النقد

البرتقالة الآلية والتنافر المعرفي

كوبريك في رحلة البحث عن مشروعه الجديد

انتقل «ستانلي كوبريك» للعيش في بريطانيا بشكل دائم مع زوجته وبناته الثلاث، بعد سنوات من التنقل بين لندن ونيويورك. وجد في الريف الإنجليزي الأمان الذي كان يسعى إليه، خاصة بعد تزايد العنف في الولايات المتحدة واغتيال «مارتن لوثر كينج» والرئيس «كينيدي»، وتصاعد الاضطرابات.
بعد إصدار فيلم «أوديسا الفضاء ٢٠٠١ - 2001: A Space Odyssey (1968)» قرر العمل على مشروع سينمائي جديد حول حياة «نابليون بونابرت»، الشخصية التي سحرته. رأى كوبريك في سيرة نابليون ذات الأبعاد المُعقّدة، فرصة لاستكشاف العديد من القضايا التي تشغله، كما صرّح في مقابلة1 منشورة في كتاب «المخرج السينمائي كنجم متفوق»: «أجد أن القضايا المعاصرة مثل مسؤوليات وسوء استخدام السلطة، ديناميكية الثورة الاجتماعية، العلاقة بين الفرد والدولة، الحرب، والعسكرة... كلها موجودة في تاريخ نابليون. وبغض النظر عن هذا، فإن العلاقة بين نابليون وجوزيفين تمثل أعظم قصة عاطفية عبر التاريخ».
على الرغم من الجهد الهائل الذي بذله كوبريك، من قراءة مئات الكتب والمراجع، إلى مشاهدة جميع الأعمال الدرامية المتعلقة بنابليون، ولقاء مؤرخين مثل «فيليكس ماركهام» من جامعة أوكسفورد، إلا أن المشروع لم يرَ النور. كوّن كوبريك فهرساً شاملاً لحياة نابليون، بما في ذلك طعامه المفضل، حالة الطقس خلال المعارك، وحتى نوع المسامير المستخدمة في حوافر الخيل، التي أغفلها جنرالاته في حربهم ضد روسيا. كما استعد لتصوير الفيلم باستخدام جنود حقيقيين، مع ترتيبات لوجستية معقدة، مثل نقلهم وتجهيز ملابسهم إلى مواقع التصوير الملاءمة والمشابهة للمعارك الحقيقية، وكان قد تحدث مع «جاك نيكلسون» لتأدية دور نابليون. لكن كل هذا الجهد ذهب سدى بعد خسارة شركة «يونايتد آرتيست» خمسة وأربعين مليون دولار بسبب فشل عدة أفلام، ما دفعها إلى رفض تمويل المشروع.
بعد هذا الإخفاق، بدأ كوبريك بالبحث عن مشروع آخر. كان يفكر في اقتباس روايات مختلفة، من بينها رواية «فيلم إباحي» لـ«تيري ساوثرن»، الذي سبق أن عمل معه في فيلم «دكتور سترينجلوف - Dr. Strangelove (1964)»، ورواية «قصة حلم» لـ«أرتور شنتسلر»، والتي اقتبسها لاحقاً في فيلمه الأخير «عيون مغلقة على اتساعها - Eyes Wide Shut (1999)»، أحد معاونيه اقترح عليه رواية «البذرة المفقودة» لـ«أنتوني برجس»، والتي تتناول الاكتظاظ السكاني في المستقبل. لكن كوبريك لم يُبدِ اهتماماً بالعودة إلى الخيال العلمي بعد فيلم أوديسا الفضاء.
عندما وقعت يدا كوبريك على رواية «البرتقالة الآلية» وقع في حبها على الفور، وقرر اقتباسها بنفسه. كانت هذه المرة الأولى التي يكتب فيها سيناريو فيلم منفرداً، وأتمّ الكتابة في أربعة أشهر فقط. ومن شدة إعجابه بالنص الأدبي، نقل العديد من الحوارات من الرواية إلى السيناريو كما هي، وهو أمر لم يحدث في أفلامه الأخرى، حيث كان حجم الرواية مثالياً للتحويل إلى فيلم. اقتصر التغيير الذي أجراه على حذف بعض المشاهد ودمج بعض الشخصيات الثانوية لتقليل الوقت.
رغم ذلك، ظل حلم مشروع بونابرت مسيطراً عليه. طلب من برجس كتابة رواية عنه حتى يستطيع اقتباسها، وبالفعل كتب برجس رواية «سيمفونية نابليون»، مستوحاة من سيمفونية «إيرويكا» التي ألفها بيتهوفن تكريماً للقائد الفرنسي. وبعد عرض البرتقالة الآلية، صرّح كوبريك أن فيلمه القادم سيكون عن نابليون، لكن ذلك الحلم لم يتحقق أبداً.

أنتوني برجس يكتب عن آلام الماضي

الروائي والمسرحي البريطاني «أنتوني برجس»، خضع لفحص طبي عندما كان في الثانية والأربعين من عمره، كشف عن ورم في دماغه، وقدّر الأطباء أن أمامه عاماً واحداً ليحياه. هذا التشخيص دفعه إلى تأليف خمسة كتب في سنة واحدة، ليؤمّن لعائلته مصدر دخل بعد وفاته، خاصة أنه لم يكن معروفاً ككاتب في ذلك الوقت، حيث بدأ الكتابة في سن التاسعة والثلاثين. صحيح أن برجس عاش بعد ذلك نحو ربع قرن، إلا أن هذا الهاجس حرره شيئاً ما، ودفعه إلى كتابة روايات تعبّر عن آلامه الشخصية، وخاصة تلك المتعلقة بحادثة اغتصاب زوجته الأولى في لندن على يد أربعة جنود فارين من الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية. كانت الزوجة حاملاً أثناء الاعتداء وفقدت جنينها، ما دفعها إلى الاكتئاب ومحاولة الانتحار. لم يتمكن برجس من تجاوز تلك الصدمة تماماً، وكانت كتابة الرواية وسيلة للتنفيس عن الألم الذي خيّم عليه لسنوات، علماً أنه لم يستطع كتابتها دون تعاطي الكحول.
من ناحية أخرى، عاصر برجس عصابات الشباب المعروفة باسم الـ«تيدي بويز»، التي اشتهرت بأسلوب مميز في اللباس والسلوك العدواني. ارتدى أفرادها ملابس مستوحاة من عهد الملك إدوارد السابع، كنوع من التمرد على القيم السائدة في المجتمع البريطاني، وتأثروا بالموسيقى الأمريكية، مثل الروك أند رول والبلوز، التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافتهم. هذه العصابات كانت تعبيراً عن التوترات الاجتماعية والاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان العديد منهم من أبناء الطبقة العاملة الذين شعروا بالغضب من تدهور مستوى المعيشة.
تخيل برجس أن وحشية تلك العصابات ستزداد في المستقبل بحلول عام 1970، وأن الحكومة ستلجأ إلى أساليب جديدة مستوحاة من أبحاث العالم الروسي «إيفان بافلوف». في تلك الأبحاث، كان الكلب يسيل لعابه عند سماع الجرس اقتراناً بوجود الطعام، حتى أصبح يسيل لعابه عند سماع الجرس فقط. بالمثل، تخيل برجس أن أفراد العصابات سيخضعون لعلاج يربط بين شعورهم بالإعياء وبين العنف، ليصبحوا غير قادرين على ممارسة أي شكل من أشكال العنف بشكل تلقائي.
رواية «البرتقالة الآلية» مكونة من ثلاثة أقسام، كل قسم يضم سبعة فصول، بمجموع واحد وعشرين فصلاً، وهو عدد رمزي يعبر عن سن الرشد ونضج الإنسان.
نُشرت الرواية في بريطانيا عام 1962، لكنها واجهت انتقادات حادة من النقاد، الذين لم يتقبلوا التجريب اللغوي الذي اعتمده برجس. هذا الرفض أثّر على مبيعات الرواية في بريطانيا. أما في الولايات المتحدة، فقد قام الناشر الأمريكي «إيريك سوينسون» بحذف الفصل الأخير من الرواية، الذي يعود فيه «أليكس» إلى حياة العصابات، لكنه يجد نفسه غير راغب في ممارسة العنف. يلتقي بصديقه القديم «بيتر»، الذي أصبح رب أسرة، ما يدفعه للتفكير في دخول حياة أسرية مستقرة. هذا الفصل الأخير أثار جدلاً فنيّاً، حيث رأى الناشر أنه لا يتناسب مع النص، خاصة أن تحول شخصية «أليكس» جاء فجأة دون تمهيد. إضافة إلى ذلك، تضمنت النسخة الأمريكية من الرواية قاموساً مرفقاً لمساعدة القارئ على فهم اللغة التجريبية المستخدمة. هذه التغييرات أسهمت في زيادة مبيعات الرواية وانتشارها في الولايات المتحدة.
المقطع2 التالي منقول بتصرّف من الرواية، حيث يسأل «أليكس» قس السجن عن العلاج الجديد الذي سيمنحه الحرية بعد أسبوعين فقط، بدلاً من البقاء في السجن لسنوات طويلة. فيرد عليه القس: «قد لا يكون شيئا محبباً أن يكون الإنسان صالحاً، بل قد يكون شيئاً مريعاً، وعندما أقول لك هذا، فإنني أدرك كيف أبدو شديد المناقضة لنفسي، أعرف أنني سأمضي ليالي كثيرة مؤرقاً، ماذا يريد الرب؟ هل يريد الصلاح؟ أم اختيار الصلاح؟ وهل الإنسان الذي يختار الفساد ربما يكون أفضل من الإنسان الذي يفرض عليه الصلاح فرضاً؟ هذه أسئلة عميقة وصعبة». برجس هنا يتناول بوضوح شديد الثيمة الرئيسية للعمل: أن الصلاح لا يكون حقيقياً إلا إذا أتى من اختيار حر. فالذي لم يختر أن يكون صالحاً بإرادته الحرة هو مجرد ترس في الآلة الاجتماعية، وهو ما يرمز إليه عنوان الرواية «البرتقالة الآلية». من منظور القس، فإن الرب يحاسب البشر بناءً على اختياراتهم الحرة؛ فإذا حُرِموا من حرية الإرادة، فإن في ذلك انتقاصاً من مشيئة الرب وسلباً للإنسانية.
هذا الاقتباس أيضاً يتناول جوهر التنافر المعرفي، الذي يعيشه القس نفسه. يقول: «عندما أقول لك هذا، فإنني أدرك كيف أبدو شديد المناقضة لنفسي، أعرف أنني سأمضي ليالي كثيرة مؤرقاً»، وهذا الشعور بالتناقض هو جوهر ما يُعرف في علم النفس بـ«التنافر المعرفي».

التنافر المعرفي ونظرية فستنغر

في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، تنبأت طائفة دينية بأن نهاية العالم ستحدث عبر طوفان في يوم معين. في تلك الليلة، هجر أتباع الطائفة عائلاتهم وأعمالهم وانتظروا الحدث العظيم عند منتصف الليل. ولكن عندما لم يحدث شيء، شعروا بصدمة وقلق شديدين. طمأن قادة الطائفة أتباعهم بأن الله قرر تأجيل النهاية، مما أدى إلى انقسامهم بين من استمر في الإيمان ومن كفر وانشق عن الطائفة. عالم النفس «ليون فستنغر» درس هذه الظاهرة، واستنبط منها نظرية «التنافر المعرفي».
هذه النظرية تقول إن الإنسان يسعى دائماً إلى مواءمة سلوكه مع معتقداته ومبادئه، وإذا حدث تعارض بينهما، فإنه يشعر بعدم الارتياح الداخلي. ويترتب على ذلك إما تعديل سلوكياته أو مراجعة معتقداته، أو اللجوء إلى حل أكثر جذرية بالتخلي عن المبادئ نفسها.
رواية «البرتقالة الآلية» وفيلمها المقتبس يعتبران تجسيداً حيّاً للتنافر المعرفي. أولاً، القس الذي يعمل في السجن يواجه تنافراً بين دوره في الإصلاح وبين حقيقة أن السجناء يُجبرون على الصلاح قسراً، وهو ما يتنافى مع تعاليمه حول حرية الإرادة. هذا التناقض يدفعه في النهاية إلى الاعتراض علناً على سياسات النظام القمعي في السجن، بل ويغادر المنظومة بالكامل. التنافر المعرفي امتد أيضاً إلى الجمهور الذي رفض الدفاع عن إنسانية مجرم مثل «أليكس» وحقه في اختيار الصلاح بنفسه.
حتى النقاد انقسموا بين مؤيد ومعارض للعمل. على سبيل المثال، أشاد3 «ريكس ريد» من «نيويورك صنداي نيوز» بالفيلم ووصفه بأنه «واحد من الأفلام القليلة التي بلغت حد الكمال»، بينما هاجمه4 «روجر إيبرت» بشدة، مشيراً إلى تساؤله عن نوايا كوبريك قائلاً: «ما الذي يخطط له كوبريك هنا؟ هل يريدنا حقّاً أن نتعاطف مع ميل أليكس إلى العداء ضد المجتمع؟ ففي عالم حيث المجتمع إجرامي، هل يتحتم على الرجل الصالح العيشُ خارج نطاق القانون؟». هذا الانقسام الشديد في ردود الفعل جعل «البرتقالة الآلية» واحداً من أكثر الأعمال إثارة للجدل في تاريخ السينما، ليكون مثالاً حيّاً على تأثير التنافر المعرفي على صناع العمل ومتلقّيه.

كوبريك وبرجس ولعنة التنافر المعرفي

«أنتوني برجس» نفسه عاش حالة من التنافر المعرفي تجاه روايته البرتقالة الآلية التي كتبها بيديه. رغم تصريحاته المتضاربة حول حبّه أو كرهه للعمل، فإنه جسّد نفسه في الرواية بشجاعة وصراحة نادرة. شخصية الروائي «أليكساندر» في الفيلم تحمل تشابهاً كبيراً مع برجس، فهو أديب كتب رواية تحمل عنوان «البرتقالة الآلية»، وزوجته تعرضت لاعتداء وحشي على يد أربعة رجال شريرين، تماماً كما حدث مع زوجة برجس في الحياة الواقعية. ولكن التنافر المعرفي يظهر بوضوح في مشهد لقاء «أليكساندر» مع «أليكس»، المجرم مسلوب الإرادة. في البداية، يشعر الروائي بالتعاطف معه من حيث المبدأ، ويرغب في فضح الحكومة التي نزعت عن «أليكس» إنسانيته، ولكن بمجرد أن يدرك أن «أليكس» هو نفسه الذي اعتدى على زوجته وقتلها، يعاني الروائي من تنافر معرفي حاد. بين مبادئه الإنسانية ورغبته في الانتقام، ينتصر في النهاية الجانب الانتقامي، ويخطط الروائي بدقة لجعل «أليكس» ينتحر. أخرج ستانلي كوبريك تلك اللحظة ببراعة سينمائية، حيث استخدم زاوية منخفضة لتصوير الممثل «باتريك ماجي» وهو يؤدي رد فعل، يعبر عن الغثيان النفسي والبدني الذي شعر به «أليكساندر» نتيجة للتنافر الداخلي.
واجه «البرتقالة الآلية» هجوماً عنيفاً من الصحافة الكاثوليكية والمحافظين بسبب العنف المفرط، وحصل على تصنيف (X) في الولايات المتحدة، ما يعني عرضه للبالغين فقط. حدث الأمر نفسه في بريطانيا، حيث صنّفه المجلس البريطاني لرقابة الأفلام على أنه غير مناسب لمن هم دون الثامنة عشرة، مما أثار استياء كوبريك. نشر كوبريك رسالة5 في صحيفة «ديترويت نيوز» قال فيها: «إن هذا التأكيد على حماية عقول الناس والحفاظ على نقائها وتخليصها من الأفلام ذات الطبيعة الإباحية، إنما يعيد إلى الأذهان كلمات نطق بها حُكم آخر حول الأخلاق العامة والذوق القومي»، واستشهد بخطاب «أدولف هتلر» عن الأخلاق العامة في معرض ميونخ عام 1937، عندما هاجم الفنون التي اعتبرها منحطة. ولكن مع تزايد الهجوم، اضطر كوبريك إلى سحب الفيلم من دور العرض وإعادة تحريره، حتى حصل على تصنيف (R) ليُعرض مجدداً.
المفارقة الكبرى رغم تلك الإجراءات، أن جاء رد الفعل بشكل غير متوقع. بدأ عدد من الشباب البريطاني في ارتكاب جرائم تحاكي ما جاء في الفيلم، حيث قلدوا ملابس أليكس وعصابته. انتشرت حالات العنف مثل حادثة اغتصاب فتاة هولندية من قبل شباب يرددون أغنية «الغناء تحت المطر»، وقتل متشرد على يد مراهق في السادسة عشرة من عمره. مع ازدياد حالات العنف المنسوبة إلى الفيلم، قرر كوبريك سحب الفيلم نهائياً من العرض في بريطانيا، وأشرف بنفسه على منع تسريبه. شعر كوبريك بتنافر معرفي بين قناعته بأن الفيلم لا يحرض على العنف وبين موجة الانتقادات العنيفة التي تعرض لها، مما دفعه إلى فرض الحظر على الفيلم، بالرغم من اعتقاده أن المشاهدين الذين ارتكبوا تلك الجرائم هم بالفعل منحرفون مسبقاً. وهكذا، وجد كوبريك نفسه محاصراً بتزايد حالات العنف التي جاء إلى بريطانيا هرباً منها في الولايات المتحدة، ليواجهها مجدداً ولكن هذه المرة كنتيجة مباشرة لعمله الفني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.The Film Director as Superstar, Joseph Gelmis, 1970
2.رواية البرتقالة الآلية ترجمة محمود مسعود عن دار الهلال
3.Rex Reed, ‘Review of A Clockwork Orange’, New York Sunday News, 26 December 1971
4.Roger Ebert, ‘Review of A Clockwork Orange’, February 2, 1972
5.Stanley Kubrick: A Biography by Vincent Lobrutto, April 1, 1997
أحمد جودة
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا