مقالات

اللمبي: الأيقونة التي لم تكتمل

قبل أن تأتيني فكرة الكتابة عن «اللِمبي»، كنت أعيد مشاهدة مقطع شهير للممثل المصري محمد سعد.
المقطع من ظهور تليفزيوني لسعد ويقدم فيه أداءً مميزًا لشخصية كاسيوس من مسرحية «يوليوس قيصر» الشهيرة
لشكسبير. تزامنت مشاهدتي مع زيارة إحدى صديقات العائلة والتي ما إن لاحظتني أشغّل المقطع حتى سألتني
باستغراب: «هل تشاهد هذا الممثل؟!». ابتسمتُ من استغرابها واقترحت عليها أن تشاهد المقطع، وكما توقعتُ
انبهرَت بأداء سعد المسرحي وكررت الفكرة الملاصقة لاسم سعد منذ سطوع نجمه والتي دومًا ما يستدل على صحتها
بهذا المقطع تحديدًا، وهي أنه موهبة ضلّت طريقها، ولم تقدّم أي بصمة.
هل كان مشروع سعد السينمائي وشخصية اللمبي تحديدًا الأيقونة الحقيقية لحقبة سينما الشباب في مصر؟
بدأت حقبة سينما الشباب في مصر في أواخر التسعينيات، ومع بداية الألفية كان هناك اسمان واعدان يملآن أفق
الكوميديا في مصر ويتنبأ لهما الجمهور بمنافسة الزعيم عادل إمام، وهما محمد هنيدي والراحل علاء ولي الدين.
وفي عام 2000 قدّم علاء ولي الدين فيلمه الأشهر «الناظر» والذي حُفر اسم بطله في ذاكرة المشاهدين رغم
رحلته القصيرة جدًا. فيلم «الناظر» لم يخدم بطله فقط، وإنما كان الظهور الأول لشخصية ستُحدث زلزالًا على
مستوى الإيرادات والانتشار في الأعوام اللاحقة، وهي شخصية اللمبي.
أعدتُ مشاهدة فيلم «الناظر» مرة أخرى لأكتشف أن كثيرًا من قفشات الفيلم التي عاشت حتى يومنا هذا لم
تُطلَق على لسان بطل الفيلم وإنما على لسان شخصية فرعية، يقول عنها مخرج الفيلم شريف عرفة في لقاء تليفزيوني
مع الإعلامية إسعاد يونس، إنها شخصية أوجدتها الضرورة، إذ شعر عرفة رفقة سيناريست الفيلم أحمد عبدالله بأن
بطل الفيلم يحتاج إلى شخصية مساندة مشاكسة يتعلم منها الجرأة ويكتسب منها الخبرة، وهكذا وُلد اللمبي وحصل
محمد سعد على فرصة العمر. أحاول أن أتذكر أين كان محمد سعد قبل فيلم «الناظر»؟ ربما يتخيل بعضنا أن سعد
كان مغمورًا، وأتته فرصة أوجدتها ظروف سينمائية ينعتها قطاع من المشاهدين بالمتدهورة. ولكن تخبرني رحلة
قصيرة في ذاكرة مشاهدة التليفزيون، أن محمد سعد كان موجودًا على الدوام بحضوره الملفت أمام الكاميرا في
المرات القليلة التي شاهدتُه فيها صبيًا. مَن ينسى صيحته في «الطريق إلى إيلات»: «مصر ياما يا سفينة» والتي
ما زالت ترددها الألسن في سياقات مختلفة حتى يومنا هذا. ولعل الظهور الأكثر حضورًا في ذاكرتي لسعد ما قبل
اللمبي هو أداؤه في مسلسل «الشارع الجديد» للمخرج محمد فاضل والذي عُرض في الموسم الرمضاني عام
1997. تدور أحداث هذا المسلسل عن كفاح المصريين ضد الاحتلال البريطاني مرورًا بثورة 1919 وصولًا إلى
ثورة يوليو 1952، وقدّم فيه سعد شخصية ثانوية حملت اسم «النجرو» وهو شاب من الطبقة الدنيا يمارس الصعلكة
ويعيش حياة الأشقياء ويشترك في مقاومة الإنجليز كذلك، يبحث عن السعادة في حياته ولكنه يفشل في مساعيه.
قنبلة صيف 2002 التي لم يخمد دويها رغم أنف الجميع تقريبًا:
طُرح فيلم «اللمبي» للمرة الأولى في دور العرض في صيف عام 2002، وما إن ظهرت إعلاناته المتلفزة
حتى صاحبها الاستهجان في جلسات كبار العائلة وصفحات الجرائد، فكيف لممثل مغمور كهذا أن يغني رائعة أم
كلثوم «سيرة الحب» بنبرة المساطيل وموسيقى الطبقات الدنيا؟ وطال الاستهجان أداء سعد نفسه حيث اتُهم بتقديم
كوميديا رديئة قائمة على عوج اللسان والتصنع. ولكن ظلت أحاديث كبار العائلات وصفحات الجرائد الرسمية وفية
لعادتها الأثيرة وهي انفصالها المبهر عن الواقع، لأن الفيلم المستهجَن كان يكتسح دور العرض ويحطم الأرقام القياسية
في الإيرادات التي تجاوزت عشرين مليون جنيهٍ مصري وهو رقم خرافي صعق القاصي والداني في هذه الحقبة
البعيدة.
إحدى النظريات التي راجت من أجل تفسير النجاح الساحق للفيلم الظاهرة، ارتكزت على فكرة التدني
المستمر للذوق العام، وتردّي أوضاع الفن في مصر، وهي فرضية ذات أصداء متكررة من قَبل عرض فيلم
«اللمبي» بسنين، فالمتتبع لموسيقى الثمانينيات والتسعينيات في مصر سيجد الرأي نفسه تقريبًا ملاحقًا لنجاحات أغانٍ
مثل «لولاكي» لـ«علي حميدة» على سبيل المثال لا الحصر. ولكن هل يكفي انحدار الذوق المزعوم لتفسير ما
ترتب على الفيلم من سطوع نجم سعد وهيمنته على الموسم الصيفي للسينما في مصر لعدة سنوات بعد «اللمبي»؟
هل يفسر لنا هذا الادعاء خلود جُمَلِ وقفشات اللمبي في العامية المصرية حتى هذا اليوم؟ أميل إلى الظن أن الحديث

عن تأثير شخصيات محمد سعد في لغة النِكات المصرية المعاصرة سيحتاج مقالة منفصلة، ولذلك سأعود إلى
«اللمبي» وأسأل بعد كل هذه السنين لماذا استقبله جمهور السينما بأذرع مفتوحة؟
الظهور الأول: براعة الاستهلال
حلت الألفية الجديدة وكانت تجربة الخصخصة في مصر قد تمكنت من مفاصل الاقتصاد، وخفتت حدة
إرهاب التسعينيات، وباستثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية لم تكن هناك أي أسئلة قومية كبيرة ومؤرقة أمام الطبقة
الوسطى سوى التحقق، أما الطبقات الفقيرة فكانت مشغولة على الدوام بتأمين العيش. تظهر هذه الثنائيات في
مشروعات سينما الشباب بمختلَف ألوانها إذ كان بطلها المفضل هو ابن الطبقة المتوسطة الذي يبحث عن نفسه
ويحاول تحقيق أحلامه مثل «همام في أمستردام»، و«الناظر»، و«أفريكانو»، والقائمة تطول. وسط هذه الأجواء
ظهر اللمبي للمرة الأولى. نعرف عنه في فيلم «الناظر» أنه كان صعلوكًا طُرد من المدرسة بعد ضربه لأحد
المدرسين، ثم نقابله للمرة الأولى جالسًا شبه واعٍ في فرحه الشعبي، وما إن يدخل عليه صلاح ابن الناظر، حتى
ينتفض من مكانه ترحيبًا به. يقول له: «أنت أنضف واحد جالي الفرح» ثم يتشاجر مع أصهاره لتقصيرهم -من
وجهة نظره- في الترحيب بابن الطبقة الأعلى الذي شرّفه بحضور فرحه، ثم نشاهده يفرض نفسه على مقابلة الناظر
مع وكيل الوزارة قبل أن يلعب دورًا فاصلًا في التحول المطلوب لشخصية بطل الفيلم.
جمل اللمبي الحوارية في «الناظر» -على قِلّتها- لم تخلُ من سخرية طبقية لاذعة نراها في جملة «نوسا
مشيت مع واد خيخا بيشيل النوبايل» وهي تعكس وجهة نظر الطبقات الفقيرة في الأثرياء الذين شاع الهاتف المحمول
بينهم في هذه الحقبة، فهم «خيخا» أي تعوزهم الرجولة. أما بقية مشاهده القليلة فنراه مُنكبًا على المكيفات هربًا من
شيء لم نعرفه في فيلم «الناظر». ولكن فيما يبدو أن أداء سعد وقبوله عند الجمهور لفت نظر السيناريست أحمد
عبدالله فقرر كتابة فيلم «اللمبي».
في مشهد البداية، يوقد اللمبي سيجارة ويمشي مترنحًا في الشارع يحاول أن يغني أغنية أم كلثوم الشهيرة
«مصر تتحدث عن نفسها» ولكنه يتلعثم فلا يتذكر سوى جملة «وقف الخلق» يرددها أكثر من مرة محاولًا تذكُّر
مطلع الأغنية، ولكنه يفشل قبل أن يأتيه ضابط شرطة مشتبهًا به ويوشك على توقيفه ولكنه يطلق سراحه على ألا
يعود إلى هذا الشارع مرة أخرى. يعود اللمبي إلى حارته الشعبية وهو ما زال يتلعثم في أغنية أم كلثوم، ولكنه صنع
افتتاحية بليغة وذكية لواقعه وواقع كثيرين من جيله في مصر، إذ لم تعد تصورات العزة والفخر الوطني مقنعة، بل
إنها تنزوي في ذاكرة الهموم وتتحول إلى أنصاف جمل عصية على الاكتمال.
قصة الفيلم تدور حول محاولات اللمبي لتسديد مديونيته لأحد رجال الحارة الذي أقرضه المال حتى يرمّم
بيت أبيه ويتجنب التنكيس والإزالة والتشرد، كما أنه يحاول كذلك أن يتزوج حبيبته نوسة والتي يرفضه أبوها
المستغل ويُفضّل عليه مُدرسًا مضمون الدخل، وفي الخلفية يحاول اللمبي محو أميته وتعلُّم القراءة والكتابة. تتطور
أحداث الفيلم عن طريق محاولات اللمبي المستمرة للتغلب على بطالته. تجبره أمه أن يذهب معها إلى نويبع حتى
يؤجّرا الدراجات الهوائية للسُيّاح طمعًا في دخلٍ بالعملة الصعبة. تنجح الخطة في البداية ولكن يتحول الحلم إلى
كابوس بعد مطاردات شرطة السياحة لهما ومصادرة الدراجات وضياع المال، ثم يلجأ اللمبي إلى التشبث بجلباب أبيه
الراحل ويقرر إعادة تدشين عربة الكبدة التي كان يشتغل بها أبوه، وتتحسن الأمور مبدئيًا قبل أن تباغته شرطة
المَرافق وتُحطِّم عربة الكبدة مبددةً آماله في إيجاد سبيلٍ للرزق والكسب وتسديد دينه. قدّم محمد سعد مشهدًا دراميًا
ملفتًا بعد تحطم عربة الكبدة لمّا جلس رفقة عم بخ (حسن حسني) فوق أحد سطوح القاهرة يدخن الحشيش ويتذكر
بطش ضابط الشرطة بعربة الكبدة ويضحك طويلًا قبل أن يباغته بكاء مُرّ وهو يشتكي قلة حيلته. ولكن عم بخ يشير
عليه بالحل الأخير لأزمته، وهو أحد أكثر أحداث الفيلم ذكاءً. يقرر اللمبي الإسراع في الزواج بنوسة حتى يحصل من
أهل الحارة على النقوط المستحق له عندهم، والنقوط في مصر هو أحد ألوان التكافل الاجتماعي بين الأُسر، وهو
ببساطة مبلغ من المال يُقدَّم إلى الأسرة في مناسباتها السعيدة، على أن تعيد الأسرة سداده لمن دفعه في أقرب مناسبة
سعيدة لديه. وتنجح فكرة عم بخ ويقام الزفاف ويسدد اللمبي دينه وينجو من الحبس وبطش السلطة بفضل أهل
الحارة.
أظن أن نجاح فيلم «اللمبي» لم ينل ما يستحقه من إشادة حتى يومنا هذا. قدّم المخرج وائل إحسان
والسيناريست أحمد عبدالله تجربة كوميدية زاهية وزكية عن الفقر والعوز وتشوش كثيرٍ من المسلمات الاجتماعية في
هذه الحقبة. تمردت القصة على القالب المألوف لأبطال السينما وقتها وذهبت إلى طبقات منسية، وزاد من ألق التجربة

الأداء التمثيلي البارع لأبطال الفيلم، فقد خرجت عبلة كامل عن أدوارها المألوفة في التليفزيون وفرضت نفسها مرة
أخرى على الساحة في السنين التالية، كما سجل الراحل حسن حسني حضوره الجميل والذي سيصبح من ثوابت أفلام
الكوميديا في الأعوام اللاحقة.
كانت بنية شخصية اللمبي الدرامية غنية، وزادها توهجًا أداء محمد سعد وإتقانه الشديد لتفاصيلها، وهو ما
أبقاها حاضرة ومحبوبة بعد قرابة ربع قرن من عرض الفيلم، الأمر الذي دفع صناع الفيلم إلى إنتاج جزء ثان منه
وهو «اللي بالي بالك» في عام 2003، تغيرت فيه القصة واقترب فيه اللمبي أكثر من السلطة ليحارب الفساد وإن
ظل باحثًا عن نفسه. حقق الجزء الثاني نجاحًا كبيرًا، ثم انطلق سعد في رحلته لتقديم شخصيات مختلفة في قوالب
كوميدية خفيفة خفتت جذوة نجاحها بالتدريج إلى أن قرر سعد أن يعود لفارسه القديم مرة أخرى ويقدم «اللمبي 8
جيجا» في عام 2010، ولكن اختلفت تركيبة القصة وتغير الزمن وبعد الثورة أُعيد ترسيم خريطة السينما والنجوم،
وخفت نجم محمد سعد بعد رحلة جميلة لموهبة فرضت نفسها على تاريخ الكوميديا العربية، ويبقى السؤال: هل ظلم
سعد موهبته كما يدّعي كثيرون؟ أم أن قليلًا من الجرأة والابتكار في الكتابة والطرح كانا ضروريين ليصنعا من
اللمبي أيقونة مرحلته؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. طه سويدي
March 12, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا