«الوقت سرقني فحسب»، هكذا جاءت كلمات ديزي المسنة على السرير في لحظاتها الأخيرة. نحن نعيش تحت مطاردة فكرة مؤلمة مثل أننا نهدر حياتنا، بين الاختيار الصائب والوقت المناسب وتحقق القدرة، وضياع الرغبة، ومحاولات كثيرة، وحالات انتظار طويلة تُضيع حياتنا، العبء الأكبر حقًا، أن نموت بمزيدٍ من الأمنيات والذكريات الشحيحة، ما يعني أننا لم نعش المرة الوحيدة التي قُدّرت لنا. كان إله الزمن لدى الأغريق «كرونوس» يبتلع جل أبنائه بعد ولادتهم، في إشارة إلى أن الزمن يبتلع كل ما في الحياة، ولا يعد فيلم «الحالة المحيرة بنجامين بوتون» (2008) كونه أكثر من سردية عن معاناة الإنسان مع الزمن، الذي يبتلع كل شيء.
الفيلم مقتبس من قصة كتبها «ف. سكوت فيتزجيرالد» في 1921 عن رجل وُلد عجوزًا -ظاهريًا- ويعود إلى الخلف حتى الطفولة. تدور أحداث القصة في نيو أورليانز، وهي إحدى مدن ولاية لويزيانا الأمريكية، من نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين. وعلى الرغم من الفانتازيا في صناعة وتكوين الكاركتر الرئيس بالفيلم، فإن مشاهدته ليست بالسهلة على الإطلاق؛ يتلامس الفليم بقدر كبير مع مخاوف كل واحد منا تجاه الوحدة، والفقد، وعدم وجود أي قدرة على إيقاف مسار الزمان. ما فات فات إلى الأبد؛ «حياتنا تُحسب بالفرص، حتى التي لم نستغلها»، كما يقول بنجامين.
وعلى طريقة بنجامين نشأتُ في صغري بجوار جدتي، ما يعني فهمي للقرب من هواجس الموت التي نشأ بينها بنجامين في دار المسنين. لقد مر بكل شيء بشكل عكسي عما هو معتاد، ما يجعل الحقائق التي نهرب منها في حياتنا العادية، صارخة جدًا في حياته، خبرة وجودية نادرة أن ندرك معنى الموت قبل الحياة. في أول مرة شاهدتُ الفيلم بكيت بسبب تفكيري بأنني يومًا سأفقد جدتي، وبعد أن ماتت توقعت أنني سأتجنب مشاهدته للأبد، لكن تمكنت من إعادة مشاهدته، ومواجهة مخاوفي تجاه موت مَن أحبهم، والآن أكتب عن الفيلم، الذي في كل مرة كان قادرًا على تحريك دموعي، رغمًا عني.
ليس هذا الجانب الأوحد الصعب في مشاهدة الفيلم؛ من ناحية أخرى هناك انطباع كئيب عن الحياة يتسلل إلى روحك، وكأنك في رواية لفرانز كافكا أو ألبير كامو، فالحياة والقَدَر أمور مُسيّرة بشكل خارج عن إرادتنا، وعلينا القبول، ومحاولة النجاة بما هو متاح. على طريقة أسطورة سيزيف: «ياروحي لا تطمحي للمستحيل، لكن استنفذي حدود الممكن». الخلود أو عدم الموت أو الحب الأبدي، كلها أشياء مستحيلة، فعلينا التسليم للموت متى حان، والمكافحة ضد الزمن، على طريقة ألبير كامو في أن الحب النبيل هو الذي لا يدوم، وعلى الرغم من علمنا بإنه ليس أبديًا، فإننا نخوضه وكأنه مستمر للأبد، كالعلاقة التي جمعت بين ديزي وبنجامين. مثل روز في فيلم «تايتنك»، تحفظ ديزي قصة الحب في ذاكرتها، تظهر كامرأة عجوز في ساعاتها الأخيرة، داخل سرير بالمشفى، وبينما تنتظر الموت تطلب من ابنتها، أن تقرأ عليها مذكراتها، وكانت طريقة غير مباشرة لتخبرها عن والدها الذي لم تكن تعلم قصته.
يهتم الفيلم بأثر الأصوات، فديزي تنتظر الموت بين أصوات الرياح، التي تنبّئ بقدوم إعصار كاترينا، وكأن الإعصار نفسه الزمن، الذي يحمل الموت، وعليها التسليم له. وفي مشهد دك السفينة في الحرب، التي كان يعمل بها بنجامين، حضرت الأصوات بقوة. كانت الموسيقى التصويرية تعكس القلق والخطر، مع صوت الأمواج وحركة الهواء القوية والرصاص، وينتهي المشهد بصوت المياه الساقطة من أعلى لأسفل السفينة، في دلالة على ما مرّت به من خراب وتدمير. ويعلن الجنرال قائد السفينة الفلسفة المثلي للتعامل مع الموت حين وصوله قائلاً: «يمكنك أن تثور ككلب مسعور، بسبب ما آلت إليه الأمور، يمكنك أن تسب وتلعن الاقدار، لكن عندما يتعلق الأمر بالنهاية لا بد أن تستسلم».
اعتمد الفيلم على الانتقال في بعض مشاهده على خاصيات الـ fade in و fade out للانتقال بين الصور، مع سرد بصوت بنجامين، إلا أن أبرز هذه المشاهد هو ما جمع بنجامين مع ديزي على طاولة أحد المطاعم، وكان لقاؤهم الأول بعد عودته من الحرب وتغير هيئة بنجامين العجوز، كما أصبحت ديزي امرأة وقتها. كانت تتحدث باندفاع وشغف عن أشياء لا يعرفها ولا يهتم بها، إلا أنه أنصت لها باهتمام، في محاولة لإبراز كيف كانا بين عالمين مختلفين في هذه اللحظة، مع شعوره بإنه كبيرٌ كفاية لأن يبعد نفسه عنها. استخدم ديفيد فينشر -مخرج الفيلم- هذا الانفصال بين مسار الصوت وحركة الصور ليعطي هذه الدلالة.
وبعدها يأتي أحد أهم مشاهد الفيلم، بذهابهم إلى حديقة في نهاية الليل. تصعد ديزي والتي تعمل راقصة إلى البدن الرخامي داخل الحديقة، تتمشى بفستانها الأحمر، والجاكيت الأسود فوقه والذي تنزعه، بعد أن خلعت حذاءها ووضعته على الأرض. تخبر بنجامين أن الراقصين لا يحتاجون أزياء جميلة، ويمكنها تخيل نفسها عارية دومًا، لتبدأ في حالة الإغراء الحكائي، بفتح الحديث عن الجنس، مع استعراض راقص مع موسيقى الجاز المثيرة. ينتهي المشهد مع خيبة أنه الوقت غير مناسب الآن، فما زال رجلًا كبيرًا في السن بالنسبة إليها، ولا أعرف كيف استطاع مقاومة إغراء ديزي، إلا أن حالته الغريبة، كانت العائقَ بينهما وقيدَه الكبير.
قصة الحب داخل الفيلم لم تكن موجودة بقصة فيتزجيرالد الأصلية، إذ يقع بنجامين في حب ابنة الجنرال مونكريف، التي يتزوجها وبعد سنوات قليلة تكبر ويتلاشى جمالها، ما يدفعه للذهاب إلى الحرب لتجنب البقاء في المنزل معها. تنحل العلاقة، وتنتقل إلى إيطاليا، ولا يتم ذكرها مرة أخرى في بقية القصة، إلا أن معالجة الفيلم بدلًا من ذلك نسجت قصة حب أسطورية، قادرة على إيصال نفس أفكار القصة عن الحياة، واستوحت اسم ديزي من رواية «غاتسبي العظيم» لنفس الكاتب، والتي تشير إلى المرأة الكاملة والأكثر إبهارًا، أو المرأة الخالدة بتعبير الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته.
وعلى الرغم من أن الموت والدعوة إلى تقبله جزء أساسي من رسالة العمل، وخلق حالة كآبة للمشاهدين، فإن قصة الحب أشد في أثرها، لأنها تُرسّخ لفكرة واحدة وقاسية، أن لا شئ يدوم، وعلى الإنسان أن يعيش حالة الكفاح مدحرجًا الصخرة كسيزيف لقمة الجبل، مع تمام علمه أنها سوف تسقط ثانية للقاع. لم يكن هاجس الموت وحده هو ما يجمعني مع حالة بنجامين بوتون، فهناك هواجس أخرى مثل الوحدة التي تعرّف إليها في دار المسنين، مع حضور أعداد كبيرة من الناس التي ترحل. ينتاب حياتي لحظات ركود ورتابة، ودّعتُ كثيرين بالفعل، ولا أجد ما أفعل في إجازتي الأسبوعية، أو الإجازات الطويلة. أتسكع طيلة الوقت وحدي، وأسافر وحيدًا، وأعتمد كثيرًا على لقاءات العابرين في السكك.
إلا أنني وجدت عزائي مع كلمات السيد نجوندا أوتي، أحد هؤلاء العابرين لبنجامين: «أغلب الوقت ستكون وحيدًا. البُدُن والنِحاف والطوال وذوو البشرة البيضاء كلهم وحيدون مثلنا بالضبط، لكنهم خائفون». وعدم الخوف يأتي من تقبُل القَدَر، وعدم السماح للهزائم ولحياتنا المأساوية أن تهزمنا. يلعب الأشخاص الهامشيون والعابرون دورًا مُهمًا في حياته، منهم السيدة التي لا يتذكر اسمها إلا أنه يقول عنها: «علمتني العزف على البيانو، وعلمتني معنى أن تفقد إنسان». فبعد أن أعلمها بسره أنه يصغر بالعمر بدلًا من أن يشيخ أكثر، أخبرته أن عليه رؤية من يحب يموتون قبله، مؤكدة أنه «قُدِّر لنا أن نفقد من نحبهم، وإلا كيف سنعرف أنهم مهمون بالنسبة إلينا؟»
من هواجس الموت الذي يؤثر في الحياة، والوحدة التي نحاول التخلص منها، توحدتُ معه على الهاجس الأكبر: الحب المفقود. الأمر أشبه بأن يتم ركلك من جنة عدن. كانت ديزي -ومنذ أن كانت طفلة- تمنح بنجامين الطاقة اللازمة لأن يشعر بأنه من جل أعماقه سعيد. إنها حالة خطيرة حين نكتشفها ونعتاد عليها، ثم لا تصبح سوى ذكرى في الدماغ، وبقايا صور من الذاكرة لا يمكن استعادتها. أعلم جيدًا مثل بنجامين ما إن تبدأ القصص حتى تسير إلى نهايتها، ما يجعل الحب مؤسفًا مقرونًا باللذة الجامحة والألم العميق الذي يسبر أغوار روحنا.
يقوم بنجامين بدور الراوي. أشعر وكأنه يقص مأساته من داخل دماغي. حتى الزمن ليس خطيًا متصاعدًا بأحداث تسير وتتحرك للأمام، إنه كحالة مهلهلة من نبش الذاكرة، حركة متواصلة بين التاريخ الشخصي واللحظة الحاضرة، يجمع الأول حزن بنجامين بوصفه راوٍ، والثانية حسرة ديزي وهي تسمع مذكراته بواسطة ابنتهما الوحيدة، التي تكتشف سرهما في اللحظات الأخيرة من حياتها.
في النهاية يكتسب خفة الريشة التي تحركها الهواء في فيلم «فورست غامب»، أو بتعبير بنجامين نفسه: «سوف أترك هذا العالم على نفس الحال الذي أتيت به، وحيدًا ولا أملك شيئًا». لقد تقبّل عيوبه ونقصه وفناءه وأخبر ابنته في رسالته النهائية: «لم يفُت الأوان قط -أو في حالتي، ليس من السابق لأوانه أبدًا- على أن تكون من تريد». الحياة لا تعرف الثبات، وتغير الأوضاع جزء مقدر للجميع فيها، كما لا يمكننا تفسيرها؛ كل شيء فيها لغز، لا يحتاج إلى حل أو تفسير. وبما أنها لغز فعلينا أن نكف عن التفكير، ونقبل القدر، ونبحث عمّا يرطب القلب ويخفف عنه، فإذا كانت الحياة مآساة، يمكننا إضفاء طابع جمالي عليها، بأن نكون ما نريد وألا نكف عن المحاولات حتى لو كانت المُحصِّلة النهائية هزيمة فادحة.
كان بنجامين يعلم مصيره، ونهاية علاقته بديزي، ومع هذا خاض العلاقة التي تشعره بالانسجام مع نفسه ومع العالم، فبعضُنا شغوف بامرأة وبعضنا الآخر شغوف بالأطفال، وبعضنا شغوف بالإنجاز أو الهروب إلى الهدوء والطبيعة، أو أيًا ما كان. المهم أن نفعل ما نريد أو لا نفعل؛ هو قرارنا الشخصي، إلا أن هذا القرار يحتاج أن نرى الحياة معكوسة من النهاية إلى البداية بعينِ وعقلِ وقلبِ بنجامين، لنملك صبره في مواجهة كل عواصف الحياة، ليخرج فائزًا بالتجارب على الرغم من هزيمته أمام «كرونوس» إله الزمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش