المفارقة العجيبة والغريب في الأمر بأن التعامل السطحي مع هذه السياسات هو تعامل طبيعي، يتأرجح ما بين القبول الشكلي والرفض المضموني، ولذلك فإن كل هذا الصراع بين الدولة والفرد هو صراع نفسي يُسمى بالاغتراب، فهذه الحالة أُطلق عليها تسمية المرض المجتمعي، لأننا كلنا مصابون بها، فكلنا نعيش تحت لواء السلطة، ولا أحد منا يتجرأ بالتفوه عمّا تمارسه هذه الأخيرة من اختلالات وظيفية على مستوى مؤسساتها وعلى مستوى أرضية الملعب (الواقع)، فعقل الفرد العربي هو عقل يمتاز بالرجاحة والخفة والفطنة، ولكن كل هذه الصفات ينقصها أن تظهر للعيان لا أن تمارس ضمن حالة الاغتراب النفسي والمجتمعي داخل حلقته المغلقة، فالتشكيلة الثلاثية هذه ما فتئت أن تتحول وتفعل فاعلتها وتترجم حيثياتها في الأتموسفير العام.
يكشف محمد خان رموز الاغتراب في أفلامه ويُرجعها للفروق والممارسات القمعية التي يشكلها هرم الطابوهات (العائلة والدين والاقتصاد) إذ فقد الفرد كثيرًا من مناعته وتحكمه بوظائفه الحيوية وموارده المادية والروحية في علاقته بالدولة التي تخضع بدورها لإرادة القوى الخارجية والعائلات الحاكمة المحلية، ومن هنا يصبح المجتمع قاصرًا على تجاوز المحن الموضوعة والمتراكمة أمامه، وبالتالي يصبح الفرد يعاني من التهميش والفئوية والإفقار، ويتّسع بذلك عمق الفجوة بينه وبين واقعه .
مع الاختلافات البسيطة التي يشعر بها المرء تجاه المفردات والأنماط السلوكية المدارة حوله في المجتمع، يدرك فجأة مدى الفجاعة الأخلاقية المتراكمة، والتي تزداد سوءًا يوما بعد الآخر. الجدير بالذكر أن الوعي بهذه الاختلافات هو سمة ربانية وهبة سمائية في الغالب لا يصل إليها كثير من البشر. إن التركة السينمائية العظيمة التي ورّثها لنا المخرج الفيلسوف محمد خان ما هي إلا دليل على عبقريته الفذة وحيويته اللامتناهية، فإن الرغبة في العيش وممارسة الحياة ونقل صورة الفرد العربي بكل إشكالاته وطموحاته هي صناعة «خانيّة» فريدة يتفوق فيها هذا المحترف لينجز لنا كثيرًا من الحيوات تحت أسقف السينما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش