لا يمكن انتزاع ما تشاهده على الشاشة الكبرى عما تعايشه وترصده بشكل يومي في حياتك، فهو سياق متصل يتقاطع بعضه ببعض، بل إن للسينما -نظراً لما تتمتع به من سمات وخصائص- قدرة على تلمس مشاعرك، وإن كان ما تراه لا علاقة له بشكل عضوي بما أنت فيه. هنا تكمن ميزة الفن بشكل عام على استنطاق كل شيء بشكل مباشر أو غير مباشر. هذا ليس حكراً على الموضوع، برغم أهميته، بل أيضا عبر الموسيقى والديكور ومسرح الأحداث.. وبقية العناصر السينمائية. إن لهذه الإشارة أهمية بالغة قبل الحديث عن الجزء الثاني لفيلم الجوكر؛ لكون أبرز ما يميز هذا الجزء هو توقيت عرضه، بالإضافة إلى عوامل أخرى جعلت منه فيلماً ناجحاً، وامتدادًا للجزء الأول من ناحية السياق الدرامي والمعالجة، إلا أن العامل الفارق في هذا الجزء عن سابقه هو وتيرة تصاعد البناء النفسي والأدائي للشخصية.
من الأول إلى الثاني
انتهى الجزء الأول من الفيلم بمشهد صادم، مشهدِ اللقاء التلفزيوني الذي أداره المذيع (قام بدوره روبرت دي نيرو) وكشف من خلاله عن هشاشة شخصية الجوكر؛ بسبب تعرضه منذ طفولته لأحداث ومواقف لامست نفسيّته بشكل سلبي، مما ترتب عليه قطع الأيدي التي مسّته بسوء، فكانت المحصلة: قتل أربعة أشخاص، كجرائم في الخفاء. وفي اللحظة التي تجاوز المذيع فيها حدود اللباقة والأدب معه قام الجوكر -وعلى الهواء مباشرةً- بقتله. اللافت هو خجله في الجزئين عن المفاخرة بقتله لأمه (بهذا يكون الرقم ارتفع إلى ستة أشخاص) والذي ذكر بأنه أُرغِمَ عليه؛ لأنها أصبحت عبئًا عليه يصعّب معيشته.
ترتكز أهمية هذه النهاية (قتل المذيع على الهواء مباشرة) على إظهارها للعلن نسخاً تشبه الجوكر في معاناتها وألمها، والتي راحت تعبر عن غضبها ليس ضد أفراد المجتمع فقط ولكن ضد المؤسسة الرسمية بكل تمظهراتها، فهي في نظرهم من شرعن وبرر هذا الواقع بكافة جذوره السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن حالة الانفجار تلك هي تعبير مرئي عن بلوغ النفس البشرية الحديثة ذروة أزمتها، سابحةً في بحر من الضغوط التي يستحيل معها استمرار الحال على ما هو عليه، وما وقوعُ الفوضى في المُحصلة إلا تماشيًا مع المعطيات المستندة إلى قوّة المؤسسة الرسمية بكافة أدواتها.
جاء الجزء الثاني ليقطف ثمرة حالة الغضب التي تسبب فيها القبض على الجوكر واعتقاله للسجن، أحدِ أهم أذرع المؤسسة الرسمية، في حال من الانفصال التام عما يدور خارجَهُ، سواء عن تبعات جرائمه أو عن أخبار العالم بعموم أحداثه. هذا التقييد والإكراه، وضع الجوكر وجهاً لوجه بإزاء الجانب الأشرس للمؤسسة؛ في تصاعد ذكي وتطور مهم في صياغة الحكاية، ما يؤكد صحة خيار تنفيذ جزء ثان من هذه السلسلة. فمن خلال مشاهد الأذى والتعذيب التي تدور داخل أروقة السجن، وانتهاء بالاعتداء الجنسي على الجوكر، تكون الحبكة قد تممت فصولها بكل فنية: لقد انتقل مسرح الصراع من فئات المجتمع(الضحايا) بين بعضها البعض إلى تعرية المؤسسة الرسمية، ثم مواجهتها.
بقي جانب الأدائي والدرامي في هذا الجزء، والذي وُصِف بأنه يعاني من بطء في وتيرة التصاعدخلافًا للجزء الأول، الأمر الذي عده البعض عيباً يقلل من جودة العمل. ولفهم سبب هذا البطء وأيضا توظيف الغناء بشكل مكثف، علينا إدراك مغزى استخدام هذا التكنيك الفني واتساقه من عدمه مع معاني ومضامين الفيلم.
بدايةً يعتمد الفيلم المنهج النفسي الذي يستهدف مكامن الإدراك والعاطفة لدى المتلقي، وهو ما يستوجب تكثيف الغوص في الشخصية والإغراق في مناحي الإحساس والمشاعر، أي تشريح سلوك الشخصية سيكولوجيًّا، وبناء عليه يكون هذا البطء مبرراً لكون الأحداث تدور حول سجين يقضي وقتاً طويلاً في التأمل ومراجعة تفاصيل حياته. أيضا يجب الأخذ بعين الاعتبار وجود شخصية أخرى بحاجة للاستعراض لبيان سبب وجودها في العمل، نعني شخصية البطلة المضطربة التي تحاول التقرب من الجوكر والدخول معه في علاقة مبنية على إعجاب إيديولوجي. هذان العاملان يستوجبان بطءًا، والفيلم نجح في تخطي هذا التحدي؛ نظراً لاجتيازه اشتراطاته التي تتطلب تعاملاً خاصاً مع زوايا الكاميرا والحركة والمؤثرات الصوتية والمونتاج. أما بخصوص الأغاني، فهي تتسق مع كل ما سبق، فهي قيمة إضافية لجماليات الفيلم، كما أنها تعويض متقن لكثير من الحوارات التي يصعب سردها بلغة مباشرة حول الذات والمجتمع والمؤسسة الرسمية، فتقديمها بقالب غنائي فيه الكثير من الرمزية اللغوية والنغم الإيقاعي والشجن الأدائي يضفي عليها بعداً يعزز المنهج الذي قام عليه الفيلم.
العبرة بالنهايات
تاريخياً، كان شتات الضعفاء هو السائد دون بقية الجماعات الأخرى، ولكن ما أن يجتمعوا على فكرة تقودها شخصية مؤثرة تبرز في حدث استثنائي ما فإن اتحادهم يخلق طوفاناً يصعب معه صدهم والسيطرة عليهم. ولا يعود ذلك إلى كثافة عددهم بقدر جاهزيتهم المسبقة للانفجار. والجوكر مثّل هذه الأيقونة التي جمعت حولها شريحة من المعذبين في الأرض؛ لكونها شخصية تشبههم بظروفها وسخطها وعبثها، ما أهّلها كي تكون الأنسب للالتفاف حولها باعتبارها رمزاً لمواجهة واقع قمعي ممنهج تستفيد منه فئة احتكارية تدير المؤسسة الرسمية.
ومن خلال استقراء الأحداث لم يكن الجوكر سوى شخصية ضعيفة ومأزومة، وبرغم غضبها المحتقن مما يدور إلا أنها لا تؤمن بالمواجهة والحلول الشاملة. إن أهمية شخصية الجوكر ليست في أفعالها –باستثناء حادثة قتل المذيع على الهواء مباشرة باعتبارها تجسيداً لانتقامه الشخصي من العالم– فهي شخصية متمحورة حول ذاتها، ولم يحدث في الفيلم ما يؤكد انشغالها وبحثها عن الزعامة. من شواهد ذلك، المشهد الختامي في نهاية الجزء الأول والذي يشق فيه جموع الغاضبين بسيارة الشرطة دون أن يصدر منه فعل يبين رغبته بلفت الانتباه وتولي القيادة. شاهد آخر: في نهاية الجزء الثاني خرج غاضباً من سيارة أحد مريديه بسبب حديثهم عن نيتهم لتدمير المدينة من أجله، مفضّلًا الذهاب لملاقاة حبيبته، إلا أنها تقابله بالرفض؛ ردًّا على تخليه عما يجمع بينهما (الانتقام والتخريب) واستسلامه لهيمنة المؤسسة الرسمية. إذن، شخصية الجوكر منغمسة في ذاتها وهمومها، وإقدامها على القتل كان في هذا السياق، إلا أن الجماهير وجدت في حكايتها انعكاساً لمعاناتهم، ودافعاً للتكتل والثأر. في النهاية يتجاوز الجوكر نفسه، بالفعل، إلا أنه يفقد حياته على يد أحدهم.
نقطة أخيرة بخصوص المعالجة، عند مقارنة تفجير المحكمة في نهاية الجزء الثاني بقتل المذيع على الهواء مباشرة في نهاية الجزء الأول نجد تصاعدًا مدروسًا للحبكة. حيث أن الخصم في الجزء الأول كان المجتمع بينما في الجزء الثاني فالخصم يكون المؤسسة الرسمية -ومعلوم أن المحكمة تمثّل تاجَ أي مؤسسة- فكان تفجيرها نسف لدلالة الإيمان بها ومشروعيتها، ما يعكس تشكل مشروع وجد في العنف ضالته لتأسيس واقع جديد.
عالم جديد متخاذل
تكمن أهمية الجزء الثاني لفيلم الجوكر في مسارين، الأول هو توقيت العرض المتزامن مع الملحمة التي تدور رحاها منذ عام ونيف على الأراضي الفلسطينية المُحتلة. فبجوار البطولات التي سطرها الناس في حقهم الفطري بالمقاومة والدفاع عن أرضهم، تم دفع ثمن غالٍ قوامه الأطفال والمدنيون العزل الذي ذهبوا بدم بارد حاقد بواسطة آلة الإرهاب الصهيوني البشع على مرأى ومسمع العالم. الثاني، أنه بعيداً عن جوهر ودوافع شخصية الجوكر، إلا أن القصاص العادل من ظلم المؤسسة الرسمية جراء انحيازها بكل أدواتها ضد المظلومين والمقهورين بشكل عام، كانت هي النهاية النموذجية المتسقة مع حقيقة الواقع الذي نعيشه في هذه اللحظة الإنسانية الحرجة.
تستطيع أن تدون ما شئت عن الفيلم من الناحية الفنية، إلا أن الشيء الوحيد الذي لن تستطيع السيطرة عليه أثناء المشاهدة هي مشاعر الغضب التي ستشتعل بداخلك وأنت ترى المؤسسة الرسمية تنتهك وتظلم في ظل تواطئ الجميع معها. حينها، لابد لضميرك أن يستنهض فيك تطبيق هذا السيناريو على جماعة بشرية هي جزء منك وتتعرض ليل نهار للإبادة وسط صمت العالم بهيئاته ومنظماته التي لم تعد مؤهلة للقيام بأي دور لوقف هذه الجريمة، ما يعني انتفاء الحاجة إليها بعد الآن.
فيلم الجوكر يحاكي حالة الخيبة العامرة التي تتملك عموم البشرية جراء ما يحدث الآن من جرائم ومجازر مروعة في فلسطين ولبنان، وفي المقابل فإنه يواصل قرع الجرس الذي يتردد صداه منذ عام من الآن: أنْ كفانا مواصلةً لتصديق أكذوبة المساواة والقانون الدولي وحقوق الإنسان.. لأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش