الصمت الصارخ

أ. سلطان محمد
و
January 4, 2025

لسانك حصانك، فاعقله وتوكّل

اللسان حصانٌ، كما يخبرنا المثل الشعبي، إلا أنه حصان من نوع آخر يُفضل فيه أن يُربط إلى داخل اسطبل الفم على أن يُترك على هواه يمرح ويرمح في كل مكان. هذا ما تتداوله كثير من المجتمعات في أخلاقياتها -أو آدابها الصغيرة- وربما يكون ذلك بتأثير من وجهة النظر الدينية. فبحسب هذه الوجهة، فإن الصمت أسلَم وأوْلى بالمرء من الكلام، فهو فعلٌ إيجابي برغم ما يبدو عليه من سلبية ظاهرة. نرى النظرة الدينية دائمة الحث على الصمت في مجالس الغيبة والنميمة، مثلًا، وعلى عدم الخَوض في القول متى ما تدنّى، وعلى أفضلية الصامت في وجه الإساءة. بل وأرفَعُ من ذلك أنه ذو ارتباط وثيق، في مستواه الأعلى، بالحكمة والهَدي والنبوّة. ومن باب المعلوم لدى الجميع كم الوصايا والآداب التي تتعلق بالصمت، بالإضافة إلى ظلال معانيه من موقف إلى آخر، وهذا مما لا يتسع له المجال هنا. إن ما يعنيني، في الأصل، هو نقطة استعمال الصمت، في السرد الديني، بشكلها الأكثر كثافةً وقوةً؛ أعني في قصة النبي زكريا وصمته.. أو تصميته.

1«وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ»

لقد كان زكريا رجلًا صالحًا -بحسب الرواية الإنجيلية- وكاهنًا ذا مكانة ومودة بين أهله وناسه، اللهم أنه حُرِم من الأبوّة سني حياته حتى شاخ ويئِس من الأمر، برغم كثرة طِلبته، إلى اللحظة التي يظهر له فيها الملاك بالبشارة، قائلًا: «لا تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَزَوْجَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْناً».2 ولم تكن ردة فعل الرجل إلا ردة فعل أي شخص عادي بالإنكار، فهو في النهاية شيخٌ وزوجته كذلك عجوز: فَسَأَلَ زَكَرِيَّا الْمَلاكَ: «بِمَ يَتَأَكَّدُ لِي هَذَا، فَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَزَوْجَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي السِّنِّ؟».3 إن هذا الإنكار للمعجزة، ولو كان طبيعيًا ومفهومًا أن يصدر عن بشر، فهو مما لا يليق بكاهن ورجل شديد القرب من ربه، وهو ما يستدعي عتابًا بحيث تتغير لهجة الملاك من التبشير إلى الملامة: فَأَجَابَهُ الْمَلاكُ: «أَنَا جِبْرَائِيلُ، الْوَاقِفُ أَمَامَ اللهِ، وَقَدْ أُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهَذَا. وَهَا أَنْتَ سَتَبْقَى صَامِتاً لَا تَسْتَطِيعُ الْكَلامَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَحْدُثُ فِيهِ هَذَا، لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلامِي، وَهُوَ سَيَتِمُّ فِي حِينِهِ».4 إن المعاتبات بين البشر يحضر فيها الصمت بطريقة يكون فيها العاتب صامتًا لا يخاطب لسانُه لسانَ مَن يعتب عليه، إلا أن العتاب في حالة زكريا ليس بين بشر وحسب، فينقلب الصمت إلى فعل من التصميت المقصود والمُعجز في نفس الوقت؛ وكأنما خُتم على فم زكريا بعلامة برغم عدم قولها لشيء، عمليًّا، فهي تُفصح عن كثير وعلى طول فترة ليست بالقصيرة حتى تتم البشارة.

فَقَالَوْا لَهَا: «لَيْسَ أحَدٌ فِي عَشِيرتِكِ تَسَمَّى بِهَذَا الاِسْم»5

إنه يوحنّا، مُسمّىً بما لم يُسم به أحد قط من قبله. وقضية الاسم مهمّة، حيث إن الرجل، في ضرب من الشرف الإلهيّ، سُمّي باسمٍ -إن جاز القول- بِكْرٍ، بكارة أولى مثل عذرية مريم؛ والاثنان ينطويان على قوّة توليدية إعجازية، فإن كانت الأم قد وَلدت بلا مَسٍّ بشريّ، فيوحنّا هو المولّد الأول ليسوع بالمعمودية. وهنا شرف الرجل الثاني، أنه أبو المعمودية، إذ كان أول مَن عمّد، فهو يوحنا المعمدان، فكما افتُرِع له اسم افتَرَع هو اللقب. غير أنه عمّد بالماء ونسَبَ الشرف الأعلى لمن سيأتي من بعده ويعمّد بالنار: المسيح. أما الشرف الثالث فكان صُراخه الذي تنبّأ به إشعيا من قبلُ: «صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِيَّةِ».6 إنما هذا الصراخ لم يكن إلا بعد أن بلغ يوحنّا الثلاثين من العمر أو يكاد، وقبل هذا، كان الصمت. والصمت أجناسٌ، فثمة صمتُ الأب (زكريا) الذي ينساب في جوفه التسبيح، وثمة الصمت الذي يتفجّر من بعده الصراخ (يوحنّا)، ثم هناك الصمت الذي تمور في باطنه براكين من الغضب والسخرية واللاتعليق في سينما إيليا سليمان.

وما دخل كل هذا؟

دخلُهُ الجغرافيا. إن كل هذه الحوادث التاريخية قد تمت في منطقة جغرافية من الجليل وإلى نهر الأردنّ. إلا أنها بالأساس -في حالتنا هذه- جغرافيا تتحدد بالأسماء والأفعال في جوهرها. فمن الشيخ اليائس والابن المعجزة وإلى فِعليْ الصمت والصراخ وصولًا إلى أول أعمال إيليا سليمان «سِجلّ اختفاء» (1996)، نتحرّك في «الناصرة». نحن، إذن، نروح ونأتي بين جغرافيتين فكريةٍ وحدوديةٍ.

إن «سجلّ اختفاء» عبارة عن سجلّين يضجّان بالصمت والسخرية. سِجلّ أول شخصي وسِجلّ ثانٍ سياسيّ. يبدأ الفيلم بمشهد على أبٍ يغط في نوم عميق للدرجة التي يكاد يشك فيها المُشاهد بأن الشيخ ميّت. نومة للأب تتكرر في أكثر من مرة على طول الفيلم في مواضع مختلفة. ولا تدري إن كانت هذه النومة العميقة مثل يأس الأب التاريخي (زكريا) لأنه ما باليد من حيلة، أم أنها نومة الأب السياسي (الدولة) حيث إن راحتها أهم، أو لعلها تكون نومة الأب الكليّ. ولن تقطع برأي في هذا -أو غيره- بل تقترب وتبتعد لا أكثر، لأن مخرج العمل قرر ألّا يكلّم الناس إلا رمزًا.

رمزيات المخرج في هذا العمل -وما تلاه- كثيرة ومكثفة للدرجة التي يكاد بعضها يستعصي على التأويل، إلا أنه يتعنّى في ذلك ويقصده بهدف تشغيل ملكة التأويل لدى المُتلقّي. ولعل أبرز أدواته في ذلك -بجانب الصورة الفنية، والأحداث غير المنطقية، والسرد اللاخطيّ- أداة الصمت. المثير في الأمر أن أداة مثل الصمت تعطي كل هذه القوة التعبيرية والموحية للتأويل في فن هو بالأساس يقوم على ثورتين تقنيتين كبيرتين في تاريخه، الأولى منهما هي الضد من الصمت: الصوت. كما هو معلوم، فإن التاريخ الأول للسينما تأسس على الأفلام الصامتة، إلا أن دوامها لم يطل مع دخول الصوت، بل ولم تعد فكرة الفيلم الصامت مثيرة للإنتاج مع توسع الصناعة. فأن تأتي بعد هذا التاريخ الطويل من دخول الصوت وتعيد استعمال أداة مثل الصمت، من المفترض أنها بادت تمامًا، بحيث تعطي القوّة التعبيرية الأقوى، ففي ذلك ضربٌ من أخذ السينما بقوّة.

سِجلّا اختفاء

تتضح الرغبة في إظهار الفرد الفلسطيني تحت ضغط الاحتلال لا بوصفه ضحية أو شحّاذ تعاطف منذ المَشاهد الأولى في الفيلم. منذ ثرثرة الأم، أو غِيبتها بالأصح، حيث تقول وتقول بطريقة تجعل البعيد عن الحال الفلسطيني يدرك أن الأم الفلسطينية هي مثل أي أم في أي مكان من العالم، تهمها القضايا والتفاصيل العائلية الصغيرة. هذه الثرثرة تنسف كل كلام عن وظيفة الصمت في العمل، للناظر من بعيد، غير أنها وثيقة الصلة باستعمال الصمت من حيث تعبيرها عن المعنى المُراد من ناحية، ومن ناحية أخرى من حيث تأطيرها في حدود الأم والنسوة البسيطات. أما خارج ذلك، فكأن الكلام محسوب. وعوضًا عن استعمال صوت الراوي، مثلًا، للتدليل على انتقالنا من اليوم إلى اليوم التالي، نشاهد استعادة لتقنية من الأفلام الصامتة بظهور النص المكتوب كتقسيم للخط الزمني. إن تكرار عبارة «في اليوم التالي» و«اليوم التالي» على طول الفيلم، تضفي قوة محسوسة بشكل أكبر لمعنى التتالي والضجر والوطأة التي لا تنفك تلي الوطأة حتى لنستعدَ «لا جديد تحت الشمس»، وهو كذلك، إنما الناس تنسى وتخلط والأنكى حين يفصلون ما لا ينفصل عن بعضه، ويعيد إيليا سليمان في العمل إظهار صِلاته -ولا أقول إعادة وصله- من جهة أن الشخصي هو الأوْلى والمربط الأساس للسياسي، أنه ليس من الممكن لنا تدوين سجلاتنا الشخصية بطريقة منفصلة عن السجل السياسي، لنا نحن البشر في كل مكان، لا فلسطين وحدها. وفي هذا طموح آخر يتضح في العمل، أن الحال الإنسانية، في جوهرها، واحدة. غير أن أهمية فلسطين أنها الاحتقان الأبرز في تاريخنا الحديث. والقلب المفهومي هنا لا يكون بحيث النظر إلى الوضع الفلسطيني من وجهة نظر العالم، بل قلبُ ذلك بفلسطنة العالم برُمّته.

إذن، فالحال أننا أمام سجلين كبير وصغير، من ناحية الكم لا الكيف، سجل للعالم وآخر لفلسطين، وكأنهما يتناوبان استنساخ بعضهما، بيدَ أن الأصغر أشد عبثية، وليس من المبالغة القول إنه يبدو في كثير من أحواله مسرحًا للامعقول على مرأى ومسمع.. ومزار. فالناصرة منذ زكريا ويوحنا والمسيح كانت مدينة ناس مثل غيرهم، خرجت على التاريخ بأنبيائها، الذين هم أناس عاديون مثل السينمائيين -أو السينمائي، بالمفرد في حالتنا هذه- يحاولون التعبير عما يحل بالمكان وأهله، وذلك بصرف النظر عن الطريقة إن كانت دينية أو علمانية، فالهدف واحد في نهاية المطاف: الفرد العادي. لقد ظل الصمت الصارخ مُنيخًا ومعبّرًا وممثلًا لما يتجاوز المنطوق منذ الوطأة الرومانية وحتى الضغط الكولونيالي، سِوى أنه في زاوية من زواياه المتعددة -ولعلها الأهم- يمثّلُ الطيّة الأعمق التي ينطوي عليها سِفر، لا سجلّ وحسبُ، الاختفاء.

الهوامش:

1.لوقا (1 :20). دار الكتاب المقدس في مصر.
2.لوقا (1 :13). سابق.
3.لوقا (1 :18). سابق.
4.لوقا (1 :19). سابق.
5.لوقا (1: 61). سابق.
6.إشعياء (3:40). سابق.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى