«من وين إنتَ؟» يسأله الجندي باعتياد، لكن الضوء يمر على وجهه ويختفي دون أن يجيب، فرغم بساطة هذا السؤال فإنه يضرب عميقًا في الجذوع المتهالكة، من أين أنت؟ لكن هل بإمكان المهاجر أن يجد جوابًا غير الصمت؟ حتى ينتقل المتحدث إلى سؤال آخر لا ينغرز عميقًا في الشروخ، سواء كان المتحدث رفيقًا في مقهى أم كان جنديًا على الحدود. إلى أين أنتما ذاهبان؟ إلى بيروت. ماذا لديكما في بيروت؟ من هذه؟ ماذا لديك في هذه الحقيبة؟ افتح الشنطة! فضيها! شو هيّ؟ «هي أنا صنعتها، كلها شقفة بلاستك اشتغلتها وهيك صار عنا أحلى مجوز صناعة منزلية، تحب أعزف لكم يا وطن؟» ثم يعزف بصوت مجروش على آلة "المجوز" وسط عتمة الليل، ويظهر جليًا الوطن المجروح في عين الجندي التي انقلبت إلى رقة تناقض القسوة والجمود في ملامحه.. كما يبدو باكيًا في عيني الطفلة الصغيرة التي ترافقه وتقود الدراجة إلى بيروت، لأن المهاجر الجريح يريد الوصول إلى بيروت سريعًا من أجل عبورها إلى عرسه، يريد الوصول إلى عروسته هيفا.
وفي بيروت تنتظره الظلمة، والشوارع الفارغة، والمنارة المطفأة، التي يحرسها عجوز بلحية بيضاء مشعة وعكاز.. تغني الفتاة في الشوارع المظلمة ثم تصمت فجأة، فرغم الفراغ والوحشة في هذه المدينة فإنهما يتفاجآن ببائع يجر عربته ويسألهما من أنتما؟ فيُجيبان: عطشانان. وكأن العطش هو هويتهما في هذه اللحظة، فمن يكون العطشان غير إنسان يريد أن يشرب؟ من يكون المهاجر غير إنسان يريد أن يعبر؟ إلى أين أنتما ذاهبان؟ إلى اسكندنافيا. «هاههااهاههاها اسكندنافيا؟ تعرف شو فيها اسكندنافيا؟ غير إنها قبل الله بشوي؟ سقعة، وانتحار». «اتنين ميّ». يمد إليه دولارًا، من أموال هجرته التي باع جزءًا من جسده ليحصل عليها، ينزف جسده، وفي العتمة تذهب الفتاة لتحضر له الدواء، فيخبرها الصيدلي بأنه من الأفضل أن يرى طبيبًا. «هاه؟ طبيب. شكرًا على النصيحة!» ثم تغرق بيروت في العتمة أكثر.
«شو بهم العالم جنوا؟ هيدا القمر مجننهم» ثم يعوي المهاجر عواءً طويلًا، وهو يتسلق الجدار، لأن «في الدول الاسكندنافية العالم أحيانًا بيصرخوا بالليل ليخوفوا ذئب أسطوري بيلحق القمر لياكله، بيقولوا إنه إذا أكله بيختفي القمر والسما بتصير حمرا وكلا دم، وإذا اختفى القمر ما بيضل شي ليحمل السما» يعويان وجسده يقطر دمًا. «تضيق بنا الأرض، فنخلع أعضاءنا كي نمر!»
«هالو! يا رجال ويا مرا! لك ما خلصتوا من هالعيشة الخرا!» لكن لا أحد يستمع إلى صرخات بائعة اللوتو، حتى وهي توقف المارة وتسألهم: «بدك قلبي؟» ولا أحد يريد قلبها، أو حظها، أو النصيب الذي تبيعه، وصرخاتها ضد هذه «العيشة الخرا».. الناس يمرون دون مبالاة وصوت الموج يعلو، يتطلع إليه المهاجر وأخته الصغيرة، فالبحر ينادي، وهما يعرفان جيدًا هذا النداء.
ما من نهار في هذا الفيلم، أو في حياة الشخصيات، فكأنها كائنات تحيا ليلًا، تبيع الأمل والنصيب والأعضاء، وتحاول عبور المدينة وإضاءة البحر، والدم ينزف من بين الخيوط المهترئة التي تخيط الجسد المحتضر، فكل يحمل صليبه باحثًا عن الخلاص الشخصي، كأن قيامة المدينة قامت، فلا أحد يرحم أحدًا، أمام هذا الجسد النازف، ينبح الناس، ويأمرونه بالابتعاد، ليتلو قصيدته (خلاصه)، في مكان آخر، يتجاهلون صرخات بائعة اللوتو (خلاصها)، يدورون معًا في فلك واحد، لكن كل وحده، في فلكه الخاص.. يدفع المال للمهرب الذي يعرف مداخل ومخارج المدينة، ويرى وجه حبيبته منعكسًا على مياه النافورة قبل أن يختفي، فيغني: «خدني يا بحر!» يغني للمدينة لتلفظه في بطن البحر، وحارس المنارة لا يزال يحاول أن يضيء المنارة، تمر عليه بائعة اللوتو: «شو بعدك عم تعمل هون؟ شو صايبكن انتوا بهالبلد؟ عالجنينات المسكرة فيه حرس، عالبنايات المهجورة فيه حرس، عالبنوك المأفلسة فيه حرس، إنت منارتك مطفية. يإما عم بتجنوا، يإما معلقين بحبال الهوا.. أنا النصيب، لك عندك مليون حظ إنك تربح الجايزة الكبرى، على إنك ترجع الضو على هالحي!» لكن الحارس يستمر في محاولة إضاءة المدينة والقمر يتحول إلى الاحمرار ويغطي دمه المدينة.
«حان الوقت!» يقول المهاجران لبعضهما، والحارس يصرخ أعلى منارته، وحيدًا: «ارجعوا» يصرخها بصوت قادم من أعماق الروح: «ارجعوا!» والقوارب تتحرك في بحر لا يعلم أحد إلى أين ستصل موجاته.
تتبعًا لمغامرة البحر وسؤال المنارة، تكلمت مع ليانا ورينو، صانعي فيلم «البحر وموجاته»، الذي عُرض في مسابقة أسيد في مهرجان «كان» السينمائي عام 2023، من أين ابتدأ كل شيء؟ تقول ليانا: «من صورة المنارة المطفية في رأس بيروت التي كانت محاطة ببنايات فخمة معظمها كان فارغًا، فعملنا على إسقاط سؤال بصري على هذه المنارة: ما الذي يمكن أن تقوله لنا؟ وكيف يمكن أن تحكي لنا عن الهجرة بطريقة مختلفة، وعن الحركة، وعن السينما حتى؟»
لكن الأمر بالنسبة إلى رينو قد ابتدأ قبل ذلك بزمن طويل، عندما شاهد في الثانوية فيلم «غرباء في القطار» (1951) ، وشعر بأنه يريد البقاء مع برونو أنتوني، لأن تلك اللحظة كانت المرة الأولى التي شعر فيها بوجود «لغة مختلفة، لغة لا تغمغم، لغة لا تكذب». يقول رينو: «تكمن الصعوبة في الابتعاد عن الفيلم ومواجهة الواقع، غالبًا ما يكون الأمر محزنًا، لذلك نريد العودة إلى السينما».
ما الذي تقوله السينما ولا يقوله الواقع يا رينو؟
"Je t’aime totalement, tendrement, tragiquement."
«أحبك بكل روحي، بكل رقة، وبكل شجن».
في الفيلم هناك دوران لانهائي، دوران حول منتصف ما. تتابع ليانا: «نعم، أخذنا ندور حول هذه المنارة وسؤالها، باحثين عن قصة غير مغلقة، فقد كتبنا بحثًا عن الصدى الذي يمنح صداه لصدى آخر» وفي الفيلم أيضًا غناء، ونباح، وعواء، وعالم خاص يشبه عالم الأحلام، حيث كل شيء ممكن وغير متوقع: «الفيلم ينبع من فكرة الحلم، كُتب بهذه الطريقة وصُوّر بهذه الطريقة أيضًا، حرصنا أنا ورينو على التقاط صور داخلية، ليست بالضرورة مأخوذة من الواقع، لكنها معجونة منه في الآن ذاته».
الفيلم مصور كله بالليل. تقول ليانا: «كنا نصور الفيلم بحثًا عن الضوء أو عن الفتحة، لأننا كنا في نفق مظلم أشبه بغيبوبة، فقد صُوّر الفيلم في الإغلاق الكلي في فترة الكورونا، حيث الشوارع فارغة، ونحن منهكون مرهقون جسديًا وعصبيًا. صورنا في المساء فقط لمدة سبعة عشر يومًا، نبدأ في العاشرة مساء وننتهي في السابعة صباحًا، رغبنا أن نخرج من الواقع عبر العمل الجماعي الذي من خلاله حاولنا العثور على الرضا الخاص والحكي.. أخذنا ندور حول المنارة وسؤالها في حلم طويل، محاولة للعثور على يقظة ما».
طريقة الحكي في الفيلم كانت مغايرة، فقد حاول رينو وليانا أن يترجما الكتابة السينمائية على طريقة الكتابة الروائية، أي رغبة في ترجمة الواقع ليس من خلال صورة واقعية وحسب كما تقول ليانا، بل من خلال «الأفكار والمشاعر والتقطيع والإيقاع وطريقة الحكي واللفظ التي لا تشبه الواقع، كيف أن بائعة اللوتو تحكي بالأفيات، وكيف أن شخصية ما تتوقف ثم تغني».
بما أن الفيلم أشبه بحلم يعيشه صناعه ويمتد حتى إلى متفرجيه، كيف أمكن لفريق كامل أن يحلم حلمًا جماعيًا؟ تقول ليانا: «من خلال النقاش والاستمرارية والصبر، وأيضًا المحبة في الكتابة والمشاركة خلقت هذا الشيء، بمشاركة فريق عمل صغير مكون من عشرين شخصًا فقط، وقد أخافنا هذا الأمر في البداية، لكننا اتحدنا كجسد واحد، كان لدينا عطش رهيب للخروج من الحالة التي كنا فيها، أثناء انهيار لبنان الاقتصادي، جميعنا كان لديه حاجة للتعبير والنجاة.
"أيضا حظينا بمنتجين صبروا معنا بطريقة نادرة، فظللنا نعجن الفيلم على وقت طويل، عملنا خلاله على مشروعات أخرى لنغذي أنفسنا، كما أن الكتابة المشتركة مع رينو هي تمثيل لكيفية الحلم الجماعي».
أما رينو، فيحكي عن رحلته مع الفيلم بأنها «كانت مغامرة طويلة من النضج، وأكبر صعوبة هي محاربة نفاد صبر المرء، الأمر المشجع هو الشعور الرائع بالتعلم، بغض النظر عن السياق، مهما كان فوضويًا».
في الفيلم غرابة تخصه، غرابة تشبه بيروت التي تقول عنها ليانا بأنها «مدينة تمنحك كل الأسباب لتفقد الأمل فيها» ثم تضحك ليانا وهي تحاول أن تبعد عنها صفة التشاؤم وتقول: «كلا، لست متشائمة، أنا أحب أن أصنع شيئًا وأفكر بطريقة ما لتجنب الغرق». ماذا عن البشر الذين ينبحون؟ «هذا التوحش يشبه بيروت، وهذا النباح تعبير عن الغرابة فيها».
ولبيروت صورتها المضحكة والأخرى المظلمة. تقول ليانا بأنهما يتشابكان بطريقة مرعبة، وأنها لا تستطيع أن تمنع نفسها من الضحك، فمنذ مدة قليلة اختلف سكانها حول التوقيت، وانقسموا، تسأل: «كيف يمكن ألا أضحك؟ الناس لديها جنون ما، وما يحدث يعبر عن أساسات فارطة».
«النباح كذلك يعبّر عن الاستقبال والرفض، وهو يشبه المنارة التي تستقبل الغريب والقريب، وكونها مطفأة هو تعبير عن عدم استعداد المدينة للاستقبال والتجدد».
لكن رغم كل ما يحدث فإن الفيلم لم يخلُ من الأمل. الشخصيات أيضًا كانت تبحث عن فتحة ما، حارس المنارة العجوز الذي يتكئ على عصا ويحاول دون جدوى إشعال الضوء في المدينة، وبائعة اللوتو التي تغازله وتعبّر له عن استعدادها لتحبه في زمن آخر. تقول ليانا بأن كل ذلك هو دلالة على كون المدينة، رغم انهيارها، قادرة على استقبال هذا الاستعداد للحب.
وبالنسبة إلى الممثلين تتابع ليانا: «كانت رغبتنا في الأساس العثور على أشخاص لديهم روح يقدمونها للفيلم، فميس مصطفى التي مثلت دور البنت الصغيرة تعبنا حتى نعثر عليها، عمرها أربعة عشر عامًا وهي موسيقية في الأساس، انضمت إلى الفيلم قبل التصوير بخمسة أيام، لكن كان لديها استعداد كبير للعمل؛ رغم أنها تعيش في مخيم في البقاع، تأتي إلى بيروت من أجل التصوير ليلًا. عزز ذلك ثقة عائلتها الكبيرة، أقول إنها ثقة عمياء تقريبًا وجميلة».
«أما الممثل محمد عماري فهو موسيقي يلعب "مجوز" وكنا ننبش عن هذه الآلة لأن لديها صوتًا مُغريًا ويكسر الإيقاع، فصوتها الشبيه بالزمور كأنه صرخة في قلب الليل.. ولم نُضطر إلى عمل "كاستينغ" لهذا الدور لأنه كان واضحًا أنه مناسب للفيلم من خلال وجهه واستعداده للعمل على شيء جديد.. حتى خلال التصوير كان يقدم من روحه وتراثه في الفيلم، فالقصيدة الصوفية التي ألقاها في لحظة ما جاءت من تراثه في درعا حيث تكون أصوله.. وحارس المنارة روجيه عساف هو مَن اقترح تربية هذه اللحية وفهم بسرعة ما كنا نبحث عنه في شخصية حارس المنارة، فهي شخصية رمزية، من خلال حضورها ترمز لشيء أوسع. أيضًا كانت هناك الصرخة المونولوغ في دور بائعة اللوتو، لكن الممثلة حنان الحاج علي قلبت النص واقترحت الأفيات بطريقة عفوية وسريعة، فالجميع عمل على تقديم شيء من أرواحهم للفيلم».
ماذا بعد فيلم «البحر وموجاته»؟ «ما زلنا لا نعرف، انتهينا من الفيلم قبل عشرة أيام فقط من عرضه في "كان"، وما زلنا لم نَخرج بعد من حالة الفيلم، كل شيء لا يزال حلمًا لسنا قادرين على استيعابه، حتى وجودنا هنا».
وأخيرًا يا رينو، ما الذي تريده من السينما؟ «أريد أن تضعني في حالة من الفوضى». وما الذي تريد أن تقدمه أفلامك للعالم؟ «لا أريد أن أقدم شيئًا، أود الاستمرار في الاستسلام».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
هنا رابط يحتوي صور الفيلم