مثل هذه الأيام من العام 1973 ظهرت الترجمة الفرنسية الأولى لكتاب سوف يُعتبر دائمًا إعلانًا عن ولادة تيار السينما التعبيرية الألمانية التي كانت في الأصل قد وُلدت قبل ذلك بأكثر من نصف قرن لتموت في بعدها الأساسي مع وصول النازيين إلى الحكم عام 1933. الكتاب هو «من كاليغاري إلى هتلر» للكاتب الألماني سيغفريد كراكور الذفي ي كان أصله الألماني قد ظهر للمرة الأولى بعد سنوات من انتهاء التعبيرية الألمانية في بعدها السينمائي الجليّ على أية حال.
وسنعود هنا طبعًا إلى هذا الكتاب بمناسبة مرور نصف قرن على صدور ترجمته الفرنسية التي يمكن اعتبارها نقطة انطلاقه إلى العالم بأكثر مما كان أصله الألماني، ولكن بعد وقفة لا بد منها، عند عنوانه الذي يشير بصورة مباشرة إلى فيلم محدد هو «عيادة الدكتور كاليغاري» (1919)، لأنه هو ما يُهمّنا هنا.
إلى فترة يسيرة من الزمن لم يكن يجري أي استفتاء عالمي بين النقاد والمؤرخين لمعرفة الأفلام التي يعتبرونها الأهم في تاريخ السينما العالمية دون أن يتضمن بين الأفلام العشرة الأولى التي يتوصل إليها الاستفتاء اسمَ ذلك الفيلم الذي تكمن خصوصيته الأساسية في كونه يرتبط، من ناحية، بولادة ما سوف يُسمّى «السينما التعبيرية الألمانية»، ومن ناحية أخرى، بفن السينما بوصفه فنًا رؤيويًا تَمَكّن، وفي ذلك الفيلم بالتحديد، من أن يحمل نوعًا من النبوءة بما سوف يحدث بعد سنوات من ظهور الفيلم ولا يمكن رصده إلا بعد تلك الأحداث التي تدور من حول هتلر الذي سيُكتشف أن له في الفيلم أنا/آخر هو الدكتور كاليغاري. ومن هنا سيصبح بالغ الشهرة في مجالَي تاريخ السينما والدراسات السينمائية ذلك العنوان الذي اختاره كراكور، لواحد من الكتب المؤسسة لتلك الدراسات في ذلك التاريخ: «من كاليغاري إلى هتلر». ولعل اللافت هنا هو أن العنوان سيبدو للوهلة الأولى وكأنه غشّ لا أساس له من الصوابية.
ومع ذلك، فعندما عَنْوَنَ الباحث الألماني زيغفريد كراكور كتابه هذا على تلك الشاكلة، كان من الواضح أنه يحاول أن يربط، عن غائية سياسية لا تخلو من إيديولوجيا، بين الاسمين، اسم الدكتور المجنون الشرير الذي هو الشخصية الرئيسة في الفيلم، واسم الزعيم النازي الذي سيوصل ألمانيا إلى الخراب، والعالم إلى المذبحة.. ويحاول أيضًا أن يقيم علاقة واضحة بين الذهنية التعبيرية الألمانية التي سيُعتبر «عيادة الدكتور كاليغاري» خير تعبير سينمائي عنها، وبين صعود النازية في ألمانيا. أما الغشّ فيتمثل في واقع أن الفيلم حُقِّق في عام 1919، يوم لم يكن هناك بَعد خطرٌ نازي مؤكد، ولم يكن أحد قد سمع بعد باسم هتلر. لكن كراكور، بوصفه رؤيويًا متميزًا، رأى أن مجرد وجود فيلم من ذلك النوع في ألمانيا الخارجة من هزيمتها خلال الحرب العالمية الأولى، يمكن أن يكون دليلاً يقدّمه الفن بحساسيته المعهودة، على أن «شيئًا ما» سيحدث، وأن ما سيحدث لن يكون، في ذلك الحين على الأقل، شيئًا يحمل الخير إلى الشعب الألماني ولا إلى الإنسانية عمومًا. ولنلاحظ هنا أن كراكور كان فيلسوفًا وعالم اجتماع حين نشر كتابه هذا، ولم يكن ناقدًا سينمائيًا.
أما ما حرّكه لوضع كتابه، فهو واقع أن الشعب الألماني الذي أفقدته الهزيمةُ التي خرج بها من الحرب العالمية الأولى كرامتَه، أدرك أنه خاض تلك الحرب غير واعٍ لها، وها هو ينتظر الآن معجزة ترد على الهزيمة وتعيد إليه ولو نزرًا من تلك الكرامة التي يفتقدها الآن ويحن إليها. لاحقًا سيُخيّل إلى ذلك الشعب أن «المعجزة» تجسدت في ذلك الثرثار النمساوي الربع القامة الذي تمكّن بسرعة من أن يخدّر شعبًا بأكمله، بل عرقًا، ويقوده إلى الخراب، وسط صيحات الثأر والكرامة المستعادة وكراهية الآخرين. ذلك النمساوي كان اسمه أدولف هتلر. وهو في معنى من المعاني لم يكن كثير الاختلاف، مضمونًا، عن الدكتور كاليغاري، الشخصية الرئيسة في الفيلم، تمامًا كما أن الأجواء المعتمة والغرائبية -اللاعقلانية- التي سيطرت على الفيلم في مجمله، انطلاقًا من هندسة ديكورات ولغة سينمائية حديثة وتعبيرية في الوقت نفسه، جعلت المكان في الفيلم كله يبدو رمزًا لألمانيا في ذلك الحين.
ورغم أن التحليل الذي اشتغل كراكور عليه أتى بعد سنوات طويلة من ظهور الفيلم، ما ينسف كل إمكانية للحديث عن أي رؤيوية، وعن أي حدس باستباق ما لموضوع كان أمره في الحقيقة قد بات ينتمي إلى الماضي، فإن العناصر التي أتت لتبرر اختيار كراكور لعنوانه كانت كثيرة وواضحة إلى درجة تمنعنا على أية حال من الإصرار على أن في الأمر غشًا. كان في ذلك، بالطبع، ما يبرر العنوان الذي اختاره كراكور لكتابه الذي يؤرخ الهبوط الألماني إلى الجحيم، منذ لحظة «عيادة الدكتور كاليغاري» حتى ظهور هتلر محققًا لنبوءة ما... أو بالأحرى لتوقع حتمي.
وهنا، حتى وإن كان موضوعنا الأساس دور كتاب كراكور في التأريخ لما نسميه ولادة تيار السينما التعبيرية الألمانية، لا بد من عودة ما إلى موضوع الفيلم لنشير إلى أنه إذ حققه روبرت فين، عن فكرة للمخرج فريتز لانغ، يدور -أي الموضوع- حول اختفاءات غامضة ومفاجئة تحدث في زمن ليلي مرعب. أما الأحداث فتُحكى لنا على لسان شاب يُعبّر أمام جمهرة من المستمعين عن دهشته إزاء الحكاية التي لا تُصدَّق والتي عاشها هو نفسه. وتبدأ الحكاية، كما يرويها الشاب، ذات مساء في مدينة ملاهٍ متلألئة الأنوار، عامرة بصنوف الترفيه. وبين العروض المقدمة هناك عرض يقدمه دكتور غريب الأطوار يعرض أمام متفرجيه قدرته الخارقة على التنويم المغناطيسي، وكيف أن في وسعه أن يحرّك النائمين كما يشاء. وفي الوقت نفسه تنتشر في المدينة أنباء عن اختفاءات غامضة لشبان وشابات، وسرعان ما سنعرف أن من بين المخطوفين الصبيّة جين، خطيبة الشاب الذي يروي الأحداث والتي اختفت تحت جنح الظلام. وبسرعة أيضًا سيتبين لنا واضحًا أن للدكتور ومساعده سيزار -الذي تلوح عليه سمات الجثة المتحركة والمطيعة لما تتلقاه من أوامر- مسؤولية ما حيال الخطف، أو على الأقل حيال الاختفاءات بالجملة لأولئك الشبان والشابات.
وهكذا، إذ تتراكم الشكوك لدى البوليس حول كاليغاري (الدكتور)، ينتهي الأمر بأن يتم اعتقال الدكتور، غير أنه يتمكن من الفرار، وبعد سلسلة من الأحداث الغريبة والمطاردات، تتشابك الأحداث حتى النهاية التي يوحى إلينا خلالها أن كل ما رأيناه لم يكن أكثر من حلم هاذٍ رآه الفتى الذي يروي الحكاية، أو ابتكرته مخيلته، وأن الفتى ليس أكثر من نزيل مأوى للمجانين تخيّل كاليغاري على صورة مدير المصحة. وهنا، لا بد من أن نشير إلى أن هذه النهاية إنما أتت مضافة إلى الفيلم الأصلي الذي كان خاليًا منها.
من ناحية مبدئية وأولية، يبدو «عيادة الدكتور كاليغاري»، في المقام الأول، فيلم رعب وتشويق، خصوصًا بعدما أضيفت إليه تلك النهاية المفتعلة التي كان المطلوب منها أن تحفظ للفيلم بُعده التشويقي غير السياسي، غير أن المتفرجين -وعلى الرغم من تلك النهاية- فهموا مغزى الفيلم وبعده السياسي.. أو لنقل إن الفهم أتى تدريجيًا بالنظر إلى أن الزمن الذي عُرض الفيلم فيه للمرة الأولى لم يكن بعد زمنًا يوضح العلاقة بين ممارسات الدكتور الجهنمي، والحزب النازي الذي كان يعيش بداياته في ذلك الحين ولم تكن «جهنميته» قد ظهرت بعد لتأخذ بتلابيب الشعب الألماني وتخطفه…
ومهما يكن من أمر هنا، فإن هذا الفيلم، إلى أهميته السياسية، على اعتبار أنه بدا باكرًا أشبه بجرس إنذار يدق لتنبيه ألمانيا إلى ما قد ينتظرها إن هي أسلمت قيادها إلى مخدريها، يرتدي، ولا سيما من خلال نوعية الطب الذي يمارس في عيادة الدكتور كاليغاري، كما من خلال الهندسة التي تميز بها، ليس مبنى العيادة فقط بل كلّ ديكورات الفيلم، التي أتت معبرة على نحو رائع عن اللغة الفنية التعبيرية التي كانت سائدة في ذلك الحين في كثير من الفنون في النمسا وألمانيا، لا سيما في الفنون التشكيلية وفي فنون الهندسة المعمارية.
لقد عبّر ذلك كله يومها عن طابع حديث وتجديدي عززه تعاون رسامي حركة «العاصفة» من غلاة الانطباعيين في تصميم الديكورات التي تبدو طوال الفيلم كلوحات انطباعية، إضافة إلى تصميم الملابس. من هنا، بدا الفيلم ولأول مرة في تاريخ السينما، عملاً فنيًا متكاملاً يمتزج فيه علم النفس بالسياسة، ونظرية الحلم بالهندسة، والفن التشكيلي بالشعر (حتى وإن كان الفيلم صامتًا، لأن السينما الناطقة لم تكن اختُرعت بعد). والحال أن «عيادة الدكتور كاليغاري» إنما عكس في ذلك كلّه ذلك الحلم الذي كان لا يكف عن مداعبة خيال المبدعين في ذلك الحين والمتعلق بوحدة تدمج ما بين الفنون والآداب في بوتقة ذلك الفن الجديد الذي بالكاد كان قد تجاوز العقدين من العمر.
أما بالنسبة إلى الفيلسوف سيغفريد كراكور، فيمكن النظر إلى هذا الفيلم الذي لا يزال يُصنَّف إلى يومنا هذا، وفي الإحصاءات كافة، في عداد أهم عشرة أفلام أنتجتها السينما العالمية في تاريخها، يمكن النظر إليه على أنه إدانة واضحة «للنزعة الشمولية البروسية التي تتبدى دائمًا على استعداد لإعلان عدم طبيعية كل مَن أو ما يتصدى لمقاومتها»، وهو بهذا أضفى على «وحدة الفنون» المعبَّر عنها في الفيلم، تضافرًا مع بُعدين رئيسين هما البعد السياسي والبعد الاجتماعي، حتى وإن كان لا يزال من الصعب يوم عرض الفيلم إدراك هذين البعدين في أهميتهما التي دفعت كراكور إلى أن يجعل من فيلم روبرت فين هذا، بداية مقترحة لتجلي الفن في التعبير عن رفض أصحاب النزعة الإنسانية لما ستؤول إليه الأحوال حين ستشتد قبضة الحزب النازي على السلطة، موضحًا في طريقه كيف أن الفن، في أحيان كثيرة، قد لا يكون في حاجة إلى انتظار حلول الكارثة كي ينبّه إليها، بل عليه بتبصّره وحساسيته أن يستبقها، مؤكدًا أن في «عيادة الدكتور كاليغاري» مثل هذا الاستباق. ولا بد من أن نشير هنا إلى أن كراكور يرى، في كتابه الآنف الذكر، أن كاليغاري ليس سوى إشارة إلى قرب ظهور هتلر المتعطش إلى السلطة كما إلى الدماء والجنون القاتل. وهنا يضيف كراكور إلى أنه لئن كانت صورة الدكتور المجنون والمتسلط ذات حضور دائم في الأدب الشعبي الألماني، فإنها منذ ظهور «عيادة الدكتور كاليغاري» أصبحت من «كليشيهات السينما».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش