مقالات

للمدن أرواح: الإسكندرية

لا أعلم بالضبط ما الذي يجعل الإسكندرية مدينة استثنائية؛ شخصيًا أحب المدينة لأنني حظيت بنصيبي من الذكريات الطيبة في أروقتها. بشكل شبه سنوي نزور المدينة في الشتاء، وتنقص من قيمة ذلك الفصل حين نغيب عن المدينة، وربما لأن كثيرًا من الحكايات التي لُقنتها وحفظتها عن ظهر قلب اتخذت من الإسكندرية مكانًا للحكاية، فقد عاشت أمي فترة طويلة من حياتها في المدينة، وبشكل عام فالمدينة بجانب القاهرة هي أكثر المدن التي تناولها الفن، بل تمتاز الإسكندرية في أن حضورها غالبًا ما يكون شاعريًا حالمًا في السينما والموسيقى والأدب. الارتباط بالمدينة مبدأ راسخ في الثقافة، وبالإسكندرية بالتحديد، والسبب الأعم والأشمل الذي اهتديت إليه، أنها ببساطة مدينة بديعة، مزاجية قليلًا من حيث الطقس ولكنه غالبًا ما يكون هادئًا ومريحًا، شخصيتها معماريًا فريدة، وتطل على البحر.


«رسائل البحر»: فيلم لداود عبد السيد


«بيتهيأ لي الحكاية بدأت قبل كده بكتير، جايز حتى قبل ما أتولد، لأني عشت الجزء الأخير من تغيير اجتماعي، وجايز اللي حصل لي كان نتيجة من نتائج التغيير ده في مدينة لسه فيها ريحة زمان».
في فيلمه «رسائل البحر» (2010) لا يتعامل داود عبدالسيد مع كيان المدينة بشكل غامض، ولكنه يُعبّر عن اهتمامه بفكرة روح المدينة وشخصها على لسان بطله وراوي قصته «يحيى». اتجه «يحيى» إلى الإسكندرية بعد وفاة والديه وسفر أخيه. شاب قرر أن يبدأ بداية جديدة، أو بشكل آخر، قرر أن يبحث عن نسخة من نفسه أحَبّها أكثر من غيرها، فبحث أولًا عن المكان، وبدأ يتحرك بحرية، فتبدل حاله من طبيب عاطل إلى صياد، لا تضره اللعثمة في الصيد كما ضرته في الطب، ولا تُعرّضه للسخرية، وكما عاد لعالم ماضيه واستقبلته «فرانشيسكا» و«كارلا»، تفتحت أمامه عوالم لم يدخلها من قبل، فاكتسب صديقه «قبيل» وعرف حبيبته «نورا» وتعلق بموسيقى تأتي من شباك يجهل مَن تُخفي ستائرُه خلفها، واصطدم بشرير القصة «الحاج هاشم»، وعلى هامش كل ذلك، تلقى رسالة من البحر 1.


من أهم سمات سينما «داود عبدالسيد» من حيث الكتابة، هي قدرته على تناول أفكار فلسفية متنوعة وتطويرها داخل قصته دون أن يقع في فخ أن تُزاحم الموضوعات بعضها بعضًا، فنجد أنه مشغول في خط قصته الأساسي بفكرة الحرية، ثمنها، وتطوُر «يحيى» من خلالها، وفي نفس الخط يتعامل مع فكرة النضج، فتجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ومعها يتناول رؤيتنا لأنفسنا وللآخر، كيف تتطور وتتباين، بل ويعكس البُعد الاجتماعي للفكرة ذاتها، ومن خلال رسالة البحر، يطلق مساحة التأويل الساحرة، فيبحث «يحيى» عن المعنى، وخلال رحلة نضجه، يسلّم لفكرة أنه ما زال مجهولًا، ولكنه أيضًا يوقن بوجوده، فإن الرسالة بين يديه، رسالة من البحر إليه.


والمدهش هنا أنه لم يكتفِ بذلك، بل تجد في قصصه الفرعية الشيء نفسه، فيُعبّر من خلال «قبيل» عن الوزن الذي تحمله ذكرانا في تشكيلنا، فيحرص «قبيل» على تسجيل ذكراه قبل الاستسلام للنسيان، وأشد ما يخاف ذلك الضخم الوديع، أن يُسلّم عليه أحد فلا يعرفه ويجرح شعورَه. من خلال «فرانشيسكا» يحكي عن ارتباطنا بالأماكن وما تُمثّله لدينا، وما يمثله «الحاج هاشم» من تهديد مستمر لأكثر شخصيات الفيلم تعلقًا بالمكان: الأوروبية التي سكنت الإسكندرية، فأصبحت جزءًا راسخًا منها. يستهدف «الحاج هاشم» السيطرة على شقتها. تشكو لـ«يحيى» في لحظة عتاب للزمن و المدينة: «أنا طول عمري في إسكندرية، رحت إيطاليا زيارات، بس أنا إسكندراني طول عمري.. نلاقي فين شقة زي دي؟» و هذا ما حاول «يحيى» هو الآخر أن يقوله: «البيت ده مش مجرد بيت، ده ذكريات وتاريخ»، ولكنه تلعثم..


ننزل دائمًا بحَي «محرم بك»، في شقة جدتي -خالة والدتي- التي أخبرتها في مرة بعدوانية طفولية بكرهي لضيق شقتها، شقتها التي أحب؛ يستحيل أن يجمعك رواقها مع شخص آخر، تنبض حوائطها بالقصص، صور لأجيال وأجيال، تحيى معها الحكايات، وتوفر احتياجًا دائمًا للاستذكار والرثاء. سكنَتها جداتي في أوائل الخمسينيات، وهناك كانت طفولتهن. افترق عنها بعضهن بالزواج وأخريات بالموت، وعاصرَت شخصيات لا حصر لها: أربع أجيال يتوارثون شقة بعقد إيجار قديم.. أيمكنك أن تتخيل كم قصة عاشتها شقة «فرانشيسكا» هي الأخرى!
الإسكندرية في «رسائل البحر» مدينة بديعة، تساعد «داود عبدالسيد» على توظيف قصته مرئيًا بشكلٍ ساحر، ويخلص في ذلك «داود» كل الإخلاص، بل ويُعبّر عن مشاعر رقيقة تجاه المدينة، فتكون أول ما يُحرّض «يحيى» على الحرية والخفة، وتكون المدينة التي عاش فيها حبه الأول في طفولته، والتي عاش فيها حبه الأجمل في شبابه، تعرف فيها إلى نُبل الصداقة، وقيمة الذكريات، وأهدته كيانًا كالبحر يتواصل معه، يناجيه ويتلقى رزقه من خلاله، وإن كان لم يفهم رسالته، إلا أنه يحاول، ويُقدّر أنها رسالة من البحر إليه.


14 سبتمبر 2023
نصف ساعة بعد منتصف الليل،


ربما كانت آخر زيارات الإسكندرية قبل هذه الزيارة من حوالي سنتين. أغلب زياراتي كانت شتوية، وهذه الزيارة صيفية بعد أخبار عن عاصفة يبدو أنها انتهت ليلة سفرنا. تلك الرحلة استثنائية لأنها أول رحلة أكون وأخي بمفردنا. الطقس شديد اللطف؛ الهواء خفيف ومسلي. نزلنا في الشقة ذاتها، شقة ضيقة، وهذه ليست بعدوانية طفولية أو تذمر مراهق، بل مجرد وصف دقيق لشقة مضيفة عايشت كثيرًا من القصص، وبدأنا رحلتنا نبحث عن البحر. المدينة ما زالت تحافظ على بعض الخَضار، الأشجار تتطاير وتظل، والمعمار كما هو متنوع عشوائي في بعض المناطق، وجميل ككلٍ يحتفظ بشخصيته، على الأقل ما صادفناه منه. لم تتغير كثيرًا بعد، مزدحمة قليلًا. أتصورها كانت أزحم بشكل فج عن ذلك في أغسطس. المدينة تحرّضك على المشي في وقت كهذا؛ الشمس ليست حادة قُرب المغرب. ممارسة المشي في المدن التي تحب المشي دائمًا ما تكون تجربة مثرية، ربما كانت أخف تمشية عايشتها في تاريخي الإنساني الضئيل. لا يتطلب الأمر أكثر من طقس حميم وونس في الطريق، فالمدينة أيضًا تحث على المحادثة والمشي البطيء، فتتحرك المحادثة عن المدينة والسينما والرغبة في الهروب من القاهرة، وتتضاعف قيمة رحلة كتلك على أقدامك حين تكافئك المدينة ببحر في نهايتها.


«إسكندرية ليه؟» (1979): فيلم ليوسف شاهين


يبدأ «شاهين» أفلامه الذاتية التي يحكي فيها حكايته، حكاية «يحيى»، فيختار أن يبدأ من المكان، من الإسكندرية، فيحكي حكاية مدينته في مراهقته، ويُضمّنها في عنوان فيلمٍ عن ذاته.
يتناول فيلم «إسكندرية ليه؟» مجموعة من القصص تتقاطع بعضها مع بعض، وتُشكّل شخصية مدينة تعاني أضرار الاحتلال والحرب، ما بين قصص عن النضال والحب وأخرى عن الظلم والفساد، وفي مقدمة تلك القصص، قصة شغف «يحيى» بالسينما وهوسه بالتمثيل والفن وعلاقته بكل ما يحيط به.


لطالما كان «يوسف شاهين» صريحًا على مستوى طرح الأفكار، ومتجددًا على مستوى اختيار الأداة، فتجده في فيلم يلجأ للاستعراض والغناء، وفي فيلم آخر يلجأ لشيء من الخطابة، وفي آخر لحظة عتاب ولوم صافية. في «إسكندرية ليه؟» يصيغ أفكاره بوضوح، فتجد جُمَلًا حوارية واضحة وليست بمقحمة، حديث مع النفس في لحظة هادئة، ورقصة يتوه «يحيى» فيها حتى يسقط على المسرح.. التعبير ذكي ولكنه ليس مبهمًا.


علاقة «يحيى» بالإسكندرية هنا أكثر تركيبًا من غيرها، فهي تمثيلٌ لرؤية مرتبكة عن الوطن، فتجد «يحيى» يعاتب مدينته ويتمنى لو لم يولد بها، ليس لأن فيها شيئًا من القبح أو أن لها مساهمة في معاناته مع الفقر أو أنها تتحمل مسؤولية الحرب، ولكن ذلك الشعور يُعدّ امتدادًا للرغبة المراهقة في الخروج عن حدود الجسد أصلًا، فما بالك بمدينتك الأم، ومع ذلك تجده يتجول في المدينة ويحاول أن يبدع مسرحًا ويزور هذا وذاك ويذهب إلى البحر وحيدًا حين تضيق به نفسه في المنزل، والأرقّ هنا أن مخرجًا يدرك جيدًا كيف يحكي حكايات بأبعاد شخصية، وكان مستغرقًا في تجاربه الذاتية في كثيرٍ من أفلامه، حين أراد أن يحكي قصته، كانت المدينة أهم ما فيها، فيعود إلى الاسكندرية بعد حين على أي حال، ليكرم منبع كل هذه القصص والأفلام، ويصنع «شاهين» رسالة حب وامتنان إلى مدينته.


السينما فن كأي فن يتضمن «كليشيهات»، أو ربما يكون من بين الفنون أكثرها استخدامًا للكليشيه، وفي رأيي أن الكليشيه، إن وُظف توظيفًا دقيقًا، يكون بديعًا وذا تأثير مطمْئن، فأحيانًا نريد فقط أن نشاهد ما توقعناه ما دام يحترم ذكاءنا، فننتظر باشتياق أن يكشف لنا «رسائل البحر» أن «نورا» هي مَن تعزف الموسيقى وراء الستارة، ونستمتع أشد استمتاع بمنولوج خطابي يرثي فيه والد «يحيى» لحال زمانه في «إسكندرية ليه؟»، أو أن المديح ذلك للكليشيه هو تبرير لأنني اخترت أن أستمع لأغنية «يا إسكندرية» في الترام، الأغنية مثل كثيرٍ من أغاني «منير» ليست بأغنيته أصلًا، ولكنها تخوض رحلة حتى تصل إليه بشكلها الأكثر رواجًا، كتبها «أحمد فؤاد نجم» وغناها «الشيخ إمام» في مواله «يا بحر قول للسمك»، لكنها كانت بألحان مغايرة للتي غناها «منير»، فقبل ذلك، أعاد «أحمد منيب» تلحينها وغناها (أُفضّل لحن منيب حقيقةً) ثم أعاد توزيعها «طارق مدكور»، وضمّنها «منير» في شريط حمل اسمها، وهكذا عاشت «يا إسكندرية» لسنوات.


ربما نتعلق بالمدن أكثر من غيرها لأنها باقية؛ نرتبط بها ونراها أقل الأجزاء هشاشة بداخلنا، نحب شخصيات القصص لأن فيهم شيئًا منا ويشبهنا أحيانًا، وفي أحيان أخرى لأننا نرى فيهم شيئًا نتمنى أن نكونه، وفي المدينة نجد كلا الوجهين، فيها من ملامح أحبائنا وذكرانا شيء، وفيها من الصمود والخلود شيء ليس فينا، لكنه مهيب ومثير للإعجاب. في «إسكندرية ليه؟» كانت المدينة تعيش فترة تعيسة، وكان فيها شيء من المقاومة.. كان فيها بموازاة كل شيء، شغف يولد، ابن لهذه المدينة، وفي «رسائل البحر» كانت المدينة هي طوق النجاة، هي العودة إلى الحياة، يبعث البحر برسائله إلى شطها، و«يحيى» هذا وذاك، عاشا في المدينة ذاتها، في أزمنة مغايرة، والمدينة باقية، وبحرها باقٍ، ويا لها من فكرة مؤرقة ألا يحظى «يحيى» آخر بفرصة التفاعل مع الإسكندرية ذاتها، فتُلهمه السينما والموسيقى، يصطاد ويقف شاردًا أمام البحر، ويقع في الحب، يصول ويجول، ويقف أمام ذكراه مجسمة، ويشعر بصغر رقيق، بشيء من الدفء، أمام كيان عملاق وعريق، يبدو وأنه خالد، فلا تغدو الأغنيات والأشعار والأفلام تُعبّر عن مجرد ذكرى وخيال.. يتمنى «يحيى» أن تبقى الإسكندرية كما هي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

 من فيلم «رسائل البحر»، على لسان الراوي والبطل «يحيى».
أ. محمود نبيه
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا