دمشق، المدينة التي لا يُكفكَف الدمع في جنباتها كما خاطبها شوقي في مقدمة أحد أشعاره، اللوذعي ذو النطق المتعثر والتأتأة الواضحة التي تحجز موهبته وموهبة سالم أيضًا، ذاك الفقير المحاصر في شقة من غرفتين يسكنها أربعة عشر فقيرًا هو متمهم ومكملهم، وهو عنهم لاهٍ بين المسرح والجامعة والوظيفة المتواضعة في محطة الوقود.
سالم هذا هو الشخصية الرئيسة في فيلم «الكومبارس»، وإن كان هامش الحياة موقعه المعتاد منها، فهو شخصية لا تلاحَظ إلى درجة أن المخرج لا يذكر اسمه أبدًا على الرغم من كونه يؤدي سبعة أدوار وحده في المسرحية الجارية، وهي نقلة نوعية في مسيرته الفنية التي اعتاد طوالها أن يؤدي أدوارًا صامتة بلا أي حوارات.
هذه الفرصة لم تأتِ منفردة، بل جاءت معها فرصة ذهبية أخرى، أهداه فيها صديقهُ شِقته ليجلس فيها مع رفيقته الرقيقة ندى ساعتَي زمن يتمكنان فيهما من الاختلاء بنفسيهما بعيدًا عن الخوف والترقب الذي يعتريهما في كل مرة يتجولان فيها في الشارع.
ومن هنا ينطلق نبيل المالح في تقديم فيلم مليء بالحوارات الرائعة التي تلامس في كل لحظة منها صميمَ قلبك، بلا أي خُطَب مباشرة وبلا أي مجازفة في تلغيم الفيديو برمزيات معقدة، بل استطاع بكل ابتكار ورشاقة -برفقة أداء الثنائي بسام كوسا وسمر سامي- أن يقدم أسهل عمل يجتاح القلب من عمقه الثخين ويثخن فيه.
ولا أذكر حقًا أني قد خرجت من فيلمٍ مؤخرًا وأنا أقول: «يا للسينما! كم هي جميلة تلك الصورة اللعينة التي تخلقها في حياتك» كما فعل هذا الفيلم بي، ولولا ضيق وقتي ووقتكم ووقت المنصة، لنثرت الشعر آيات فيما صنعه هذا الفيلم بي، وفيما حفّزني أن أصنع أنا بعد مشاهدته.
يبدأ الفيلم، بصور فوتوغرافية ولقطات متفرقة، في استعراض حياة الثنائي في دمشق، موثقًا على أثير الراديو الحقبةَ الزمنية التي يعيشان فيها، ثم ننتقل إلى مسرح الفيلم الذي جرت أغلب المَشاهد في جنباته، حيث شقة عادل صديق سالم، الشاب الذي يساند صاحبه في وجه هذا الجفاء الذي يتسم به زمانه، ويجري بينهما حوار لطيف لا يخلو من الكوميديا والعفوية قبل أن يرحل ليترك سالم في انتظار ندى، وقبل أن يرحل يجتاح التوتر الشقة بحضور رجال الأمن الذين يترقبون وصول جار عادل، العازف الأعمى، ويُدخلهما في حالة من الخوف رغم براءتهما عن كل فعل، في أزمة حقيقية يعيشها الإنسان مع بوليسية الدولة الحديثة، وما إن يترك عادل صديقه وحده أمام هذا التوتر، حتى تبدأ هواجس سالم عن تغلبه على تلك المواقف، وتبدأ الخيالات عن عنتريات تعترينا في كل مرة تفوت علينا المواقف المخيفة بلا أي ردة فعل، فنرى في كل تصرف حيال هذا القلق الذي يطرق باب سالم في كل مرة، انعكاسًا لأنفسنا المقهورة في وجه الاضطهاد الذي تمارسه علينا الحياة وسلطاتها، وفي الهواجس التي يعيشها البطل حيال شوقه لحيازة شيء في هذه الدنيا، حرمانَنا الذي نعيشه في جميع أعمارنا، ونرى في ضيق الغرفة التي يظنها سالم متنفسًا له، الحدودَ التي تدفعنا إلى الهامش وتُبقينا فيه محبوسين، في سجن بلا قضبان كما قالت ندى في أروع المَشاهد الرمزية التي شاهدتُها في حياتي والثنائي تحت السرير يحاولان إصلاحه.
في هذه القيود التي تحاصر سالم، تطل له ندى بقيودها الخاصة، حيث تعيش أرملة في بيت يشارك سالم الفقر في حالته، والازدحام في مناحيه، والترقب والقلق من مصير كشف هذه العلاقة، ونراها هنا خائفة جدًا، فيحمل سالم على عاتقه أن يهدأها طوال الوقت.
هذه العلاقة وهذا الموعد الغرامي يتخذ منحى مع الخوف والقلق، من تساؤلات حول شرعية العلاقة بينهما وسط تداخل الأصوات الخارجية، مثل صوت سيارة الشرطة والتظاهرة وعزف الجار الأعمى، ووصول دورية الأمن، إلى حوار ثنائي رائع يشرح فيها سالم نفسه بوصفه كومبارس، يعيش على هامش المَشاهد ويموت حسب الطلب، ويخرج -رغم أن اسمه لا يُكتب في الغالب على خشبة المسرح بعد نهاية المسرحية- مع الجميع ليغنوا أغنية النصر، وفي مشهد ساحر يؤدي الثنائي مشهدًا مسرحيًا عن خوف العامل من الحاكم، تعرِفُ معه ندى -بعد أن تخفت أوتار الموسيقى من السعادة لتتجه إلى الحزن- قسوةَ ما يؤدي سالم من أدوار مؤخرًا ليشق طريقه، وأنها لا تعبّر عن معدنه، فيخبرها أنه لا يمكن له أن يصل من دون أن يؤدي الأدوار التي لا يحبها، في لحظة قاسية يدرك فيها الجميع سوء أن تكون على الهامش، فبقاؤك فيه سيئ، وارتحالك عنه سيئ، ولا تجد عن السوء ملتحدًا.
ووسط هذه الحقيقة الحزينة تدخل خطيبة عادل بمشهد كوميدي يعدل ميزان الكآبة الذي حل في الفيلم، باحثة عن فردة حذائها للحاق بموعد عائلتها مع خطيبها، ويدور بينها وبين العاشقيَن حوار لا يتحدث فيه أحد سواها، وما إن تخرج حتى يبدأ الثنائي بالضحك مجددًا على ما حدث للتو، وأثناء ضحكهما ينكسر السرير، ويحاولان إصلاحه، ويتلاطفان تحته حتى تدرك ندى مع الضجة التي أُثيرت في الشقة فوقهما، حقيقة أنهما لصّان يختلسان شيئًا ممنوعًا، وتشفق على ذاتها وذات سالم، وفي عز تلك المشاعر الآسفة يطرق الأمن طرقته الأخيرة على باب الشقة، ليصل التوتر أقصاه، ويعيش الثنائي في ترقب قلِق حتى يعتقل الأمن العازف أخيرًا وسط هواجس سالم وحقيقة ضعف موقفه.
تنتهي القصة بمشهد مؤثر لسالم يخرج من البناء مكسور الروح بعد أن كُسرت كرامته أمام حبيبته على يد رجل الأمن. تُظهر اللقطة الأخيرة مناظر عريضة للشقق والشرفات المغلقة ترتفع مع أفق المدينة، مؤكدة على تضافر القصص الكثيرة وراء هذه الأبنية اللانهائية والشقق المتشابكة، في تجسيد الهامش بوصفه متسَعًا يتسع لنا جميعًا، ويليق بضعفنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش