أوراق سينمائية

الاشتباك بين الشعر والسينما: عودة إلى البدايات

1- السينمائيون السرياليون: أو شعرية الحلم

كان من الضروري أن تلتقي السينما بالشعر عند السرياليين، فهم يجدون العالم الإنساني مفارقًا بشكل مفجع بعد أن أضحى الإنسان قادرًا – بفضل اكتشافاته العلمية وبفضل آلة العقل الكامنة وراءها – على أن يسيطر على العالم الخارجي وأن يطوّع أشياءه لنهضته وسعادته. ولكن خلف هذا الظاهر السطحي يعتقدون بوجود طبقة أخرى من الوجود أعمق تكشف حيوانيته، فشل فيها فشلًا ذريعًا، فهو لم يستطع أن يغيّر ذاته رغم كل هذا الظّاهر الخادع، وظلّ ذلك الكائن المتوحّش الذي تفضح حروبُه وحشيتَه. وتجد السريالية في هذه المفارقة برهانًا على ضيق في المنطق والعقل وأمارة على أنّ القوة الخارقة في النفس، والمحرّك الحقيقي الكفيل بالارتقاء بالإنسانية يكمن في منطقة أخرى من الكائن، هي الحلم المنفتح على الطبقات السحيقة من اللاوعي. 

وكان لهذا التصور تبعات على مستوى تصورهم للقيم والآداب العامّة والدين، فيشير لويس أراغون في أثره "مغامرات تيليماك" إلى أنّ الشرائع وقواعد السلوك والجماليات لم توضَع إلاّ فرضًا للأشياء الهشة سريعة العطب غير القادرة على الصمود بدون دعامة سلّم القيم. وقدّروا أنّه على الفنان أن يحطّم هذه الدّعائم المضللة وأن يحطّم بالتبعية كل ما له صلة بالعقل والمنطق، وأن يتجاوز الواقع إلى عالم أرحب منه تثبيتًا للزمن أو كسرًا له وخلقًا لعالم مطلق وصور مدهشة قادرة على النفاذ إلى الجوانب المسترابة من الحياة.

من هذا المنطلق غدا الشعر عندهم أكثر من فنّ، فقد تحوّل إلى وسيلة للمعرفة ولمقاومة الزيف والضلال ولتحديد شكل الإقامة في الكون. ووجدوا في السينما – وكانت فنًا وليدًا – تلك القدرة على تسجيل فترات من الزمن وتثبيته وتغيير ترتيب مشاهده، وآية على حضور الحلم في الحياة الحقيقية، وهي غايتهم التي كانوا ينشدونها من الشعر…و«قادهم الافتتان بالسينما منطقيًا إلى فكرة أنّ السينما والشعر مشتبكان، أو على الأقلّ إلى أنّ السّينما شكل جديد من الشّعر» ووجدوها ساحة رحبة له. وكان جيل سيبرفيل يرى أنه «يمكن للسينما أن تجعل العالم يرتدّ عبر العصور السحيقة إلى بداياته. ولم لا تضعه على هامش الزّمن بجانب الإله حيث الخلق النّضِر؟». وكتب عدد كبير منهم نصوصًا لتجسَّد عبر الشاشة، فنشر فيليب سوبو الشاعر السيريالي الفرنسي بداية من جانفي 1918 مجموعة من "القصائد السينمائية" في مجلة سيك ونشر جيل رومات "قصصًا سينمائية" سنة 1919. ووجد أبولينير في "الروح الجديدة والشعراء" السينما كتاب صور وملحمة تجتمع فيها فنون الموسيقى والدراما والشعر، متنبئًا بموت الكتاب وخلافة الفيلم السينمائي له. وأقبل الشعراء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

د. أحمد القاسمي
March 3, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا