أوراق سينمائية

الفيلم الوثائقي: البدايات والبحث عن جمال الحقيقة العارية

تسري بين النّقاد قناعة مدارها على أنّ السينما ظهرت أوّل نشأتها وثائقيةً وعلى أنّ  التخييل لم يقتحمها على نحو واع ومعلن، إلاّ في فترة متأخرة, فالأخوان لوميير لم يفكّرا في الإيهام بالوقائع والاستناد إلى المخيلة لاصطناعها لمّا اخترعا جهاز السينماتوغراف، وإنما وجّها عدسة الكاميرا إلى محيطهما وسجّلا مشاهداتهما ثم أعادا عرضها على الجمهور. ورغم أنّ الطّيف الواسع من مؤرخي السينما ينسب إلى المخرج الاسكتلندي جون غريرسون استعمال عبارة «وثائقي» أول مرة، فإن الباحثين كيفن ماكدونالد ومارك كوزان يعودان بهذا المصطلح إلى بدايات ظهور السينما، فينسبانه إلى بوليسلاف ماتوسيفسكي (Boleslaw Matuszewski) عند حديثه عن «البعد الوثائقي» للسينما في أثره «مصدر جديد للتاريخ». 

ويستعمل اصطلاح «الوثائقي» عند وصله بالسّينما استعمالات عديدة متداخلة، ولكنّنا نلمس، على اختلاف مشاربها، سمات مشتركة بينها، منها أنّها تعرض أحداثًا حقيقية أو تاريخية يتولاها أشخاص حقيقيون، فلا تنقل مظاهر الحقيقة النقل الساذج. وهذا ما يشير إليه جون غريرسون في سلسلة مقالاته في صحيفة نيويورك صن (1926)، بالمعالجة الإبداعية للواقع والكشف عن الوجه الخفيّ منه، فيحدّد ما به يكون الفيلم وثائقيًا، كقابليته للعرض عبر وسائطه الخاصّة ومخاطبته لفئة معينة من الجمهور، والعمل على حفزه للبحث عن حلول واقعية لما نواجه من المشكلات في عالم الاقتصاد أو الثقافة أو العلاقات الإنسانية بعيدًا عن الربح المادي. ولئن تردّدت الفلسفة طويلًا في ردّ حكم الأثر الفنّي الجمالي إلى النافع أو الممتع، فإنّ الناقد والمخرج الوثائقي الاسكتلندي ينتصر بجلاء إلى النافع، فيعبّر صراحة عن ضرورة «تقديم الحقيقة» على حساب «الإتقان الشكلي».

ولمقاربات جون غريرسون وقعها العميق على فهم السينمائيين الأوائل للفيلم الوثائقي، فقد ظهرت بينهم نزعة محافظة ترى أنّ موضوعية الفيلم لا تتحقق إلا من خلال صرامة التوثيق مادةً ووظيفةً، وأن أكبر هنة يمكن أن تلحق به هي نعته بالإيهام والتخييل. وتُستمدّ هذه القناعات بخاصّةٍ من مقالته «المبادئ الأولى للأفلام الوثائقية» التي نشرها في جريدة نيويورك صن سنة 1932 ودافع فيها عن قدرة السينما الوثائقية على خلق الجميل والفني من خلال التقاط اليومي و«المعالجة الإبداعية للواقع»، واستند إلى ثلاثة أسس رئيسة، يتضح لنا بجلاء تقابلها مع السينما التخييلية جوهريًا، هي استغلال قدرة هذا الوسيط الجديد على رصد الواقع بدل تخيّله، والخروج من استوديوهات التمثيل التي باتت تمنع السينمائي من التفاعل مع العالم الحقيقي والتقاط مَشاهد من الحياة اليومية بما فيها من البشر باعتبارها تجسّد الحياة المعاصرة بدقة أكبر من المَشاهد التمثيلية المصطنعة. 

ولا شكّ أنّ جون غريرسون ومَن نهجوا نهجه انتهوا إلى هذه «المعايير الأصلية» بناء على استقراء الوثائقيات الأولى للأمريكي روبرت فلاهرتي والروسي دزيغا بودفكين والفرنسي من أصول برازيلية البارتو كافالكانتي وجون غريرسون  نفسه. ولكن الأفلام اللاحقة وسّعت مبدأ «المعالجة الإبداعية للواقع» ليشمل عديدًا من المؤثرات الدرامية، وجعلتها تعمل على تقديم المادة بأسلوب فني يعكس وجهة نظر مُخرج الفيلم. وبات صنّاع الوثائقي يميّزون بين الصدق بمعناه الأخلاقي الذي ينشأ عن مقاربة ساذجة لا تضيف عمقًا للفيلم، والصدق الفنيّ الذي يوظّف مختلًف الحِيَل والمؤثرات ليجلي الحقائق الخفية التي تكمن وراء الأشياء، فلا يرى ضيرًا في اعتماد الإيهام متى مثّل السبيل الأفضل لإدراكها.

تتردد الدراسات النقدية عند تصنيف اتجاهي السينما الكبيرين التّخييلي والوثائقي بين «النمط» و«الجنس».. وبناء على هذه المصادرة يقدّر فانسون بينيل أنْ «ليس الوثائقيّ جنسًا وإنما هو عائلة واسعة متعدّدة التشعّبات. فتتّصل بالحقيقة من جهة غاياتها أو من جهة أشكالها ومدارسها وحركاتها. والمقصد الرئيس لهذه العائلة السّينمائيّة الكبرى إنما هو توثيق المتفرّج انطلاقًا من مواد مستقاة من الحقيقة أو الأرشيف». وربما وجدنا في هذا التّصوّر من الدّقة ما يجعلنا نتّفق معه كثيرًا، فالرأي عندنا أنّ السّينما تتفرّع إلى نمطين كبيرين بخاصّةٍ، هما التخييلي (أو الروائي في الاصطلاح العربي الدارج) والوثائقي. ويتفرع كلّ منهما بدوره إلى أنماط وأجناس عديدة، فيما تظل إبداعات أخرى هجينة أو مارقة عن كلّ محاولة للحدّ والتّصنيف.

يفرَّع الفيلم الوثائقي إذن إلى أنماط فرعيّة عديدة من أهمها:   

  • الدّراسة الوثائقيّة: وهي سينما تسعى إلى التقاط وجوه من الحقيقة متجاهلة وجود الكاميرا بغاية تحقيق عرض دعّم واقعيّة الأحداث وتلقائيتها، وتميل إلى عرض ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو سياسية معينة وتعريف المتفرّج بها، فيكون السارد، الذي يفد صوته من خارج الإطار، مُلِمًا بكل الأحداث وسياقاتها والقائمين بها وظروف حدوثها وأسبابها، أو تميل إلى جعل هذه الظاهرة موضوع تأمّل وتفكير. 
  • الوثائقي بضمير الأنا: ظهر هذا النّمط الفرعي للحدّ من سلطة السّارد كلّي المعرفة في الدراسات الوثائقية. لذلك حوّل بعض المخرجين أفلامهم إلى بحث شخصيّ يعرضون فيها تجاربهم ورؤاهم الشّخصيّة، وكانوا يحرصون على النّفاذ إلى صميم الأحداث حتى يلتقطوا موادهم مباشرة من ميدان وقوعها ويتدخّلون مباشرة للتعليق على الوقائع والوضعيات أو لتنبيه المتفرّج إلى ناحية من النّواحي، مستغلين تطور أجهزة التصوير المحمولة التي بات نقلها سهلًا.. ظهر هذا النّمط الوثائقي بخاصّة في ستينيات القرن الماضي وتضمّن شيئًا من ثورة الرواية المعاصرة على الراوي كليّ المعرفة وتعويضه بالرّاوي الشخصية واصطلح عليها بـ«السّينما المباشرة».
  • الوثائقي الشّاعري: يهدف إلى إظهار الموضوع المطروق على وجه مخالف للمعهود بتصويره من وجهات نظر جديدة، سواء كانت وجهة النّظر هذه بصريّة أو ذهنيّة معنويّة، ويهدف أكثر إلى تكثيف اللّغة السّينمائيّة وتعميق وظيفتها الجماليّة، فكان يمنح بذلك هامشًا واسعًا للمخرج لإعداد سيناريو لفيلمه ويمكّنه من التّخطيط لمختلف مراحله.

وتتفرّع هذه الأنماط الوثائقية بدورها إلى أجناس بحسب موضوعاتها، فتُصنَّف إلى الوثائقي الحربي أو التاريخي أو التربوي أو الحيواني أو الإتنوغرافي.. 

يختزل الاتحاد الدولي للأفلام الوثائقية (1948) هذه الاتجاهات، فيعرّف الفيلم الوثائقي بكونه «كافة أساليب التسجيل على فيلم لأي مظهر للحقيقة يتم عرضه إما بوسائل التصوير المباشرة أو بإعادة بنائه بصدق وعند الضرورة. وذلك لحفز المشاهد إلى عمل شيء أو لتوسيع مدارك المعرفة والفهم الإنسانية أو لوضع حلول واقعية لمختلف المشاكل في عالم الاقتصاد أو الثقافة أو العلاقات الإنسانية. وهو نوع من الأفلام غير الروائية التي لا تعتمد على القصة والخيال، بل يتخذ مادته من الواقع سواء أكان ذلك بنقل الأحداث مباشرة كما جرت في الواقع أو عن طريقة إعادة تكوين هذا الواقع بشكل قريب من الحقيقة الواقعية وتعديله». 

لقد بُني هذا التصوّر على محاولة رصد الحقيقة العارية والواقع المحض على نحو موضوعي، بعيدًا عن الإيهام والتخييل. ورغم ما يُظهر من التقدير لتوثيق الحقيقة الخارجية، نلمس فيه شيئًا من الدغمائية التي تتغاضى عن حقيقتين على الأقل:

  • فحين تتدخّل الكاميرا تقطّع المسترسل الممتدّ اللانهائي بالضرورة، فتختار عناصر منه وتدخلها حيّز الإطار وتقصي أخرى، وتختار للمتفرّج زاوية منها يدرك هذه العناصر. وهذا يعني أننا حينما نتقبّل الصورة نكون دائمًا إزاء تمثّلِ ملتقط هذه الحقيقة المحدودِ بظروف الذّات المدركة والمتأثّرِ بثقافتها وتصوّراتها.
  • لا نتمثّل مفهوم الزّمن أو نعيّن فترة منه إلا من خلال وساطة السّرد وتضمين الفترة المقصودة منه ضمن مجمل من الأحداث المتتالية وفق الفيلسوف الفرنسي بول ريكور. ولا نتمثّل منجز شخص ما أو أفكاره لا من خلال منحه هوية سردية «يعني أن نروي قصّة حياة. وتروي القصة المروية فعل هذا الـ(من) لذلك لا بد ّأن تكون هوية هذا الـ(من) نفسها هوية سرديّة». لذلك لا يمكن أن نرسم حدودًا فاصلة فصلًا حاسمًا بين التّوثيق والتّخييل. ولذلك أيضًا يقول المخرج الإيطالي روسيليني عن فيلمه التخييلي «روما، المدينة المفتوحة» (1945) مشيرًا إلى توثيقه لنضالات المقاومة الإيطالية، شبه مازح، أنه «أسهم  أكثر من كل خطابات وزير خارجيتنا حتى تستعيد إيطاليا مكانتها في محفل للأمم».

لقد جعل روّاد الفيلم الوثائقي الحقيقة والموضوعية وجهتهم، وسارع المنظّرون إلى ضبط الحدود والمعايير، ولكنّ المؤسسات النقدية لا تضع الأحكام ولا تسوّر العملية الإبداعية إلاّ ليأتي مبدعون أفذاذ مشاغبون فيخترقونها ويفرضون عليها مراجعة تصوراتها باستمرار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1 أشار جون غريرسون (John Grierson) سنة 1926 لما كتب مقالته في نيويورك صن "The New York Sun""  عن فيلم روبرت فلاهيرتي 1925 إلى [توثيق الحقائق في الأفلام والالتزام بعرضها]. فدوّن "بالطبع "لـ[فيلم] موانا"، باعتبارها تقريرا مرئيا للحياة اليومية لشاب بولينيزي وعائلته، قيمةٌ وثائقيةٌ." 
2 Kevin Macdonald (Author), Mark Cousins: Imagining Reality: The Faber Book of Documentary Paperback . 1996, p. 13)
3 ويعرّف بكونه مجموعة من الخصائص المميّزة للمقولات العليا التي تتحوّل إلى نماذج.
4 بما هو "مجموعة من التشابهات النصية والشكلية وخصوصا الموضوعاتية" فتستمدّ قواسمها المشتركة من النصوص فتتعلق بالأسلوب والشكل والمضمون. وتتحوّل بعدئذ إلى ضرب من القواعد المعيارية فتوجه الإبداع اللاّحق وتسهم في تشكيل "أفق انتظار" المتقبّل. شايفر Schaeffer مفهوما (Du texte au genre), Poétique n°53, 1983. ص 7
5 Vincent  Pinel, Genres et mouvements au cinéma, Larousse, 2me édition, Paris. P 50
يمكن أن نجد في السينما الشعرية أو التجريبية أو التجريدية أنماطًا صغرى توازي الوثائقي والروائي رغم تداخلها وغموض الفوارق بينها، ولكنها  قليلًا ما تستقل بذاتها، فغالبًا تنصهر مع أحد النمطين الكبيرين فنصنّف الأفلام بكونها وثائقية شعرية أو تخييلية 6 تجريبية...
7 يُقسّم الباحث الأمريكي بيل نيكولز Bill Nichols الأفلام الوثائقية في كتابه «مدخل إلى الفيلم الوثائقي» (Introduction to Documentary) إلى وثائقي العرض (Expository Documentary) والوثائقي الشعري (Poetic Documentary) ووثائقي الملاحظة أو الرصد (Observational Documentary) والوثائقي التشاركي (Participatory Documentary) والوثائقي الانعكاسي (Reflexive Documentary) والوثائقي التمثيلي (Performative Documentary). لمزيد من التوسع انظر Bill Nichols : Introduction to Documentary, Indiana University Press,1 ed Blooming USA 2001
بول ريكور، الزّمان والسّرد، الج 3ص 8371
د. أحمد القاسمي
May 6, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا