مقالات

الرمزية الفكرية والتاريخية في فيلم «باردو: السجل الكاذب لحفنة من الحقائق»

1«نحن لا نركض نحو الموت، نحن نفرّ من كارثة الولادة ونتخبط مثل ناجين يحاولون نسيانها».

عطفًا على المقالة السالفة «التداعي الحر للذاكرة وتقاطعاتها الفنية في فيلم: "باردو: السجل الكاذب لحفنة من الحقائق"» والتي تناولتُ فيها بعض الدلالات الرمزية في الفيلم محاولًا تفكيك عناصرها الفنية المتشابكة، أعود هنا لمناقشة الإسقاطات الفكرية والتاريخية المتفرقة في مَشاهد الفيلم مع التشديد على فكرة أن هذا الفيلم الزاخر بالدلالات لا تكفيه مقالتان لمناقشتها كلها ولكن ما لا يُدرك كله لا يُترك جله كما يُقال.
العدمية مدرسة فكرية وأدبية من أبرز ملامحها الرؤية التشاؤمية للعالم ونبذ عملية الخلق المتمثلة في الولادة. نجد هذه الفكرة بارزةً في افتتاحية الفيلم السوريالية، حيث يظهر «سيلفاريو» وهو جالس على كراسي الانتظار في المستشفى منتظرًا زوجته التي ستلد طفله «ماتيو» بعد لحظات. يُولد الطفل فنراه يُسرّ في أذن الدكتور شيئًا ما، ثم يأتي الطبيب ليُخبر أمه بأن الطفلَ لا يريد أن يُولد ويطلب العودة إلى الداخل لأنه، كما يقول: «العالم فاسد جدًا»* فيسأل الطبيب زوجته إذا ما كانت تعاني من حساسية ما، فتجيبه بالنفي، فيعيد الطفل إلى رحم أمه! ومن خلال هذه الافتتاحية المكثفة يتلمس المُشاهد علّة الرفض المتمثلة في مظاهر الفساد طيلة الفيلم، مثل دلالات العلاقات المضطربة بين دولتي المكسيك وأمريكا، والعنصرية العرقية والطبقية الاجتماعية وغيرها من المظاهر التي لأجلها يرفض طفل «سيلفاريو» القدوم إلى هذا العالم الفاسد جدًا!
لكننا سنعرف لاحقًا في المشهد الذي يقطع فيه الطفل العلاقة الحميمية بين «سيلفاريو» وزوجته بخروج رأسه من رحمها بأنه لا ينفكّ يعاود إخراج رأسه بين الحين والآخر لأسباب غامضة. تطلب الزوجة من «سيلفاريو» في هذا المشهد أن يعيد الطفل إلى داخلها. وهنا يدور حوار مكثف وبعيد عن الثرثرة بين «سيلفاريو» وزوجته حول «الطفل» حيث يتساءل «سيلفاريو» بعد أن يدفعه قسرًا إلى رحم أمه قائلًا: «لا ينفكّ يعود. أظن أنه أراد أن يقول لنا شيئًا هذه المرة!» فتتساءل زوجته مستنكرة: «ماذا سيقول؟ إنه طفل!» فنفهم حينها بأن هذا الطفل «ماتيو» أول أولاد «سيلفاريو» لكنه لم يأت إلى الدنيا «لأنه كان يُحلّق في السماء بجناحيه الصغيرين» كما كانا يقولان لأخويه اللذين جاءا من بعده، لتقول الأم بأن «"ماتيو" مجرد فكرة الآن، ليس شخصًا» وكأنها إشارة إلى أن الفكرة لا تموت، بل يظل طنينها يتردد في آفاق الزمن والذاكرة الجمعية والفردية على حد سواء. هذا المشهد المكثف بالصورة السوريالية والحوارات المقتضبة والمفتوحة على التآويل محرِّض على التأمل الفلسفي في جوهر الوجود من خلال الرؤية العدمية المتمثلة في بقاء الطفل داخل رحم أمه لأن وجوده في ظلماته هناك أرحم من نور هذا العالم البائس.
في المشهد الذي يلي المشهد الافتتاحي السالف مباشرة، نشاهد «سيلفاريو» جالسًا على أحد مقاعد القطار وهو يحمل في يديه كيسًا ممتلئًا بالماء وثلاث أسماك. نسمع صوت جهاز قياس نبض القلب في الخلفية وصوتَ أنفاسٍ لاهثة، ونرى السيدة الجالسة على المقعد المقابل له تتساءل: «أذلك طبيعي؟ هذا الصوت، هل هو طبيعي؟». بعدها نرى ماء الكيس يملأ القطار و «سيلفاريو» يحاول اصطياد سمكاته في صورة عبثية. وبسوريالية صارخة، ينتقل المخرج بالصورة من القطار إلى منزل «سيلفاريو» الذي ينتقل له الماء كذلك ولا يزال «سيلفاريو» يحاول اصطياد سمكاته عبر الماء الجاري دون جدوى. وهنا نرى زوجته جالسة على الكرسي تراقبه وكأنها إحالة إلى المشهد الذي كانت فيه تراقبه وهو غارق في غيبوبته على السرير. من هذا المشهد الطافح بالرمزية نستطيع استنتاج عديد من التأويلات. أولًا، بإمكاننا النظر إلى الكيس على أنه إسقاط رمزي لمحيط عائلته حيث السمكات الثلاث تمثل زوجته «لوسيا» وابنه «لورينزو» وابنته «كاميلا»، واندلاق الماء من الكيس في القطار ومحاولة جمع الأسماك مرة أخرى يدلّان على فقدان «سيلفاريو» لأسرته من خلال موته، أو ربما فقدان السيطرة عليها، خصوصًا أننا سنرى مشهدًا في وقت لاحق تدور فيه مشادة كلامية بين «سيلفاريو» وابنه في المطبخ، حيث الأب يحكي له عن «أحد أغرب أفلامه وأشدهم عاطفية» حين وجد في الصحراء مهاجرين بسطاء من المكسيك يحاولون عبور الحدود الأمريكية ولكنهم توقفوا للصلاة عند تل «سيرو دي لاس بيدراس»، لكن هذه القافلة لم تعبر الحدود وبعض الناجين منها قصوا قصصًا مذهلة -على حد تعبيره- أمام الكاميرا،  فيُلقي الابن اللوم على أبيه لأنانيته واستغلاله لهم بتصويرهم وهم يتحدثون عن معاناتهم دون أدنى علاقة تربط بينه وبينهم، فمن منظور الابن، استخدم أبوه هؤلاء البسطاء واستغلهم ليتحدثوا عن «حياته»، ومن هذه الشرارة تتوسع المشادة بينهما حول وضعهم الاجتماعي والسياسي المضطرب، كونهم مهاجرين من المكسيك إلى أمريكا كذلك.
التأويل الآخر لهذا المشهد هو أن الكيس الممتلئ بالماء يمثّل دماغ «سيلفاريو»، حيث اندلاق الماء من الكيس يمثل اللحظة حين أصابته السكتة الدماغية، لأنه قبل نهاية الفيلم سنعود لمشهد القطار السالف من جديد لنرى «سيلفاريو» وهو يحمل كيس أسماكه، ولكن المخرج هنا يتخلى عن سورياليته التي رسمها لنا في المرة الأولى ليصور مشهدًا واقعيًا يوضح حالة «سيلفاريو» المرضية، إذ يقع الكيس من بين يديه ليندلق الماء بأسماكه الثلاث على أرضية المقصورة بصورة طبيعية. تخاف السيدة الجالسة أمامه، فتسحب ابنتها مبتعدة عنه مع بعض المسافرين حوله بشكل غريب وغير متوقع، إذ لا يحرك أي أحد ساكنًا لمساعدته أو سؤاله عن حاله، مما يجعل هذا التصرف غير المبرَّر خارجًا عما هو مألوف من تصرف اجتماعي طبيعي في مثل هذه المواقف، ليضعنا هذا أمام سؤال أخلاقي إزاء هذا الموقف الحاصل وتداعياته على ردة الفعل الإنسانية المفترضة. يصل به القطار وحيدًا إلى آخر محطة له في مدينة لوس أنجلوس لتدخل عاملة التنظيف حينها وتشرع في محادثته فلا يستجيب لها، لتهرع بعدها للاتصال بالطوارئ.
مشهد آخر زاخر بالدلالات، هو المشهد الذي يظهر فيه «سيلفاريو» وهو يتمشى في أحد شوارع المكسيك، فيقف عند أحد باعة اللحوم ليشتري «لسانين من ألسنة البقر»*. يلتفت على وقع سقوط سيدة عابرة على رصيف الشارع، وهنا على غير العادة -كذلك- يمر حولها العابرون دون أي مساعدة، لكن «سيلفاريو» يتقدم نحوها ليطمئن عليها ويسألها ماذا بها، فترفض الإجابة على سؤاله، وحين يحاول الإمساك بكفها لمساعدتها على النهوض تصرخ في وجهه: «دعني، لا تلمسني!»* فيمر أحد العابرين ويتوقف ليسأل «سيلفاريو»: «أهي ميتة؟»، فيجيب: «لا أعرف»، ولكنها هنا تقول بأسى: «لست ميتة، بل مفقودة»! وهنا يدور حوار مقتضب ولكنه مكثف وذو رمزية عالية عن ماهية الفقد، ليشرع السؤال أمام التآويل على مصراعيه، وكيف أنّهُنّ هكذا دومًا «يختفين، ويواصلن إزعاج الجميع، لا يعدن ولا يمتن»* على حد تعبير هذا العابر أمام «سيلفاريو». يرمز المخرج هنا بواقعة السقوط إلى ماهية الفقد، حيث المفقود يتقاطع مع الميّت في صورة السقوط وفي صورة الاختفاء في نظر الآخرين كذلك، ولذلك يكون المفقودون هنا سببًا للقلق النفسي المزعج للآخرين الذين يبحثون عنهم أو ينتظرون عودتهم على أمل اللقاء بهم من جديد، وبهذه الصورة يكون «الفقد» باعثًا على الأمل الذي هو -على حد تعبير «نيتشه» الفيلسوف- «أسوأ الشرور لأنه يطيل من عذابات الإنسان»*!
بعد هذا الحوار المُقتضب، نجد الناس يتساقطون الواحد تلو الآخر في الشارع. يحدق «سيلفاريو» إلى الأعلى، فيجد مبنى من شرفته يُطلّ رجل ببزته العسكرية محدقًا بدوره إلى «سيلفاريو» وعلى يمينه ويساره يرفرف عَلَمان يحملان شعار المكسيك. وفي صورةٍ رمزيةٍ كأنها دلالة لسقوط الحضارة «الأزتيكية» -كما سنرى لاحقًا- نجد الشمس تغرب سريعًا خلف المبنى، ويسود الظلام في الأفق. يمضي «سيلفاريو» بخطوات متأنية حتى يسمع أحدهم يناديه، فيتبع الصوت ليجد الرحّالة الإسباني «هيرنان كورتيس» جالسًا على كرسيه فوق جبل من الجثث البشرية.
يضع المخرج «سيلفاريو» هنا وجهًا لوجه -في محاكمة عبثية- مع «كورتيس» الذي غزا المكسيك بخمسمائة جندي في عام 1951م للاستيلاء على مقدراتها الثمينة وجعلها تحت سيطرة الإسبان، فوقع نتيجة لذلك كثيرٌ من القتل والنهب للسكان الأصليين (الهنود الحمر)، فضلًا عن تدمير حضارتهم بالكامل وسجن إمبراطورهم «مونتيزوما» في القصر الملكي قبل أن يُقتل لاحقًا أثناء محاولته الهرب عندما اشتعل شعب «الأزتيك» غضبًا بعد قيام نائب «كورتيس» في غيابه بقتل عديدٍ من الهنود الحمر المسالمين. في هذا المشهد نجد «سيلفاريو» يسمع «كورتيس» وهو يصدح بعبارات للشاعر المكسيكي «أوكتافيو باث» فيسأله «سيلفاريو» مستنكرًا : «من تخال نفسك حتى تسرق أفكار "أوكتافيو باث"؟» فيجيب «كورتيس» بغرور: «كلماته موجودة لأنني وُجدت يا "سيلفاريو"»، مشيرًا إلى أثره المتمثل في اكتشافه للمكسيك وتعليم شعبه الثقافة الأوروبية، فيجيبه «سيلفاريو» بصوت الشعب المكسيكي الذي لا يزال يكنّ الكره لـ«كورتيس» لجرائمه بحقهم: «أنت لستَ سوى… قاطع طريق...»* فيجيبه «كورتيس»: «أنت لا تعرفني، فلا أحد يعرفني»، فيرد عليه «سيلفاريو» بأنه «لو كان شعورك بالخزي متناسبًا مع الكارثة التي أعاثها غزوك، فربما كنت أكثر تواضعًا»*. يضحك «كورتيس» ساخرًا من قوله فتستمر «المحاكمة» بين الاتهام والدفاع حتى يرمي «كورتيس» سيجارته على جبل الجثث البشرية العارية. وفي مشهد عبثي ساخر، يقوم أحدهم منزعجًا بسبب حرق السيجارة لجلده، فينهض الجميع ليتضح لنا بأن هذه المحاكمة ليست إلا مشهد عبثي في فيلم -لا طائل منها- حيث نسمع صوت المخرج من بعيد ينادي الجميع بالعودة إلى أماكنهم لإعادة التصوير دون استجابة له. فما الفائدة الآن من هذه المحاكمة الهزلية وما قد وقع.. قد وقع!
ختامًا كما ذكرت سالفًا: فيلم كهذا الفيلم زاخر بالدلالات العميقة المتمثلة في صور سوريالية صارخة وحوارات مجازية مكثفة، لا تكفيه مشاهدة واحدة أو قراءة انطباعية قصيرة كهذه، ولكنها قد تعطي بعض المفاتيح للدخول إلى عوالم الفيلم من بوابات متعددة وأكثر رحابة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.الفيلسوف والأديب الفرنسي العدمي إيميل سيوران (1911-1995م) في كتابه (مثالب الولادة)
أ. عدنان المناوس
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا