تقاوم سينما المخرج الأمريكي «جيم جارموش» كل محاولات التصنيف، فبرغم استحضاره الدائم لرموز الثقافة الأمريكية التقليدية في أفلامه مثل: الطريق، الحدود، البطل الوحيد، والأمل في مستقبل أفضل، فإن أفلامه تحمل ثقافة مضادة لكل ما هو أمريكي. بعيدًا عن هوليوود، صنع «جارموش» موضوعاته الأثيرة حول الجذور، وقاد نجاحُ أعماله الأولى إلى تعزيز مكانته باعتباره مُخرجًا مستقلًا على الساحة الدولية.
بدايات موسيقية
في سن التاسعة عشرة، انتقل «جارموش» من الغناء في فرقة «ديل بيزانتينز» إلى صناعة أفلام حول الموسيقى (ليس الموسيقى نفسها، بل ما نسميه اليوم فيديوهات موسيقية). تنقّل بكاميرته من حفلة موسيقية إلى أخرى، موثّقًا نوعًا من يوميات صامتة للمشهد الموسيقي في أفلامه القصيرة الأولى عن فِرَق الروك مثل «البيتلز»، و«روكسي ميوزيك»، و«رامونز»، وعن «ديفيد بوي» و«باتي سميث» و«ريتشارد هيل». ولأنه لم يكن يملك معدات التسجيل، كان يضيف الأغاني ويزامن التسجيلات الصوتية في وقت لاحق (1). حينما حصل على جهاز تسجيل كاسيت محمول، تشكّلت رؤية سردية أخذت في النضج أكثر فأكثر، إلا أن «السرد» في ذلك الوقت لم يكن ضمن الذوق الطليعي السائد، فقد كان عصر «أندي وارهول» و«جون كاسافيتس» و«غودار» والموجة الفرنسية الجديدة.
جاء «جارموش» إلى صناعة الأفلام من الأدب الإنجليزي الذي درسه في نيويورك، فلم يدرس السينما، بل تزوّد بمعرفة أدبية، وهوَس موسيقي، ونزوع شِعري، وشبكة علاقات مع موسيقيين ومخرجي السينما المستقلة، ناهيك عن علاقته بمشهد اللامَوجة في أواخر السبعينيات باعتباره موسيقيًا ومخرجًا. وجَّهت رؤيته السينمائية نزعة موسيقية واضحة, فقد ملأت موسيقى «البيتلز» و«بوب ديلان» و«رولينج ستونز» و«جيمي هندريكس» حياته، «وربما كان بوب ديلان هو التأثير الأكثر أهمية في حياتي، أكثر من أي مخرج أفلام على الأرجح، حيث ربطني بجيلي الذي نشأت معه»، بحسب مقابلة له (2). عند رؤية أعماله، نلحظ المزيجَ الذي خلقته السينما والأدب والموسيقى في تشييد عالمه الخاص به، وما أصبح يُعرَف بـ«سينما المؤلف».
سينما الهامش والدخيل
كانت أعمال «جارموش» الروائية المبكّرة عن موسيقيي الجاز المغمورين، ورغم استكشافه لأنواع متعددة في السينما -فيلم العصابات، فيلم السجن والهروب، فيلم طريد القانون، فيلم الكوميديا الرومانسية، فيلم الساموراي، فيلم الطريق، فيلم الغرب الأمريكي (الويسترن)، وفيلم مصاص الدماء- نرى أن النوع مجرد واجهة لحكايات متشابكة عن أمريكا ما بعد الحداثة. «أظن أني سأصنع أعمالاً عن أناس هامشيين ودخلاء»، هو نفسه قال هذا، وظلّ وفيًا له طوال مسيرته.
يبني «جارموش» فكرة السينما على المشاركة «الجماعية»، إلا أن أبطاله يسافرون في عالم لا يعرفونه ونادرًا ما يفهمونه. وبرغم استخدامه المناظرَ الطبيعةَ والمساحاتِ الفارغةَ التي تُوظَّف كأطلال فارغة وموحشة عن الحضارة والعالم الحديث -وهو ما يدفع بعض الناس إلى استخدام مصطلحات مثل «الاغتراب» لوصف أفلامه- لا يجعل شخصياته تتخلى عن التواصل، وإن كان هذا لا يعني أنهم ينجحون.
السينما من منظور صوتي
رغم افتتان «جارموش» بأفلام «أوزو» من حيث الثبات في التصوير وإيقاع حياة الشخصيات، فإنه لا يصوّر الحياة بشكلها البطيء باعتبار ذلك خيارًا جماليًا، بل باعتباره إيقاعًا معارضًا لعالم ما بعد الحداثة، حيث تسيطر الحياة السريعة على يوميات الناس. تتيح هذه التأملات -حيث يشيع الصمت والفراغ، والتي غالبًا ما تتولى الموسيقى فيها دورًا مركزيًا- سرد فلسفته.
في أفلام «جارموش»، لا يُختزل الصوت أبدًا إلى مجرد تعليق في الخلفية، لكنه يصبح منطقة مفتوحة ومتعددة للإنتاج الرمزي، منطقة قد يصبح فيها التأثير الصوتي هو حامل البنية السردية، بحيث تلعب الموسيقى دورَ المحاور الذي يُمكن التحدث.
تتجلى الموسيقى في فيلم «جارموش» الأول «إجازة دائمة» بوصفها معنىً في حياة أبطال محكومين بالسأم والملل، وفي فيلم «قطار الغموض» الذي يوجّه فيه «جارموش» تحية إلى «إلفيس بريسلي» وتقاليده الموسيقية في اسم الفيلم المُستوحى من أغنية له، يسبر أسطورة مدينة ممفيس وعالم الروك أند رول فيها. ولكن في فيلمَي «فقط إذا بقوا العشاق» و«رجل ميت»، تُوجِّه الموسيقى عالمَي «جارموش»، ففي ألبوم «نيل يونغ» في فيلم «رجل ميت»، تُظْهِر الموسيقى التصويرية اختلافات عن الألبوم الفعلي، إذ تستجيب موسيقى «يونغ» بوضوح لإيقاع الفيلم والصور والأفكار. يعرض الفيلم شخصيات فردية على خلافٍ مع مجتمعهم، لكن الموسيقى التي سجلها «يونغ» -من دون فرقة- تعزّز التحقيق النقدي في العلاقات بين البيض والهنود.
كيف يحرس الشعر والموسيقى أبطال «جارموش»؟
يفتتح «جارموش» فيلم «فقط العشّاق بقوا أحياء» بلقطة عمودية لأريكة حمراء بالية مثل جزيرة عائمة في بحر من معدّات التسجيل القديمة: مكبرات الصوت، الميكروفونات، أشرطة تسجيل، وكثير من الآلات الوترية من جميع الأنواع، معظمها جيتارات كهربائية قديمة. «آدم» (تيم هيدليستون) مصّاص الدماء، بملابسه التي تشبه أزياء موسيقيي الروك أند رول في الستينيات، بشعر داكن وفوضوي، ويَدَين بيضاوين تعودان إلى عصر النهضة، يحيط نفسه بالموسيقى، في حين أن «حواء» (تيلدا سوينتون) تقرأ الشعر والأدب.
يمنح «جارموش» الموسيقى والشعر قدسية في عالم بلا مُثُل، فتصبح الموسيقى عزاء في حياة «آدم» الذي يراقب أخطاء بني جنسه لقرون ويقاوم رغبة ملحة في الانتحار، على حين تجد «إيف» عزاءها في الكتب. يؤلّف «آدم» الموسيقى في عزلة صارمة بحيث يخلق عالمًا موسيقيًا داخليًا ينهض على قطع من الجيتارات النادرة ومعزوفات أصيلة دون رغبة في كشفها لأحد.
تتواشج موسيقى الفيلم بالخفة والعمق، القسوة والجمال، بحيث تعبِّر بشكل جلي عن مشاعر «آدم»، ورغم مركزية الموسيقى في فيلم «فقط العشاق بقوا أحياء»، فإنه من العدل القول إن سينما «جيم جارموش» أقرب إلى الشعر منه إلى الرواية، فهو أقل اهتمامًا بالحبكة مقارنة بالشخصيات والمكان والزمان والأفكار، حيث يشعر بالحرية في تجاهل أسئلة الحبكة الدرامية التي تفضّلها هوليوود.
ترسخت عادة استعراضية في أفلام هوليوود حيث تجعلنا نرى أشخاصًا يقرؤون كتبًا من أجل المتعة، وأحيانًا بشكل متطفّل على الشخصية والقارئ معًا. ولكن في سينما «جارموش» تختلف دلالة الشعر في كل فيلم: ففي فيلمه «رجل ميت»، يرمز الشعر إلى التحوّل الجوهري، حيث تؤكد جملة نوبادي «الآن سيكتب شعرك بالدم» قوة الشعر في سينما «جارموش»، كما يتحقق الاتزان الداخلي عند بطل فيلم «جوست دوج» بواسطة الشعر والقراءة المتواصلة، ونجد افتتانه الخاص باستحضار شعراء قدامى، حيث يطلق على أحد مصاصي الدماء اسم الشاعر «كريستوفر مارلو» في فيلم «فقط العشاق بقوا أحياء»، كما يطلق على «جوني ديب» اسم الشاعر «ويليام بليك» في أكثر أفلامه نقدًا لأمريكا «رجل ميت»، إلا أنه يعلي من قيمة الشعر أكثر في فيلم «باترسون».
«باترسون» هو التكييف الحر للقصيدة التي كتبها الشاعر «ويليام كارلوس». يرصد «جارموش» سبعة أيام في حياة سائق حافلة نقل عام يدعى «باترسون» (آدم درايفر) يعيش مع زوجته «لورا» (غلشيفته فرهاني) في مدينة تحمل أيضًا اسم باترسون في ولاية نيو جيرسي. يروي الفيلم قصة زوجين شابين، يقوم كل منهما، في مساره الأسطوري الخاص، بإعادة خلق العالم من جديد من خلال الشعر وتصميم الأزياء والكعك. «باترسون» شاعر يجد إلهامه الشعري فيما هو عادي ويومي. يكتب قصيدة في علبة ثقاب ماركة «أوهايوبلو تب» أو في حب زوجته «لورا». يستعيد «جارموش» أيضًا خلال الفيلم روابطه العاطفية مع شعراء مدرسة نيويورك «فرانك أو هارا»، و«جون أشبري»، و«والاس ستيفنز»، و«رون بادجيت» (الذي كتب قصائد هذا الفيلم)، والذين اعتبرهم دومًا كآباء روحيين.
يرشد الشعر «جارموش» وأبطاله. إنه أيضًا استكشاف دقيق لحياة مدينة باترسون، نيو جيرسي وأناسها وجوهرها، موطن الشاعر «ويليام كارلوس ويليامز» وقصيدته الملحمية «باترسون».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. كانت الأفلام الأولى التي صنعها بكاميرا Super 8 الخاصة به أفلامًا صغيرة لجميع أغاني الألبوم الأبيض لفرقة البيتلز، وكان يُطلق عليها الفيلم الأبيض. ولكن عندما كان يعيش في إحدى الشقق، ألقى شخص ما كان يعيش هناك كل أفلامه، أفلامه المبكرة، خلاصة عمل أربع سنوات. ينظر كتاب سارا بياز، «جيم جارموش: موسيقى، كلمات، وضوضاء»، 2015.
2. المصدر نفسه.
3. في حواره مع "سارا بيازا" تسأله: هل سبق أن كنت عضوا في فرقة؟ يرد "ليس حقا، أعتقد أني لو كنت موسيقيا في يوم من الأيام، فربما لم أكن لأصبح صانع أفلام، لأن الأمر أكثر مباشرة، بطرق عديدة مثيرة للإهتمام" . وعلى العكس من ذلك، نجده في دراسة لجيف أندرو بعنوان "جيم جارموش: إنه عالم حزين وجميل" يؤكد أنه كان عضوا في فرقة موسيقية، كما يؤكد جوجل على ذلك.