«يا إلهي، ما أصعب ألّا يعيش المرء إلّا أمام اللّه، أن يعيش كما عاش أُناس كانوا مدفونين في قبوٍ مظلم، عارفين أنّهم لن يخرجوا من هناك قط، وأنّ إنسانًا لن يدري قط كيف عاشوا! وبالرغم من ذلك يجب أن يعيش المرء هكذا؛ لأنّ مثل هذه الحياة هي وحدها الحياة… يارب مدّ لي يد المعونة».
تذكرت هذه العبارة لتولستوي في «المذكرات» وأنا أشاهد فيلم إنغمار بيرغمان «ضوء الشتاء» (1963) وشعرت أنها تُلخص حالة بطل الفيلم القسيس أريكسون الذي يؤرقه صمت الإله ولا ملجأ له إلّاه.
وما دمنا في الكنيسة فسأعترف -وقد تربيتُ على الأفلام الأمريكية- أني تعرفت إلى الأفلام السويدية متأخرًا جدًا، وبدأ هذا التعارف بفيلم «قصة حب سويدية» (1970) لروي أندرسون، وكم كان شاعريًا حالمًا ذلك السرد البصري لحكاية حب طفولي معجونة بالبراءة لبطلين غضّين، العفوية العذبة لنبضهما الأول مع كثافة وزخم نقد الأحداث السياسية الاجتماعية التي تجري في الخلفية في تشابكات حياةِ وعلاقات الكبار.
بعد أندرسون صار لزامًا عليّ الارتقاء لأستاذه بيرغمان، وعلى خلاف التلميذ العظيم كان للأستاذ الأعظم هموم وهواجس دينية شغلتني أكثر.
شاهدت لبيرغمان عددًا من أفلامه ابتداءً من «الختم السابع» (1957) و«بيرسونا» (1966)، وهو رجل أخرج أكثر من خمسين فيلمًا، لكن ما يهمني من انشغالاته الوجودية سؤال صمت الإله الذي قدمه بتنوع مدهش في ثلاثيته الميتافيزيقية Metaphysical Trilogy: «عبر زجاج مظلم» (1961)، و«ضوء الشتاء» (1963)، و«الصمت» (1963).
وقد اخترتُ الفيلم الثاني بين الثلاثة لأنه أوضحها في نقاش المسألة الدينية، فالأول -كما يفصح عنوانه المقتبس من نص توراتي- يخبرنا أننا لا نستطيع الرؤية بوضوح إن كنا ننظر عبر زجاج معتم، حيث يبدو أن هذه العتمة سبب اختفاء النور الإلهي. أما الفيلم الأخير فلا يُذكر فيه الرب إطلاقًا إلا إن كان المخرج يريد أن يقول أن غيابه يضاعف القلق الذاتي ويجعل البشر إما عقولاً متسامية مأزومة أو أجسادًا شهوانية (في نموذجَي الأختين إستر وآنا) مما يفضي إلى انعدام أي معنى للتواصل الإنساني بين البشر.
في واسطة عُقَد الثلاثية نرى البطل أريكسون في مواجهة أسوأ حالات الشك الديني، فهو قسيس نذر حياته لإرشاد أفراد مجتمعه وجذبهم لرحمة الرب.
أريكسون يعيش كذبة تلتهمه؛ فَقَد إيمانه ولا يزال راعيًا لكنيسة البلدة الصغيرة، وعليه أن يكون مقنعًا وهو يهدي الضالين.
وكما في كل ما شاهدتُه من أفلام بيرغمان، يقدم المخرج شخصيات قليلة العدد ليغوص بي في أعماقها، ثم يحاصرني بكاميرته مغلقًا المساحة، واضعًا إياي في مواجهة بطله المأزوم، يتألم، يمرض، يشك، يخاف البوح بشكه وعجزه، يقاوم رغباته الجسدية المتضائلة أصلاً.. قسيس لم يعد يسمع صوت الرب، ومع ذلك لا بد أن يؤدي كلمات هذا الرب لعباده. وبيرغمان في فيلمه هذا -كما في فيلميه الآخرين- يجعل شخوصه تنويعات للفكرة الأساس، فهو لن يكتفي بشكوك القسيس، إذ يقدّم شخصية مارتا (معلمة المدرسة وعشيقة القسيس التي ينفر منها) مقابلاً له، إذ هي شخصية براغماتية أقرب للإلحاد مع حفاظها على المظهر المتدين، موغلة في تلبية حاجات الجسد مع وعيها بأن علاقتها بالقسيس غالبًا ليست حبًا خالصًا، كما يعطيني معه يوناس الصياد الذي فقد طمأنينته الدينية في عالم متلاطم بالأخبار الكارثية بعد سماعه خبرًا عن استعداد الصين لشنّ حرب نووية.
يقدم بيرغمان أيضًا رجل الدين الآخر آلجوت الذي يوقن أن عذاباته النفسية تفوق بمراحل عذابات المسيح الجسدية: «فالتركيز على آلام المسيح وعذاباته أمر خاطئ.. التركيز على الألم الجسدي.. قد يبدو ذلك تجاوزًا مني، لكن بنظرتي المتواضعة فإني قد عانيت من الألم الجسدي بقدر ما عانى المسيح، وعذابه كان وجيزًا إلى حد ما، عذابه استمر لأربع ساعات» ويستمر في البوح معتبرًا أن آلام المسيح (التي تجسدها الكنائس في صورة المسيح مصلوبًا والمسامير في يديه وقدميه) ليست هي المهمة، فالألم الحقيقي أن حوارييه الذين رافقوه ثلاث سنوات فروا لحظة القبض عليه وأنكروه، ملقيًا بفكرة جارحة بأن المسيح ربما في تلك المحنة قد استبدت به الشكوك. يقول آلجوت هذه الكلمات مع صورة مقرّبة لوجه القسيس أريكسون حيث تصل انفعالاته النفسية ذروتها، بشفاه متقلصة ووضعية القسيس حين يتلقى الاعترافات، لكنه حريص على ألا ينزلق لمشاركة ضعفه وشكوكه كما فعل مع يوناس خشية وصول الأمور إلى النهاية الكارثية التي حاقت بأسرة يوناس كاملة. يصمت توماس كما صمت عنه الرب، وأستنتج مما أسمعه بصوت آلجوت قليلاً مما دار في خلد توماس في مرحلة ما (قد تمثل بدايات شكوكه).
فيلم «ضوء الشتاء» فيلم أنيق، بلقطات مدروسة بعناية نتنقل فيها مع القسيس في بلدته الصغيرة في شتاء ثلجي، لكني يجب أن أحذرك عزيزي القارئ، إن كنت تبحث عن حبكة وصراع في الفيلم فلن تجدها هنا.. الخيوط تنساب متوازية لا تتقاطع إلا نادرًا، والصراعات التي يخوضها شخوص العمل من البطل إلى عشيقته مرورًا بيوناس وآلجوت في أغلبها صراعات فردية داخلية، ولن تتشابك وتتصاعد في عقدة كبيرة، ولن تفضي إلى تغيير جذري في مسار حياة البطل، ولن يحاول المخرج حتى أن يخبرنا بأسباب محنته الدينية ولا متى بدأت، وكأنه يتحدث عن أمر أزلي، أو يطلب منا التعامل مع الراهن كما هو، والتعامل مع الأبطال بالخلفيات الموجزة والسِيَر المثقوبة التي يمنحنا إياها واثقًا أننا لن نعجز عن التماس معها.
وشخصيات بيرغمان وحيدة معذّبة، فإن كان لبعضها أمل في شبهة توازن فستكون المرأة لا الرجل، إذ كالعادة في أفلامه سنجد مارتا (معلمة المدرسة وعشيقة القسيس) أكثر اتصالاً برغباتها الجنسية وأكثر وضوحًا فيها منه.
ولأن الأفلام الجيدة توقظ فينا الحاجة الكامنة لرؤية مزيد من الأفلام الجيدة، فقد أعادني فيلم «ضوء الشتاء» إلى تساؤلي القديم عن تناولنا -السعوديين- للقضايا الدينية في أعمالنا المكتوبة أو المرئية، وهي بالمناسبة لا تختلف -من هذه الناحية- كثيرًا مع سبق الرواية والقصة وجودًا ونضجًا.
قد يكون نقاش العلاقة مع الله عصيًا لأسباب ثقافية واضحة، لكن هذا لا يبرر استمرار تناولها السطحي في أعمالنا مع تراجع هيبة الرقيب الديني والاجتماعي وخشية نقمتهما.
إن خشية النقمة لم تمنع فئة من كُتّاب القصة والدراما في المرحلة السابقة من هز عش الدبابير بعرض صور نمطية للتدين السعودي المعني بإدخال الجميع الجنة رغم أنوفهم، لكنها ظلت كليشيهات مستهلكة للمطوع المستفيد من تدينه سلطة ومنافع أخرى مع إظهار المقابل له المصطلي بناره شخصًا متنورًا ومغلوبًا على أمره في الوقت ذاته.
في ضوء تغير المزاج العام وسحب كل ما لدى تلك القوى من صلاحيات، هل من الصعب أن آمل ظهور جيل جديد غير مشغول بأوهام قطبية سطحية؟ جيل يطرح أسئلة أجرأ عما يعنيه انزياح هذه القوى عن المشهد؟ ومن سيملأ الفراغ؟ وكيف؟ ما أشكال التدين الحالية؟ وكيف سيتعامل السعودي مع قضاياه الاجتماعية بعد انخفاض زخم نبرة عالية محددة؟ وهل ستتغير نظرته إلى علاقته بمحيطه العربي والإسلامي في ضوء أوضاعه الحالية؟
الدين أساس حياتنا في المجتمع، والتغيرات الكبرى التي نمر بها فرصة جيدة لإعادة قراءة ظلاله داخل نفوسنا ومواقفنا منه، وما يعنيه لأجيال اليوم وكيف يصبغ علاقات هذه الأجيال بذواتها وبالآخر، بالحب وبالجمال أيضًا.
ماذا نحتاج لإنجاز مشروع كهذا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش