غالبًا ما يتطلب كل ولوجٍ لفيلم جديد لميازاكي سذاجةً أولى، استسلامًا مطلقًا لما يمكن أن تتكشف عنه حبكة أفلامه بغرائبية مخلوقاتها والطرق المتعرجة التي تتخذها الحكاية، غير أنها غرابة لا تحول دون تأويلها. كثيرًا ما تتوازى عوالم ميازاكي الحلمية مع الواقع والتاريخ اللذين نعرفهما، موازاة دون مطابقة أو تبسيط، لكنها تتخذ من الواقع مادة خامًا لإعادة عجن عوالم سردية متماسكة ذات مبنىً داخلي متين، يدخلها المُشاهد كما يدخل النائم حلمًا، وتصبح فيه كل استيهاماته وخيالاته منطقية حين تُؤوَّلُ بمنطق الحلم ذاته، على العكس من فيلمه الأخير «الفتى ومالك الحزين»، الذي يستدعي من المُشاهد يقظةً لا تنقطع.
هذا الفيلم أشبه بسيرةٍ ذاتية. أقولُ «أشبه»، لا لكون فضائه مؤثثًا بالخيالي والعجائبي -كعادة مجمل أفلامه- فحسب، بل لأن قراءة هذا الفيلم أيضًا تتطلب الإحالة المستمرة للعوالمِ خارجه لتأويل الكامن فيه من رموز، عوالم ميازاكي الخاصة على وجهٍ أخص. تُلمح كثيرٌ من التقارير إلى أن ميازاكي أراد لهذا الفيلم أن يكون سيرته هو، وهو جهدٌ يمكن تلمّسه في بعض الإشارات المبثوثة لتاريخ المخرج الشخصي، فبطل الحكاية، الفتى ماهيتو، ينشأ في خضم الحرب العالمية الثانية مثل ميازاكي، وله والدٌ -كوالد المخرج- يدير مصنعًا لقطع الطائرات الحربية، ونتيجةً للحرب تُضطر أسرته إلى النزوح كأسرة ميازاكي أيضًا، لكن محاولة التنقيب عن توازياتٍ سيرية أكثر ستبوء حتمًا بالفشل، فميازاكي لم يكن غير طفلٍ في الرابعة حين وضعت الحرب أوزارها، على عكس فتى الفيلم ماهيتو، الناشئ ذي الإثنَي عشر ربيعًا. لعلّ هذا ما يبرر ندرة المَشاهد المباشرة للحرب في فيلمه هذا، على عكس أفلام سابقة له، مثل «خدمة كيكي للتوصيل» و«قلعة هاول المتحركة» و«قلعة في السماء»، التي تعجّ سماواتُها بطائرات محاربة وبحارُها ببوارج وأراضيها بمدفعيات. يركّز الفيلم على الحرب بوصفها تجربة داخلية للوعي، وعي الطفل والبالغ معًا، وعوضًا عن المواجهة المسلحة بين ندّين، يختار ميازاكي المقابلة بين وعينا بالواقع المعاش من جهة، وبعالم الأساطير الخفيّة من جهة أخرى.
ليست المرة الأولى التي ينزلق فيها أبطال أفلام ميازاكي إلى عوالم الأساطير تلك (يستحضر المُشاهد العارف بسهولة فيلم «المخطوفة» Spirited Away) لكن عوضًا عن فصم الواقع عن المخيلة، يُقدَّمُ لنا العالم الحلمي هذه المرة بوصفه ضدًا للعالم الواقعي وامتدادًا له في الآن ذاته. هي مقابلةٌ بين العالمين أولاً، لأن الفيلم يمنح لهما ثقل الاهتمام ذاته، فيمضي ما يقارب نصفه الأول على أرض الواقع قبل أن يسير ماهيتو بقدميه إلى عالم الأساطير. لكن هذه المقابلة ليست كانعكاس الوجه في المرآة، بل كمطابقة جلد الجسد لأحشائه الداخلية. دخول ماهيتو البرج رمزٌ للنظر داخلاً، لولوج عالم الأساطير المؤسسة للواقع الذي نعيشه. ليست رحلة بحثه عن الأم إلا رحلةً في رحم الأرض، حيث تولد الأشياء وتموت. ماهيتو ليس مجرد «ألِيس» التي تحملها مخيلة خصبة لبلاد العجائب دون اختيار، بل هو أورفيوس، هابطًا بتصميمٍ نزقٍ العالمَ السفليّ بحثًا عن يوريدس.
في عالم ميازاكي السفلي، يقترب شكل الموت كثيرًا من الحياة، بل لا يتبدى الموت إلا بوصفه حياةً أخرى. يكاد المُشاهد لا يميز في الصورة ملامح عالم هاديس كما تصورها الميثولوجيا الإغريقية، بعتمته ورهبته وزومبياته وهياكله العظمية. نهر الموت في فيلم «الفتى ومالك الحزين» مجردُ بحرٍ أزرق شاسع يلقي بماهيتو عند شاطيءٍ معشب، أمام رصفٍ حجري لا يشير للموت إلا بمشابهته لوحة «جزيرة الموتى» من جهة وَمَعْلم ستونهنج في إنجلترا من جهةٍ أخرى، قبل أن يتضح للمُشاهد والبطل معًا أنه مدفن. لا ينقذ ماهيتو من الانقضاض الوحشي لطيور البلقان غير امرأة تقود مركبًا شراعيًا، مذكرةً بالأساطير الإغريقية حيث تحمل القوارب أرواح الموتى. هي مفارقاتٌ مقصودة: في العالم الداخليّ، في أحشاء عالمنا الذي أنتج حربين عالميتين وتدور في رحاه مجازر أخرى، أساطير يتعانق فيها الموت والحياة، فعوضًا عن بجع يحمل الأطفال إلى آباءٍ يترقبون، ثمة طيور بلقان تلتهم أرواح الأطفال في طريقها إلى الحياة، والنار التي تحرق أشرار الأسطورة كي تنقذ ماهيتو وأصحابه كل مرة، هي ذات النار التي أحرقت أمه في المستشفى، وطيور البلقان ذاتها ليست بالشر الذي تبدو عليه؛ وحشيتها لم تكن غير محاولة للنجاة من العالم الذي حُبسَت فيه.
يَنشد ميازاكي، عبر بطله ماهيتو، تحرير العالم من عنف الأسطورة هذه المرة، العنف المؤسس لعالم القتل والتدمير في تلك الحقبة. يتطلب هذا المسعى نظرة شجاعة إلى الداخل، تلك الشجاعة التي يخشاها جيل سابق، فيستغرق جيل أبيه في مدّ الحرب بوقودها -عبر المصنع- في حين ينطوي الجيل الأسبق -متمثلاً في الجدات- على ذاته، مهمومًا بجوعه وخوفه، لذا تنتهي هذه الرحلة السندبادية داخل البرج بانهياره، ونجاة الطيور من قدرها المتوحش فيه. تعود الطيور إلى صورتها الأولى، جزءًا من طبيعة هذا العالم، بعدَ أن كانت أشباه بشر.
وكي يتحرر ماهيتو ذاته من هذه الأسطورة، ينبغي له التحرر من تروما الحرب التي كلفته أمه. ليس من قبيل المصادفة أن تكون زوجة والده الحامل خالته أيضًا. ثمة مطابقة واضحة بين الأم والخالة، وبين جنينها وماهيتو. إنها فرصة البطل كي يولد من جديد. تقبّله لزوجة أبيه هو قبولٌ منه لشكل العالم بعد جرح الحرب الغائر فيه، لإمكانية سيرورة حياته بعد الفقد. هذا القبول لا يعني إلغاءً مطلقًا للذاكرة. يؤكد ميازاكي الفكرة بمشهدٍ قد يبدو صادمًا ودمويًا دون تبرير: حين يضرب ماهيتو رأسه بحجر فيسيل الدم. هنا يشِمُ ماهيتو -إذ يؤذي نفسه عمدًا- التروما على جسده، يجعلها ظاهرةً ومحسوسة كي لا ينسى. سيلتئم الجرح تدريجيًا خلال رحلته، لكن ندبته ستظل تذكارًا لتلك الرحلة المريرة، وجزءًا من جسده الجديد.
إن كنا نبحث عن وجه ميازاكي الحقيقي سنجده لا في البطل ماهيتو، بل في الأخ الأصغر، الطفل الذي يولد -مثل مخرج الفيلم- في السنة الثالثة من الحرب. هي ذي سيرة ميازاكي إذن، وهي سيرة على نحوين: الأول أنها سيرة أساطير خلقه ووجوده في العالم كابنٍ للحرب، والثاني أنها سيرة الأساطير المؤسسة للعالم ككل. لهذه السيرة يطعّم ميازاكي فيلمه بعددٍ لامتناهٍ من الصور والرموز، توليفة كبرى لأساطير تمتدّ -مثل الحرب- شرقًا لغرب. رموز متشظية وملتبسة المعنى: الأبرز صورة مالك الحزين، أكثر الرموز تقلبًا في الفيلم، من طائرٍ غامضٍ ينذر بالشر ويحاكي البطل في كآبته، إلى مخادعٍ يستدرجه إلى البرج، ثم محتالٍ، فرفيقٍ وصاحب سفر. ثمة أيضًا إحالات لأعمال أسطورية وأدبية أخرى: لأورفيوس نازلاً عالم الموتى، لأليس متمثلةً في الأم (هيمي) بفستانها الأحمر ومريلتها البيضاء، ولـ«بياض الثلج» حين تُحمَل هيمي -مرةً أخرى- في صندوق من زجاج، لوحشِ «الأميرة والوحش» حين يطل العمّ من أعلى برجه أو قصره، وتسقط وردة زجاجية حمراء لتنكسر. تحت مرآة التأويل، تصبح كل شخوص الحكاية رمزًا: يقف الخال رمزًا للمعرفة القاتلة، والمغارة المهجورة -التي هي برجٌ وقصرٌ في آن- رمزٌ للانفصال الخطر عن العالَم، والببغاوات للحشودِ التي تنصاع لكل بروباغندا. أما الرموز المستلهمة من التراث الياباني فتتخذ شكل تعويذات وتمائم، هي بشائر الحياة ونذر الموت معًا، من مالك الحزين الذي تبدأ معه الحكاية، حتى الجدات اللواتي يتنقلن بين العالمين كخادماتٍ فينة وتمائم حارسة فينة أخرى.
قد تبدو حبكة الفيلم أقل إدهاشًا من أعمال ميازاكي الفنية الأخرى، بواقع مواربة رموزها والتباسها وانفتاحها الشديد على التأويل، لكنهما مواربة والتباس مقصودان من قِبل ميازاكي. لعله، في إجابة على السؤال الذي يطرحه عنوان الفيلم باليابانية: «كيف تعيش؟»، يجيب: هكذا، شظايا ذاكرة في سيرورةٍ أبدية تتعافى، لا كُلاً صمًا واحدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1 وُلدَ هاياو ميازاكي عام 1941، بعد عامين من اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي انتهت رسميًا في النصف الثاني من عام 1945.
2 حريٌ بالذكر أيضًا أن الفيلم يستلهم اسمه الياباني «كيف تعيش؟» من عنوان كتابٍ ياباني شهيرٍ نُشر قبل الحرب بعامين، وفيه يتخذ فتىً من خاله قدوةً في محاولة فهم العالم. يعمد ميازاكي إلى عكس المعادلة تمامًا، حيث يتتبع الفتى خطى خاله أولاً، قبل أن يعلن رفضه للعالم الذي يحاول بناءه.