يُعد المخرج وكاتب السيناريو "أصغر فرهدي" من أبرز السينمائيين في إيران، وقد حصل على عديد من الجوائز أهمها جائزتي أوسكار عن فيلمَيه "انفصال" و"البائع المتجول". في رصيده -حتى اليوم- خمسة عشر فيلمًا يشترك أغلبهم في ثيمة الانفصال، والعلاقات الأُسرية المفككة، والحب غير المكتمل. وسنرى لهذا الانفصال تمثيلًا بصريًا من خلال كادرات للأبواب والقضبان والمسافات الفاصلة.
الحب في أفلام أصغر فرهدي عمل شاق، الطرق إليه سهلة، لكن ثمة جسور تُهدم، وعوائق تُبنى، فتكون النتيجة هي الانفصال، ليس لأسباب تتعلق بالمكان -إيران- وما يعنيه هذا البلد من رقابة دينية. الحب عمل شاق حتى في فرنسا، كما تحكي أحداث فيلمه "الماضي" (The Past) (2013)، والحب عمل شاق في إسبانيا، كما في فيلمه "الجميع يعرف" (Everybody Knows) (2018)، وهكذا هو الحب والزواج في بقية أعماله: "الرقص في الغبار" (Dancing in the Dust) (2003)، "مدينة جميلة" (Beautiful City) (2004)، "ألعاب نارية في يوم الأربعاء" (Fireworks Wednesday) (2006)، "محاكمة في الشارع" (Trial on the Street) (2009) (الذي كتبه فرهدي وأخرجه "مسعود كيميائي")، "عن إيلي" (About Elly) (2009)، "البائع المتجول" (The Salesman) (2016). انفصال وحياة أُسرية مفككة، وحب غير مكتمل: علاقات تناولها فرهدي من زوايا مختلفة وقد بلغ هذا الموضوع ذروته في فيلمه "انفصال" (A Separation) (2011).
نهايات مفتوحة ومصير مجهول
يميل فرهدي للنهايات المفتوحة، تاركًا أبطال قصصه عُرضة لمصير مجهول. النهايات المفتوحة تهدف إلى مشاركة المتلقي، وتشير إلى واقع مفتوح لم يُحسم أمره. نستثني من هذه النهايات المفتوحة فيلمه "الجميع يعرف" (2018)، الذي ينبني هو الآخر على قصة حب لم تُكلل بالنجاح بين لاورا (بينيلوبي كروز) وباكو (خافيير بارديم).
"الرقص في الغبار" فيلم ينقسم إلى جزأين غير متداخلين ويدور حول الحب ومدى استعداد المرء للتضحية من أجله. يحكي الفيلم قصة شاب طيب يُدعى نزار يُجبره أبواه على تطليق زوجته "ريحانة" لأن أمها تعمل في الدعارة. يحدث الطلاق وديًا لكن نزار يستمر في حب ريحانة، فيعمل نوبتَي عمل من أجل تسديد قرض الزواج ومصاريف ريحانة. وعندما يعجز عن سداد القرض في موعده يفر من المدينة خوفًا من أن تُلقي الشرطة القبض عليه وينتهي به الأمر في الصحراء حيث يلتقي برجل غامض يعيش على صيد الثعابين. هناك يتعلم نزار أن صيد الثعابين عمل مربح فيحاول الانسجام مع الرجل العجوز الذي يتحاشاه إلى أن تتعرض حياة نزار للخطر.
ويصور فيلم "ألعاب نارية في يوم الأربعاء" يومًا في حياة "روهي" وهي تقضي يومها الأول في عملها خادمةً في شقة تغص بالفوضى والخلافات بين زوجين. في يوم الأربعاء الأخير، قبل بدء الانقلاب الشمسي الربيعي في رأس السنة الفارسية الجديدة، يُطلِق الناس الألعاب النارية متبعين تقاليد زرادشتية قديمة. تجد روهي نفسها وسط نوع مختلف من الألعاب النارية: نزاع منزلي بين رب عملها الجديد وزوجته. يربط الفيلم بين الفقراء والأغنياء والسعادة والتعاسة وحياة العزوبية والزوجية. تشك الزوجة بخيانة زوجها لها مع جارتهما وهو ما ينفيه في البداية، لكن الأحداث تكشف عن صحة شكوكها في الأخير.
يُفتتح الفيلم بمشهد لـ"روهي" وخطيبها وهما على دراجة نارية، لكن هذه البداية المبهجة لمرحلة الخطوبة ستصطدم بحياة الزوجين التعيسة، وفي هذا إشارة إلى أن حياة الزوجين التعيسة قد تصبح صورة لحياة روهي وخطيبها المقبلَين على الزواج.
وفي فيلم "محاكمة في الشارع" يتلقى "أمير" -وهو شاب من جنوب طهران- اتصالًا هاتفيًا قبل ساعات قليلة من حفل زفافه، من صديقه المقرب "حبيب" الذي يُصر على لقائه ليحدثه عن مسألة مُلحَّة. يهرع أمير إلى مكان عمل حبيب، وهناك، يستمع إلى ادعاء حبيب المدمر بأن زوجته المستقبلية ليست بريئة كما يعتقد أمير. وبمزيج من الغضب والحنق، يأخذ أمير العروس إلى مكان حفل الزفاف ثم يغادر ليتحقق من ماضيها. وثمة قصة أخرى في الفيلم لرجلٍ يُدعى نيكوي، صاحب شركة مفلسة، يطعنه صديقه الذي يبدو أنه على علاقة غرامية مع زوجته "نسيم".
وفي فيلم "عن إيلي" تَخرج إيلي في نزهة مع ثلاث عائلات على شاطئ البحر بدعوة من زبيدة كي تُعرِّفها على أحمد الذي انفصل عن زوجته مؤخرًا، لكن إيلي تختفي بعد إنقاذ أحد الأطفال من الغرق. تُظهر قصة الفيلم العائلات وهي سعيدة في الظاهر، لكن الحوادث تكشف عن تفكك في العمق. يبدأ الفيلم بمشهد افتتاحي لأوراق تصويت تلج صندوقًا مظلمًا، وبأسلوب التداخل والمزج يتحول صندوق الاقتراع المظلم إلى نفق مظلم تخرج منه السيارات التي تُقل العائلات، ثم ينتهي الفيلم بمصير إيلي المجهول.
وفي فيلم "الماضي"، لا يزال الماضي يلاحق الإيراني أحمد الذي يعود إلى باريس لإنهاء إجراءات انفصاله عن زوجته الفرنسية التي لديها بنتين من زواج سابق وهي مرتبطة بعلاقة غرامية مع شاب عربي اسمه سمير لديه هو الآخر ابن من زوجة في حالة غيبوبة بسبب علاقتهما المضطربة وخيانته لها. وسط فوضى العلاقات هذه واضطراب علاقة الأبناء بالآباء يجد أحمد نفسه وهو يمارس دور الأب، فيحل مشكلاتهم ويعوضهم عن الحرمان العاطفي إلى أن تنتهي قصة الفيلم بعودته إلى إيران.
أناس طيبون في مدينة جميلة
يشير اسم الفيلم -"مدينة جميلة"- إلى اسم الحي الذي تقع فيه إصلاحية القاصرين (الأحداث)، وتبدأ القصة في هذه الإصلاحية، التي تضم قاصرين قد ارتكبوا جرائم مختلفة، منهم من ينتظر إطلاق سراحه، ومنهم من ينتظر بلوغه الثامنة عشرة ليُنفَّذ فيه حكم الإعدام. من بين هؤلاء "أكبر" الذي يقضي سنتين في السجن، وحين يبلغ الثامنة عشرة، يُرحَّل إلى سجن البالغين لينتظر هناك حكم الإعدام أو العفو. يخرج صديقه علاء من السجن، بعد انتهاء محكوميته، ويزور أخت "أكبر" ويذهبان معًا إلى بيت القتيلة، ليستعطفا والدها كي يعفو عن "أكبر". وبالرغم من مرور سنتين على مقتل ابنته، فإن الرغبة في الانتقام لا تزال تسيطر على الأب، ولكن إصرار علاء على العفو عن صديقه يجعله يدبر بعض الحيل من أجل استعطاف والد المجني عليها. أخت "أكبر" -فيروزة- (تارانه عليدوستي) تكون قد استسلمت للأمر الواقع، لكن علاء لم ييأس. يُلمح هذا الفارق إلى أن الصداقة قد تكون أعمق من الأخوة، وهذا ما توحي به نهاية الفيلم كذلك.
الفقر، ورغبته في علاج ابنته الثانية المعاقة، يدفعان الأب إلى أن يوافق على العفو مقابل دية، إضافة إلى أن إصراره على تنفيذ حكم الإعدام سيكلفه دفع نصف دية للقاتل، لأن دية المرأة المسلمة في القانون الإيراني تساوي نصف دية الرجل المسلم، وإذا قتل رجلٌ امرأةً ورغب ذوو القتيلة في تنفيذ حكم الإعدام، فإن عليهم أن يدفعوا نصف دية إلى القاتل. وضع القانون هذا الحاجز لكي يعفو عن القاتل ويتجنب سفك مزيد من الدماء، كما ورد في أحداث الفيلم.
تُحَل هذه العقبة بفضل علاء، لكن سرعان ما تظهر عقبة أخرى، فعندما لا يستطيع هو وفيروزة جمع المبلغ المطلوب، تقترح أم الابنة المعاقة أن يتزوج علاء بابنتها مقابل الدية. لكن علاء وفيروز يكونان خلال هذه المدة قد وقعا في الحب. فيروزة تكبر علاء في السن ولديها طفل من زواج سابق، لكن لا فارق السن ولا الزواج السابق سيحولان دون حبهما. توضع فيروزة وعلاء أمام امتحان شاق من نوع آخر. على الأخت أن تختار إما الإفراج عن أخيها بدفع علاء للزواج بالفتاة، أو أن تختار الزواج به، وفي هذه الحالة سيُعدم أخوها. علاء كذلك يوضع أمام خيارين شاقين: الحب أو الصداقة.
مضمون قصة الفيلم فيه امتحان للحب والصداقة والأخوة والانتقام، ويكشف عن وجهين للحياة، مُظهرًا الجانب الخفي للشر. يملك اللص ضميرًا حيًا والقاتل قلبًا رقيقًا، فالمجرم في الأخير إنسان يحتاج إلى من ينقب عنه ليكشف معدنه. في مشهد دال، يطلب علاء من زميل له أن يجرحه بمشرط كي يخرج من السجن إلى المستشفى، على أن يخطط من هناك للفرار من أجل العمل على إطلاق صديقه "أكبر" قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه. لكن الفتى الذي يطلب منه علاء أن يصيبه بجرح لا يملك الجرأة على ارتكاب فعل كهذا، فيسخر منه زميل بقوله: «لا تستطيع إحداث جرح، فكيف قتلت والدك؟» والمشهد يقول لنا بلغة غير مباشرة: إن من ترونهم هنا ليسوا مجرمين، وإنما هم مدفوعون بظروف قادتهم إلى السجن.
يختبر فرهدي هذه القيم في وسطٍ اجتماعي فقير لكنه يتحلى بالقيم النبيلة، ويضع أبطاله أمام خيارات صعبة. ينتهي الفيلم بلقطة لفيروزة وهي تدخن سيجارة، وهي التي كانت قد أقلعت عن التدخين من أجل علاء، الذي أخبرها أنه لا يحب المدخنات. وفي هذه اللقطة إشارة إلى قرار مضمر بأنها قد اختارت الأخوة مضحيةً بالحب، ويبقى قرار علاء هو المسكوت عنه.
تراجيديا الحياة اليومية
يبدأ فيلم "البائع المتجول" بمغادرة جماعية مفاجِئة لعائلات في عمارة آيلة للسقوط. عماد يعمل مُدرسًا في مدرسة، إضافة إلى عمله ممثلًا يؤدي دور بائع متجول في مسرحية "آرثر ميلر"، "موت بائع متجول". زوجته "رنا" في المسرحية هي زوجته في الواقع أيضًا. تدور أحداث الواقع حول تعرُّض رنا لحادث اعتداء من قِبَل رجل مجهول. وبعد محاولات للبحث عنه، يعثر عليه عماد ويستدرجه إلى شقة قديمة في العمارة الآيلة للسقوط. هناك يعرف أنه بائع متجول ويحتجزه في غرفة ويتصل بعائلته كي يفضحه. ولأن الرجل عجوز ويعاني من مرض في القلب، يُغمى عليه، وينتهي الفيلم باستدعاء الإسعاف وخروج رنا من العمارة وهي غاضبة من تصرف زوجها بعد أن حذرته من الانفصال في حال فضح البائع العجوز أمام أسرته.
شخصية عماد تميل إلى الانتقام، خلافًا لزوجته الطيبة رنا، على الرغم من أنها هي التي تعرضت للاعتداء. ومضمون الفيلم يتحدث عن تداعيات الحياة اليومية العادية والنتيجة التي يمكن أن تفضي إليها لتصبح أكثر تعقيدًا وخطورة، وكيفية تحوّل غضب عماد إلى خوف من أن يحدث مكروه للبائع المتجول. ومع كل مشهد بسيط -قابل لأن يتطور نحو منعطف خطير لا يعلم أحد عواقبه- وبأسلوب هامس يُلمّح ولا يُصرّح، وبأداء الممثلين العفوي، يضع فرهدي بصمته المميزة.
موت البائع المتجول (عماد) على المسرح يلمح لموت البائع العجوز (ناصر) على أرض الواقع. هنا تمتزج الحياة بالمسرح ويتوحد مصير الرجلين. والفيلم، بوصفه مزيجًا من الواقعين السابقين، يحيل إلى واقع ثالث هو واقع المتفرج. ويبقى السؤال: لماذا استعار فرهدي هذه المرة قناعًا مزدوجًا عبْر مسرحية آرثر ميلر؟
تشير استعارة المسرحية إلى استعارة واقع بديل، باعتبار أن المسرحية تناقش مشكلات المجتمع الأمريكي. لكن تفاصيل المسرحية لا تَظهر في الفيلم وهو ما يستوجب الرجوع إلى قصة المسرحية الأصلية التي كتبها ميلر.
تتناول مسرحية ميلر موضوع الصراع بين الأجيال داخل العائلة الواحدة، بين الزوج وزوجته والأب وابنيه، وبأسلوب الاسترجاع تمزج المسرحية بين الواقع والوهم في حياة عائلة يائسة. وحدها الزوجة الصادقة والأم الطيبة تدرك أن حياة العائلة كلها أكاذيب فتحاول مواجهة الحقيقة.
البيت في الفيلم وفي واقع المسرحية -التي يعيد الفيلم تمثيلها- يَظهر باعتباره مكانًا يفتقر إلى الاستقرار. الزوج في مسرحية الفيلم له ولدان، أما في الفيلم فليس له أولاد. يستعير الفيلم موضوع المسرحية ويطبقه على الواقع الإيراني، لتتلاقى الخاتمتان في النهاية، هذه النهاية المعلقة بين احتمالين يعكسهما الاختلاف الطفيف بين عنوان الفيلم "بائع متجول" وعنوان المسرحية "موت بائع متجول". في النهاية المفتوحة، تترك رنا زوجها في العمارة وتخرج بمفردها ليتوازى مصيرهما مع مصير البائع المعلق بين الحياة والموت، ومصير "نادر" و"سيمين" في فيلم "انفصال" الذي يستحق قراءة مستقلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش