في العام 1965 حين حقق السينمائي الإنجليزي كارول ريد، واحدًا من أفلامه الهوليوودية الضخمة، «النشوة والألم» عن سيرة فنان عصر النهضة الإيطالية الكبير ميكائيل آنجلو، هل تراه كان يحدس بأن فيلمه -بدلاً من أن يشق دربًا عريضة لتناول الفن السابع لحكايات كبار فناني التاريخ من خلال موضوعه الذي يتناول فصلاً من حكاية الرسام والنحات والعمراني النهضوي (1475 – 1564) المعروف بميشل آنج- سيكون من المعيارية، بحيث يسد تلك الدروب، جاعلاً السينمائيين من بعده يستنكفون عن خوض تجربة جديدة في المضمار نفسه تعجز عن العثور على ما يمكنها أن تضيفه إلى ما يقوله «النشوة والألم»؟ وفي المقابل، حين شهد السينمائي «السوفياتي» أندريه كونتشالوفسكي العرض الأول لفيلم «أندريه روبليف» لسلفه ومواطنه، تاركوفسكي، هل تراه كان يعرف أنه بعد ذلك بأربعة عقود سوف يستلهم التجربة نفسها بعدما بات مخرجًا «روسيا» مع انفراط الإمبراطورية التي كانت قد أجّلت له مشروعه، وإذ بات لاجئًا في الغرب طوال الجزء الأكبر من تلك العقود؟
مهما يكن من أمر، لا بد لكاتب هذه السطور أن يتذكر هنا أنه في حوار أجراه مع ذلك السينمائي الكبير، في موسكو في بدايات ثمانينيات القرن العشرين ومباشرة قبل مبارحة كونتشالوفسكي بلاده إلى الغرب الأوروبي ثم الأميركي، كان صاحب فيلم «سيبرياد» الملحمي الذي سُمح لنا بمشاهدته في عرض خاص حينها على هامش مهرجان موسكو السينمائي، هو أول مَن لفت نظرنا إلى فيلم «أندريه روبليف» كما إلى سينما تاركوفسكي عمومًا، مشيرًا حينها إلى ترابط ما بين فنان النهضة الإيطالية، ورسام الأيقونات الروسي، معربًا -مواربةً- عن أمله في تحقيق فيلم عن فنان كبير من وزنهما.
والحقيقة أن هذا الأمل سوف يحققه كونتشالوفسكي، دون مقدمات ولكن في استلهام من ذينك الفيلمين، فيلم كارول ريد وفيلم تاركوفسكي، لكنه سيفضل أن يتحدث عنهما بوصفهما «فيلم ميشال – آنج» وفيلم «أندريه روبليف» بكل حرية يوم قدّم في عام 2019 فيلمه البديع «الخطيئة» الذي جمع فيه بين حكاية من حكايات حياة ميشال – آنج وفصلٍ من فصول نزعة التمرد الإبداعية لدى روبليف. باختصار: من خلال تحقيق فيلمه الجديد الذي عُرض في سنوات الكورونا على هامش المسابقة الرسمية لمهرجان روما السينمائي قبل أن تعود الصالات السينمائية لفتح أبوابها إثر إغلاق طويل فرضه انتشار الوباء. والحقيقة أن النقاد والجمهور، النخبوي على أية حال، استقبلوا الفيلمين مرحبين، خصوصًا أنه يعيد الاعتبار للسينما المتحدثة عن الفن التشكيلي، توأمها القديم، دون أن تُغرق نفسها في «واقعية السيرة وتدقيقاتها»، ففي نهاية الأمر، كان من الواضح هنا أن الحرية الجديدة التي عرف كونتشالوفسكي كيف يتمتع بها منذ اختياره المنفى -أيام الإمبراطورية السوفياتية التي كانت لا تستسيغ السينما الذاتية، ومن هنا عاملت «أندريه روبليف» بكل قسوة- لم تعد قائمةً اليوم، ما جعل كونتشالوفسكي يشعر بالراحة لأنه لم يتنازل ويحقق مشروعه تحت ضغوطاتها.
والحقيقة أن في مقدور مُشاهد «الخطيئة» -الذي سيُعرف بعنوانه الآخر والأكثر مباشرة «ميشال – آنج»- أن يشارك صاحب الفيلم حماسته وسروره بتأجيل المشروع، حتى وإن كان سيعتبره فيلم منفى لآخر، ولكن هذه المرة لضرورات جمالية، فالفيلم الذي أتى إنتاجًا روسيًا – إيطاليًا على أية حال صُوّر في إيطاليا حيث عاش ميشال – آنج وعمل، ولا سيما في روما، ولكن خصوصًا في توسكانا حيث مقالع الرخام الضخمة التي عاش الفنان في أرجائها يبحث طوال سنوات عن «أعظم صخرة رخامية يمكن العثور عليها»، كي يجعلها المادة الأولية لقبر البابا جوليوس الثاني -تمامًا كما فعل روبليف في فيلم تاركوفسكي ساعيًا لصبّ المادة البرونزية/النحاسية التي سيكوّن منها «أعظم جرس كنيسة في العالم»، فإن كونتشالوفسكي لم ينس قط تلك الجزئية بالغة الأهمية من فيلم سلفه الروسي الكبير الذي كان قد سبقه إلى المنفى هربًا من «فراديس البريجنيفية»، لكن تلك حكاية أخرى بالطبع!- ومع ذلك لا شك أن التركيز على السنوات التي أمضاها ميشال – آنج في توسكانا، وتحديدًا في مقالع كارارا، سيكون إجحافًا في حق مخرج الفيلم.
وذلك لأن الأهم من ذلك، وبالنسبة إلى جوهر الفيلم، إنما كان تقديمه صورة مركزية للفنان في عز الضغوطات التي يتعين عليه مجابهتها. وهنا في هذا الفيلم الذي يصور الزمن النهضوي الإيطالي -متنقلاً بين مُدُنه الرئيسة من روما إلى فلورنسا، وصولاً إلى توسكانا- ولكن ليس بشكله المطلق الازدهار كما يُستشف من فنونه، بل من حقائقه التي ترويها كتب التاريخ الجديد.. من الهوة الواسعة بين الازدهار الفني وبين الجوع المستشري لدى السكان الذين بالكاد تُهمهم القضية الفنية. ولعلنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا هنا إن تصوير تلك الهوة كان واحدة من الغايات الأساسية التي بنى كونتشالوفسكي من حولها فيلمه. لكنه بناه أيضًا من خلال الصراع الذي عاشه الفنان بين عائلتَي دي روفيري ومديتشي المتنافستين، كما بين حبرين أعظمين متتاليين جاء كل منهما من إحدى العائلتين، وبات مطلوبًا منه أن يكيف مزاجه وفنه تبعًا للعقود التي أُجبر على توقيعها وتفرض عليه من قِبل كل من العائلتين والحبرين الأعظمين أن يكون عمله حكرًا على من يسبق الآخر في ربطه بعجلة عائلته السياسية.
والحقيقة أن تلكم هي المادة الفكرية الجوهرية التي حركت موضوع وشكل فيلم «الخطيئة» الذي حين قدّمه مخرجه للمرة الأولى في روما عام 2019، لم يفته التركيز على هذا الجانب، موحيًا بأنه هو نفسه إنما أجّل مشروعه مرات ومرات، ليس خوفًا من نظام جامد ومُعادٍ للفن والذات الحقيقيين، وهو موضوع لا بد أن نذكر هنا أنه شكّل جوهر حوار دار يومًا بين السينمائيَين، كونتشالوفسكي نفسه وقد اختار درب المنفى، وشقيقه السينمائي الكبير الآخر نيكيتا ميخالكوف كونتشالوفسكي الذي كان قد اختار البقاء في موسكو ومُمالأة النظام، وهو حوار ربما نعود إليه في مناسبة أخرى، خصوصًا أننا قد نتلمس فيه بذور فيلم «الخطيئة» الذي حققه مخرجه، ولكن بوصفه فيلمًا ذاتيًا أكثر مما هو فيلم عن فنان عاش وأبدع قبل نصف ألفية فكان واحدًا من كبار فناني تلك المرحلة في علاقتها بالإبداع.. الحقيقي: أي إبداع الذات من خلال الآخر.
وهي على أية حال رسالة لئن كان كونتشالوفسكي -صاحب روائع حقق معظمها في بلاده لكنه حقق بعضًا منها على أية حال في منافيه المتعددة- قد عبّر عنها، ولا سيما بعدما انقضت سنوات منفاه وعاد إلى بلاده الروسية مُكرّمًا، فقد كان من أول ما فعله هناك زيارته لصرح قديم يتعلق بتاريخ أندريه روبليف ليوجه حديثه إلى فنان العصور الوسطى الروسية – الأوكرانية قائلا: «ها نحنذا قد عدنا يا صديقي متأبطين فنّنا الذي انتصر على كل جمود وظلم». ومن هنا سيكون طبيعيًا أن يهدي أندريه كونتشالوفسكي فيلمه «الخطيئة» ليس إلى ميشال – آنج صاحبه وبطله الشرعي، بل إلى أندريه روبليف.. البطل الكامن خلف الحكاية كلها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش