في أفلامه، منذ بداياته، لعبت المرأة دورًا أساسيًا وقويًا، وذلك من خلال خلقه لشخصيات نسائية حيوية، ذكية، قوية، وذات طاقة. أفلامهُ تُعد نموذجًا للقدرة على اختراق السيكولوجيا الأنثوية، لتعبّر عن رؤية خاصة للنساء.
يقول بيرغمان: «النساء يثرن اهتمامي كموضوعات بسبب الطريقة السيئة، السخيفة، التي بها كانت السينما تنظر إلى المرأة، وطريقة تعاملها المهين مع قضايا المرأة. أنا ببساطة عرضت حقيقة المرأة كما هي، حسب منظوري، وليس كما أرادت أفلام الثلاثينيات والأربعينيات أن تُظهرها في تلك الصورة الغبية. إن أي معالجة واقعية للمرأة ستبدو عظيمة قياسًا إلى ما كانت تفعله أفلام تلك الفترة. ليس ثمة قصة، أو مشكلة، خاصة بالمرأة، وقصة أو مشكلة خاصة بالرجل. كلاهما يعيشان القصة نفسها، ويواجهان المشكلة نفسها».1
كشف بيرغمان، في أفلامه، عن افتتانه بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وما تنتجه هذه العلاقة من توترات محتومة. التوترات تنشأ عادةً من التعارض بين حاجة المرأة ورغبتها في حياة متحققة على نحو ملائم، وعجز الرجل أو ممانعته -لسبب من الأسباب كالكبرياء أو الغرور أو قصر النظر أو غير ذلك- في الاستجابة وديًّا إلى تلك الحاجة أو الرغبة.
وعن هذا قال المخرج برتران تافرنييه: «بيرغمان كان أول من عرض الظواهر والعناصر الميتافيزيقية -الدين، الموت، الوجودية- على الشاشة. لكن أفضل ما قدّمه هو الطريقة التي بها تحدّث عن النساء، عن العلاقة بين الرجال والنساء».
لقد حقّق عددًا كبيرًا من الأفلام التي تركّز بؤرتها، في المقام الأول، على وجهة نظر المرأة، في حين أن الشخصيات الرجالية مصوّرة في ضوء أقل إيجابية من نظيرها المرأة.
المرأة، في أفلام بيرغمان، نظرًا لكونها «قريبة من الحياة» (حسب تعبيره)، تبدو عادة أكثر صرامةً، أكثر معرفةً، وأكثر قوة، من الرجل الذي غالبًا ما يبدو ضعيفًا وغير فعال أو مؤثر. وهي تعتمد أكثر على الحدس والغريزة، كما أنها أقل عنادًا من الرجل. النساء هنا أكثر إثارة للاهتمام من الرجال. إلى جانب كونهن الأقوى والأكثر عمقًا، هن قادرات على منح الحب والكراهية بالدرجة ذاتها، وبالعمق ذاته. وبينما يميل الرجال إلى الذبول أو الغياب، نرى النساء صامدات، ويبرهن على أنهن غير قابلات للتصدّع والانهيار. وكأن بيرغمان يريد أن يعلن عن سقوط النظام البطريركي (الأبوي)، تفسخه، انحلاله، وانهياره النهائي. هكذا تتفكك بنية السلطة الأبوية أمام أعيننا، وتتحطم أمام الحب الأنثوي، ويتمّ الإعلاء من مكانة النظام الأمومي.
المرأة، في أفلامه، تمثّل قِيَمًا معيّنة خاصة، يفتقر إليها عالم الرجال، مثل: النزوع العاطفي، النمو، القوة، الدفء، الكليّة، الحدس، النضوج. الرجل، من جهة أخرى، يمثّل الطرف النقيض: العقلانية، الاستعلام، العقم، الفتور، اللامبالاة، الاستغلال، اللاانسجام، العنف، وعدم النضوج.
المرأة باستمرار تتعلّق بعاطفة الحب، وتتعامل مع محيطها بحنان ورقّة، في حين يكون الرجل، جسمانيًا، متصلبًا، أخرق، وعلى عجلة من أمره. حتى في الفعل الجنسي، نشعر بأن هناك مباراة في لعبة السلطة والسيطرة بين الرجل والمرأة.
كما أشرنا، معظم أفلام بيرغمان تركز على العلاقة بين الرجل والمرأة، وفي بداياته خصوصًا كانت المرأة الشابة في البؤرة، في المركز. لكن في أفلام أخرى، مثل: «الصمت»، «برسونا»، «صرخات وهمسات»، «سوناتا الخريف».. نجد التركيز على العلاقة بين امرأتين أو أكثر، وهي علاقات عاطفية ونفسية، مركّبة ومعقّدة، ضمن أوساط بطريركية بالدرجة الأولى. هنا نرى رصدًا دقيقًا وحساسًا لوعي المرأة ومشاعرها وتجاربها (مع الرجل والعائلة والمجتمع) والروابط الأسرية وعلاقات الصداقة وما تتعرّض له من ضغوطات وكوابح. في هذا العالم النسوي، حضور الرجل يكون عابرًا لكن مؤثرًا بعمق. وفي هذه الأفلام لا نجد اهتمامًا شديدًا بالصلات الطبقية الاجتماعية، لكن يسهل اكتشافها.
المرأة، في أفلام بيرغمان، لا تمثّل دائمًا ذاتها، وبالتالي لا ينبغي الحكم عليها على أساس سيكولوجي واقعي. كمثال، في فيلم «الصمت» نجد أن المرأتين من ضمن المكوّنات، أو العناصر الأساسية، في العالم البيرغماني، وهما في حد ذاتهما يمثّلان مفهومين متعارضيْن: الفكر مقابل الشعور، الروح مقابل الجسد، الذكورة مقابل الأنوثة.
لكن هناك مَن ينتقد بيرغمان على موقفه من المرأة، خصوصًا تلك الأقلام النسائية التي لا تتفق مع رؤيته في ما تتصل بقضايا المرأة. تقول الناقدة جوان ميلين في مقالة منشورة في مجلة Film Quarterly، عدد خريف 1973:
«غالبًا ما يزعمون أن بيرغمان، مثل أنطونيوني، مخرج يتّخذ من المرأة موضوعًا له، ويمتلك قدرة فذّة على فهم نفسية المرأة وتصويرها. صحيح أن عديدًا من أفلام بيرغمان تركّز بؤرتها على النساء، وكيف يتكيّفن مع قَدَرهن في الحياة.
بالفعل للنساء أهمية كبيرة في أفلامه، ويستخدمهن بوصفهن رموزًا لمأزق الكائنات الإنسانية المعذّبة، المغتربة، والمنسلبة، والتي يوظفها بيرغمان كناطقات بلسان المرأة للتعبير عن رؤيته الخاصة للعالم. شخصياته النسائية أحيانًا تخدمه في التعبير عن ألمه بسبب عجزنا عن استنباط المعنى من الحياة إلا في لحظات نادرة من الوجْد الحسّي.
ما هو لافت، بشأن معالجة بيرغمان للنساء، ليس الدور الفلسفي، بل معالجته لشخصياتهن. إنه يقدّم تفسيرًا لعجز شخصياته النسائية عن إيجاد الغاية في كونٍ بلا موجّه، مختلفًا جدًا عن الشخصيات الذكورية، الذين يخفقون لأن التماساتهم غير مستجابة، ولأنهم يفتقرون إلى قابلية العناية والاهتمام بالآخرين. الشخصيات النسائية واقعة في الشرك عند مستوى أحادي العنصر من التطور البشري. حياتهن تفتقر إلى المعنى لأنهن متجذرات في البيولوجيا، وغير قادرات على اختيار أسلوب حياة مستقل عن الدور الجنسي الأنثوي. إن بيرغمان يصوّر المرأة كما لو أنها في الدرجة الأدنى من القياس النشوئي. وهو يصرّ على أن المرأة، بسبب تكوينها الجسماني ووظائف أعضائها، محاصرة في حياة جافة وعقيمة وفارغة، فيها هي تشعر بالرعب ما إن تبدأ التجاعيد في الظهور على الوجه.
المرأة في عالم بيرغمان سلبية، غريزية، خاضعة، ضعيفة، شاحبة، ومحتجَزة داخل تكوينها الجسماني. سلوكها اعتباطي، بديهي، يتعذّر تفسيره أو تعليله».
عندما يخلق بيرغمان شخصياته النسائية المدهشة، فإنه يتعامل مع أفضل وأقوى الممثلات في السويد (بل وفي السينما العالمية أيضًا): إنغريد ثولين، بيبي أندرسون، ليف أولمان، هارييت أندرسون، غونل ليندبلوم. مع هؤلاء الممثلات الرائعات، خلق بيرغمان بعضًا من أعظم الأدوار للنساء في تاريخ السينما. وفي هذا يقول: «أحب أن أعمل مع النساء لأنهن يمتلكن حساسية خاصة مرهفة. في الواقع، أنا أتأسف لعدم وجود نساء كثيرات يعملن في مجال الإخراج، وأعتقد أن هذا شيء جنوني».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. من مجلة «بلاي بوي» Playboy، في عدد يونيو عام 1964