«ابنة بولين الأخرى»: تاريخ الحاكم المزواج.. لكن من الباب الضيق
هو سجال إبداعي – سينمائي بالتأكيد لا يزال محتدمًا منذ بدايات السينما، والسينما التاريخية عمومًا. حوار يتعلق بالحقائق التاريخية التي يمكن للسينما الروائية أو غير الروائية أن تلتزم بها. ولعل الجانب الرئيس في هذا السجال هو الذي يدور بين المؤرخين والروائيين. الأُول يصرون على الالتزام بالتاريخ مهما كان من الجانب الإبداعي... المتخيل، فيما الآخرون ينادون بحرية المبدع في التعامل مع تلك الحقائق. ويمكننا القول بأن ذلك السجال يتجدد في كل مرة يبرز فيها فيلم تاريخي جديد، لكنه -أي السجال- يكون أقوى على وجه الخصوص مع الأفلام الأقل أهمية لأنها عادةً ما تكون هي التي تعبر عن الموضوع على نحو أفضل ولأسباب لا يمكن حصرها هنا. وبالتالي نود أن ندنو هنا من الموضوع من خلال فيلم قد يبدو الآن منسيًا رغم أن سنوات قليلة فقط قد مضت على ظهوره.
في هذا الفيلم الصورة رائعة بالتأكيد. الملابس ربما تكون من أجمل ما قيض لفيلم تاريخي يتحدث عن إنجلترا القرن السادس عشر. حركة الكاميرا مميزة والوجوه، معظم الوجوه، في قمة الجمال والتعبير. قد تُبقي الموسيقى الصاخبة حينًا من دون مبرر، والهادئة أحيانًا، المتفرجَ على ظمئه، لكنها على الأقل تستنكف في معظم الأحيان عن أن تملي عليه مشاعر من خارجه، كما يحدث مع هذا النوع من الأفلام التاريخية عادة. كل هذا، وعناصر أخرى كثيرة أيضًا، بما فيها قوة الأداء لدى معظم ممثلي الفيلم، تجعل من «ابنة بولين الأخرى» عملاً مرشحًا كي يصبح بالتدرج أحد الكلاسيكيات المميزة في تاريخ الفن السابع. فلماذا إذًا، يوحي هذا الفيلم لمتفرجه، بعد مرور قرابة الساعة من بدايته، بأنه -أي المتفرج- أمام ما يشبه الميلودرامات التلفزيونية الصباحية التي تُحقَّق للترفيه عن ربات البيوت فيما يقُمن بالأعباء المنزلية بعد ذهاب الزوج والأولاد إلى شؤونهم؟ لماذا يبدو هذا الفيلم وكأنه حكاية تدور في أيامنا هذه -وليس ذلك، في هذا السياق، مدحًا- من جانب أشخاص حلا لهم أن يرتدوا ملابس تاريخية وأن يتحركوا في ديكورات تاريخية؟
السيناريو، بالتأكيد، مع أن كاتب الفيلم، بيتر مورغان، كان قبل عامين من ظهور «ابنة بولين الأخرى»، وصل ذروة الكتابة السينمائية مع فيلم «الملكة» الذي أخرجه ستيفن فريرز، عن الأسبوع الذي سبق وتلا مقتل الأميرة ديانا وكيف أثّر ذلك في سياسة بريطانيا وفي مزاج القصر الملكي وفي العلاقة بين إليزابيث الثانية ورئيس حكومتها الجديد الشاب في ذلك الحين طوني بلير. إذًا، كيف لم يتمكن مورغان من أن يصور كواليس قصر هنري الثامن وسياساته، كما فعل مع قصر إليزابيث الثانية؟
ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال، ومع هذا فقد تكون محاولةٌ في هذا الإطار مجديةً. وفحوى المحاولة القول بأنه، بقدر ما وظّف الكاتب الحدث في خدمة السياسة في «الملكة»، من دون أن يبتعد من اللغة السينمائية وعامل التشويق، ولا سيما عبر كتابة حوارات ربما بدت أقوى في هذا الفيلم، لم يكن مصيبًا تمامًا حين فعل في «ابنة بولين الأخرى» عكس ذلك تمامًا، إذ وظّف السياسة في خدمة الحدث. لكن الكاتب ثم المخرج من بعده طبعًا، معذوران في هذا. وحسبنا لتبرير العذر أن نذكّر بأنهما، في «ابنة بولين الأخرى»، اقتربا من موضوع ليس جديدًا على السينما على الإطلاق، موضوع يعرفه الجميع، بما في ذلك طلاب المدارس الثانوية البريطانية: موضوع زمن حكم هنري الثامن الذي تضافر فيه الشخصي والعام، العائلي والسياسي، العاطفي ولؤم مصالح الدولة. ومن هنا حاولا، كما يبدو، أن يسلكا فتحًا جديدًا، انطلاقًا من رواية فيليبا غريغوري الصادرة قبل فترة والتي جددت في الاقتراب من الموضوع: بدلاً من أن تصل إلى حكاية ابنتَي عائلة بولين اللتين ارتبط بهما هنري الثامن، جاعلاً من أولاهما عشيقته ومن الثانية زوجته، انطلاقًا من القصر الملكي والأحداث السياسية والدبلوماسية الكبرى التي عاشتها بريطانيا في القرن السادس عشر، وصلت إلى هذه الأحداث الأخيرة انطلاقًا من التنافس والصراع بين الشقيقتين ماري وآن، ابنة بولين وابنة بولين الأخرى. ولعل مفتاح هذا كله كان في هذه الكلمة الأخيرة، الأخرى، إذ إنه من الصعب في مسار الفيلم أن ندرك بعد كل شيء أيهما كانت الأولى وأيهما كانت الأخرى. وإدراك هذا يكمن مكان وجهة النظر التي يمكن أن يُرى الفيلم من خلالها، فأتى الالتباس ليؤرجح عواطف المتفرج.
كانت هذه نقطة أساسية في الفيلم، لكنها تبقى أبعد من أن تصبح كل موضوعه، فإن الموضوع -في بُعده الميلودرامي الواضح- إنما أتى هنا ليقلب الصورة التاريخية، وربما على غرار ما فعله فيلم «ماري أنطوانيت» لصوفيا كوبولا، والمأخوذ بدوره من رواية معاصرة لنا كانت غايتها الأساس أن تعيد الاعتبار إلى ملكة فرنسا الشابة، التي دفعت ثمن أخطاء مجتمع ملأها بالطموحات من دون أن يوفر لها الظروف الحقيقية لمماشاة هذه الطموحات فانتهت مقطوعة الرأس، ضحية لثورة ماتت ماري أنطوانيت من دون أن تفهم ماذا أرادت منها.
وهذا المصير نفسه كان مصير آن بولين (ناتالي بورتمان) في «ابنة بولين الأخرى».. غير أن هذه لم تكن ضحية ثورة، بل ضحية تسويات ديبلوماسية وسياسية، من الصعب على المرء المُلمّ بشيء من تاريخ هنري الثامن أن يفهم كيف غاب جزؤها الأساسي عن الفيلم، فكل الصراع مع روما وانشقاق الكنيسة الإنجليزية عن الكاثوليكية البابوية، لم يشغل من «ابنة بولين الأخرى» سوى دقيقتين أو ثلاث، فيما غاب توماس مور تمامًا عن الفيلم. وبالكاد شاهدنا على الشاشة أمامنا خلفية تصور تاريخ بريطانيا في ذلك الزمن الانعطافي، بل إن هنري الثامن لم يَبدُ مهتمًا إلا بالزواج والطلاق، وربما بالصيد أيضًا، ولكن فقط ليكون بمثابة مبرر لبدء تخليه عن آن بعدما تعرف إليها وقرر الاستحواذ عليها. في هذا الإطار بدا التناقض واضحًا بين ضخامة البُعد السياسي لموضوع كان يطاول إمبراطوريتين عظيمتين (بريطانيا وإسبانيا)، إحداهما في صعود والأخرى في أفول، وضآلة الهم العائلي الذي تمحور من حول أسرة بولين التي أراد ربها، تحت ضغط شقيق زوجته، الوصول إلى أعلى درجات المجتمع ولو كان الثمن سعادة ابنتين وكرامتهما.
والحقيقة أن هذا كله يضعنا أمام تفسير للتاريخ، يشخصن الأحداث والأسباب والنتائج، إلى درجة مذهلة، ويدفع المتفرج إلى التساؤل عن هذا التاريخ الذي حدث فيه كل ذلك الشرخ، لمجرد أن ثمة خالاً طموحًا وأبًا خانعًا، لم تتمكن احتجاجات الأم (كريستين سكوت توماس، في أداء رائع) من ردعهما عن بيع البنتين للملك، واحدتهما إثر أخرى. إن تفسير التاريخ الأقرب دائمًا إلى المنطق يحدّثنا عن تبدلات اقتصادية وجيو-استراتيجية عميقة تلت بدء تكوُّن الإمبراطوريات والتنافس على احتلال المستعمرات في تلك العقود، أدت كلها إلى خروج بريطانيا عن كنيسة روما، التي فضّلت دائمًا دعم بلدان أوروبا الجنوبية للاتينيتها مثل فرنسا وإسبانيا، في لعبة صراع الأمم، على دول الشمال التي كانت تشكل الجديد الإمبريالي في ذلك الحين، وهو أمر لا تُعتبر حكاية هنري الثامن سوى مرآة له، فإذا بـ«ابنة بولين الأخرى» يأتي موحيًا بأنه ينظر إلى الجانب الآخر من مرآة التاريخ.
طبعًا لا يمكن الانطلاق من هذا كله لـ«محاسبة» مبدعين على عمل أبدعوه، خصوصًا أن الوقائع التاريخية، من ناحية الأحداث والعلاقات وتواريخها، لا تناقض كثيرًا ما نشاهده في الفيلم. ثم إن الإبداع ليس درسًا في التاريخ، والتاريخ ليس في أي حال من الأحوال معطىً نهائيًا يُرصد مرةً وإلى الأبد، فإذا كانت كاتبة الرواية، وكاتب السيناريو والمخرج من بعدها، قد اختاروا أن يضيئوا جانبًا من الحكاية، يكون هذا حقهم، لأن الإضاءة هي، في نهاية الأمر، تفسير بين تفسيرات أخرى عدة. صحيح هنا، أن إقحام تفاصيل شخصية وعلاقات ومواقف يأتي مبالغًا فيه إلى حد كبير، ولا سيما ما يتعلق بالتغيير الذي يطرأ على آن بعد أن أرسلت إلى بلاط فرنسا لتعود منه وقد أضحت امرأة أكثر وعيًا ومعرفةً وطموحًا، حيث إن المسألة ليست بمثل هذه الدقة من الناحية التاريخية، إذ إن ماري أنطوانيت، أيضًا، أرسلت إلى الخارج في وقائع تاريخها، وكذلك فإن آن لم تُمضِ في الحقيقة كل المدة في فرنسا المرفهة، بل أمضت جزءًا منها في هولندا التي كانت أكثر تقشفًا.. وكذلك إقحام حكاية «إغواء» آن لأخيها، يبدو غير منطقي، حتى وإن كان من بين التُهَم التي وُجِّهت إلى آن لتبرير إعدامها، لاحقًا، ذلك أن مصادر تاريخية كثيرة تقول إن هذه التهمة كانت افتراء، في سبيل التخلص من الملكة آن التي كانت قد أضحت عَقَبةً في وجه اتخاذ الملك امرأة أخرى، طمعًا في الحصول على وريث للعرش، وهو ما لم يحصل عليه، ما جعل إليزابيث ابنة آن، خليفته في الملك. كل هذا صحيح، لكن من الصحيح أيضًا أن صناع الفيلم إنما وظفوه بغيةَ سد ثغرات في التاريخ كانت تبدو كعلامات الاستفهام، فكان في الأمر اجتهاد قابل للنقاش.
تُرى، أَفَلَيس كل ما يُروى تاريخيًا يظل، في نهاية الأمر، قابلاً للنقاش؟ إذًا، المسألة ليست هنا. المسألة هي في عصرنة روح الأحداث، ذلك أن آن تبدو فتاة عصرية تنفع لأيامنا هذه، لا لذلك الزمن، ولا سيما من ناحية غزير ثقافتها، وتمردها على رغبة الملك في امتلاكها قبل أن يتزوج بها. وبالتالي، فإن ذلك التقسيم الذي جعل آن تمثل الشر المطلق، فيما مثلت ماري (وقامت بدورها ببراعة مميزة سكارليت جوهانسون) الخير المطلق (إلى درجة قلب الحقيقة التاريخية بجعلها تزور أختها في سجنها بعد أن زارتها في القصر مصالحة غافرة، وهو أمر لم يحدث تاريخيًا، حيث إنه من المعروف أن ماري، ما إن غدرت بها أختها، حتى فارقت العائلة نهائيًا ومن دون عودة) -ذلك التقسيم يُخلّ بالحقيقة التاريخية. ومن الواضح أن كل هذا يجعلنا أمام عمل عصري -وليس بالمعنى السليم للكلمة- أُسقطت فيه أخلاق اليوم وذهنياته على التاريخ، ما حوّل الحكاية كلها إلى حكاية الصراع بين الأختين.. ولعل هذا ما برر اختيار إريك بانا الوسيم، ليقوم بدور هنري الثامن، الذي تفيدنا اللوحات التاريخية والكتب المتحدثة عنه، بأنه في الحقيقة كان أقرب في دمامته إلى تشارلز لوتون، الذي لعب دوره في فيلم ألكسندر كوردا، منه إلى وسامة إريك بانا. ولعل هذا الاختيار ينضوي بدوره في إضفاء ذلك البُعد الميلودرامي الذاتي على حدث تاريخي.
باختصار، لا يمكن طبعًا لدارسي التاريخ أن يعتمدوا «ابنة بولين الأخرى» بين مراجعهم، لكن بإمكانهم، في المقابل، أن يستمتعوا بساعتين من الجمال المطلق والصراعات الكاشفة عن أخلاق البشر وأطماعهم في كل زمان ومكان، حتى ولو أمضوا وقتهم بعد ذلك متسائلين عما إذا كان يجوز، أو لا يجوز، أن «يُكتب» التاريخ على هذا النحو. وبهذا يكون بيتر مورغان ومخرج الفيلم جاستين شادويك، قد ربحا رهانهما في تقديم فيلم ممتع طريف، يؤكد مرة أخرى أن التاريخ ليس ملكًا حصريًا لأحد ولا للحقيقة التاريخية حتى.