«بيروت الغربية»: الحرب في عيون الصغار

أ. محمد الكرامي
و
January 3, 2025

منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975، أصبحت الحرب موضوعًا رئيسًا لعديد من صانعي الأفلام اللبنانيين. وبرغم اختلاف هذه الأفلام من حيث النوع، والزمن، والمسؤولية الأخلاقية، سكنت الحرب معظم أفلام السينما اللبنانية.

في فيلمه «بيروت الغربية»، يسترجع المخرج اللبناني زياد دويري لحظات اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي من خلال عدسة مراهقين شغوفين بصناعة الأفلام. دويري الذي عمل مصورًا في أفلام كوينتين تارانتينو وروبرت رودريغيز، ويتمتع بالبراعة البصرية، يستعيد من خلال أخيه الأصغر طارق (رامي دويري) وصديقه عمر (محمد شمص) ومي (رولا الأمين) في هذا الفيلم شبه السيرة الذاتية مدينة بيروت، هذه المدينة الجريحة التي تبرز كساحة معركة وساحة لعب، حيث يقاومون المأساة عبر تحويلها إلى لعبة.

أثناء تلاوة النشيد الوطني الفرنسي في أكاديمية فرنسية في بيروت، يقف طارق، الذي يكشف عن نفسه منذ بداية الفيلم بأنه مهرج الفصل، فوق الشرفة، ويبدأ في ترديد النشيد الوطني اللبناني عبر مكبر الصوت. تدريجيًا، تنضم المدرسة بأكملها، وهو ما يثير استياء مُدرّسة اللغة الفرنسية. بعد انتهاء الطابور المدرسي، وطرده من الفصل، يشهد طارق مذبحة الحافلة التي وقعت في الثالث عشر من أبريل عام 1975، حيث قتل مهاجمون من حزب الكتائب، وهي جماعة سياسية مسيحية يمينية، 22 فلسطينيًا، مما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. يجد طالب المدرسة المشاغب نفسه في غرب بيروت ذي الأغلبية المسلمة، معزولًا عن مدرسته في شرق بيروت المسيحي. يعرض دويري الانقسام الطائفي الذي نشأ بين بيروت الغربية ذات الأغلبية المسلمة وبيروت الشرقية ذات الأغلبية المسيحية، ويرصد تغلغل القناصة في زاويا المدينة، وتمزُّق الروابط الودية بين الأصدقاء والعائلات. ومع تقسيم المدينة، تتحول بيروت لمنطقة حرب، حيث تتكاثر خطوط التماس التي لا ينبغي حتى لأكثر تلاميذ المدارس جرأة التجول فيها.

يعيش طارق مع والدته (كارمن لبس) المحامية، ووالده رياض (جوزيف بو نصار) المثقف، في بيروت الغربية. وبينما تظهر المتاريس ويفكر والداه في الهجرة، يرى طارق اندلاع الحرب فرصة للنضج وليس سببًا للخوف من الموت. يرفض رياض مغادرة لبنان، مقتنعًا بأن الحرب ستمر، في حين يشتد خوف والدته على مستقبل عائلتها ووطنها. رياض لا يريد الاعتراف بالخطر الذي يغرق فيه لبنان، وحين يلاحظ انتشار الجنود من حوله، يصبح الاعتراف بالظروف المذعرة أمرًا لا يمكن تجنبه. أما طارق فهو لا يشعر بالخوف حيال تطور هذه الأوضاع الكارثية؛ إنه يريد الاستمتاع بكون المدرسة قد أغلقت أبوابها، فكل ما يعرفه الأطفال عن الحرب هو أن المدرسة مغلقة، ولذا يجدون الوقت للانغماس في شغفهم المشترك بصناعة أفلام بكاميرا يدوية.

يتم تقديم الشخصيتين الرئيستين في الفيلم، وهما المراهقان طارق وعمر، على أنهما مسلمان غير ملتزمين. ولكن والد عمر يتبنى القيم الأصولية، حيث يشكو عمر لصديقه طارق أن والده «يريدنا أن نبدأ الصلاة في المسجد يوم الجمعة، ونصوم رمضان، ونستيقظ عند طلوع الفجر لنصلي»، ويقول إن والدته اشترت حجابًا، وإن والده يقول: «السينما حرام، والمسرح حرام، والموسيقى الغربية من عمل الشيطان». يرد طارق بالقول إنه لم يقرأ كلمة واحدة من القرآن. وفي أحد المشاهد، يحذر صاحب المخبز طارق من الرد بالقول إنه لبناني كلما يسأل أحد عن دينه. وسرعان ما يدرك الأولاد أن الحرب لها أساس طائفي، ويتفاعل عمر بدرجة من التوجس عندما تنضم جارة طارق الجديدة، مي المسيحية، إلى مجموعتهم، إذ يتعرف طارق إلى جارته الجديدة مي، وهي فتاة جميلة تنتقل للعيش في حيّهم. جار طارق الآخر يصف طارق بأنه «خائن» لوجوده مع مي، ثم يردد بعد ذلك أغنية فاحشة. ولكن سرعان ما تذوب هذه الخلافات بين المجموعة، ويخوض الثلاثة مغامرات مجنونة في الشوارع الفوضوية التي تحرسها الميليشيات الدينية ويتعمق فيها الصراع الطائفي.

في البداية، يتجول الثلاثة في أنحاء بيروت المشتعلة بسعادة وطيش. يعزل دويري المشاهد عن الدمار والموت الذي يتكشف بسرعة في الخلفية. وينتهى بالولدَين الأمر في أحد المشاهد بالمشاركة عن طريق الخطأ في مسيرة تأبينية لكمال جنبلاط. ينضم طارق وعمر إلى الحشد وهم يهتفون: «بالروح، بالدم، نفديك يا كمال!»، ثم يتساءل طارق: «مين كمال؟»، فيجيبه عمر: «ما بعرف». هكذا يتمسك أبطال الفيلم ببراءتهم رغم العنف والأهوال. وبعد دقائق قليلة، تتدخل نوبات متفرقة من طلقات النار وقنبلة مولوتوف لتذكرنا بخطورة الوضع، حيث يصبحون هدفًا، وتتعرض حياتهم للخطر. وسرعان ما يتعرض الأطفال للخطر في حادثة ثانية عندما يحاولون عبور منطقة حي الزيتون الخاضعة لرقابة مشددة من القناصة. يوضح كلا الموقفين جهل الأطفال طوال فترة الحرب، وكيف أن جهلهم بالحرب قد دفعهم إلى مواقف خطيرة كان من الممكن أن تكون لها نهاية كارثية. وعلى الرغم من أن مدرستهم مغلقة ويمكنهم ممارسة طفولتهم، وركوب دراجاتهم إلى ضواحي المدينة، والتلصص على النساء، فإنهم ما زالوا يجهلون طبيعة الحرب المشتعلة، وتبعاتها الكارثية.

أثناء هروب الولدَين من قمع المظاهرة في شنطة إحدى السيارات، تتوجه هذه السيارة إلى أحد بيوت الدعارة. تجربة طارق الأكثر غرابة هي زيارة مفاجئة إلى بيت دعارة شهير تديره مدام أم وليد (ليلى كرم) على خطوط التماس، حيث يتعلم هناك أن السلام لا يأتي بسهولة عندما يتعلق الأمر بالكراهية. تسأله: من أين أنت؟ حينما يرد بالقول: «من الغربية»، تخبره أم وليد: «شو هيدي شرقية وغربية؟ عند أم وليد بيروت وبس».

وبرغم حصانة الأطفال من الكراهية والرعب والحقد، بتحويل ساحة المعركة إلى ساحة لعب، سرعان ما يستوعبون ما خسروه، فيما ظلّ الكبار يُمنُّون أنفسهم بأن الحرب ليست بذاك السوء، أو «مش لها الدرجة الحالة خربانة» على حد تعبير والد طارق. ولكن نحن الذين وجدنا أنفسنا فجأةً بين الرصاص والقذائف، نفهم إحساس المرء بأن الأمور ستعود إلى طبيعتها خلال أسابيع أو أشهر، بحيث يعلق الناس جميعهم حيواتهم مؤقتًا، ظنًّا منهم أن الحرب ستنتهي عما قريب، ومن ثم سيستأنفون حياتهم، ولكن الحرب تبتلع الناس، شيئًا فشيئًا، ويعتادون كل شيء، ويصبح العنف جزءًا من حياتهم «الطبيعية». وهكذا نرى الحرب الأهلية اللبنانية وهي تلتهم شخصيات فيلم «بيروت الغربية».

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى