مقالات

الأصابع الطّويلة للواقعية الجديدة: حينما فشل خيال هوليوود!

في الخامس عشر من سبتمبر من عام 2008، أعلن بنك ليمان براذرز الاستثماري إفلاسه، لتنتهي المؤسسة الماليّة التي أُنشئت في مونتغومري، آلاباما قبل 158 عامًا. الحدث كان بمثابة قنبلة انفجرت في وول ستريت، أكبر عمليّة إفلاس في التاريخ الأمريكي، مثّلت نقطة اللّاعودة في أزمة الرّهن العقاري التي اشتعلت نيرانها في الولايات المتّحدة قبل ذلك بعام بعام، لتتحوّل إلى ما نعرفه اليوم بـ«الأزمة الماليّة العالمية»، التي امتد أثرها ليشمل كلّ الاقتصاد العالمي، أزمة تركت آثارًا مدمّرة على اقتصاد الولايات المتّحدة، وبطبيعة الحال دفع أفراد الطّبقة المتوسطة الأمريكية ثمنها، فخلال عامٍ واحد انقلبت حياتهم رأسًا على عقب. ولم يكن هذا الزّلزال الاقتصادي كارثة قائمة بذاتها في سياقٍ مستقل، لأنها ضربت مجتمعًا لم يتعافَ أفراده بعد من آثار كارثة الحادي عشر من سبتمبر. وفي ظلّ الأيام العصيبة والكوارث العظيمة تطفو على السّطح الأسئلة الكبيرة، ذلك النّوع من الأسئلة التي تعبر من السياسي إلى الاجتماعي حتّى تصل إلى الفنّي والثقافي، والسينما بكل تأكيد لن تكون بمعزل من هذه النّقاشات.

شهد ربيع عام 2009 أهمّ نقاش سينمائي أمريكي في القرن الواحد والعشرين، على هامش تبعات الأزمة الاقتصادية العنيفة التي هزّت الولايات المتحدة بعمق. بدأ كلّ شيء بمقالةٍ هي أشبه بورقة أكاديميّة نُشرت في مارس 2009، كتبها رئيس قسم السينما في صحيفة نيويورك تايمز، أنتوني أوليفر سكوت، تحت عنوان: «الواقعية ما بعد الجديدة» Neo-Neo Realism، طرح خلالها سؤالاً أساسيًا على ضوء الأزمات التي واجهها المجتمع الأمريكي: ما نوع الأفلام التي نحن بحاجة إليها اليوم؟ كانت أطروحته عبارة عن هجوم مباشر على هوليوود والأفلام التي تصنعها، وباختصار -مُخلّ- قامت رؤيته المضادة على أن الأمريكيين بحاجة إلى مواجهة الواقع، وهذا ما يجب أن تقدّمه لهم السينما، في استعارة لتَوَجُّه سادة الواقع الإيطاليين بعد الحرب العالميّة الثانية.

وبين مؤيّد ومعارض لهذا الطّرح، انقسم مجتمع نقّاد السينما الأمريكيين. أهم مَن تقدّم لمناقشة أفكار سكوت، كان ناقد صحيفة نيويوركر، ريتشارد برودي. كتب مقالة عَنْوَنها بـ: «عن الواقعية ما بعد الجديدة»، كانت أشبه ببيان دفاعٍ عن السينما الأمريكية، وأساليبها التقنيّة والسّرديّة. في هذه المادّة سنحاول استعادة هذا النّقاش وقراءة حالة السينما في الولايات المتّحدة في أوقات الأزمات وكيف تتعاطى معها.

الواقعيّة الجديدة: سينما الأزمات والكوارث

نشأت موجة الواقعية الجديدة في إيطاليا في منتصف الأربعينيات استجابةً وتفاعلاً مع الواقع الذي فرضته الحرب العالميّة الثانية والهزيمة العسكريّة والفكريّة للنظام الفاشي. يمكن القول، بوضوح، إن الواقعية الجديدة وُلدت من رحم الحرب، وإنه من دون الحرب ما كانت هذه الحركة لتتشكّل في إيطاليا، فأساس الفرق بين موجة الواقعيّة الجديدة الإيطالية والسينما التي عاصرتها في تلك الفترة وما قبلها كان فلسفيًا يتعلّق بالمنظور. يقول روبيرتو روسيلليني رائد الحركة وأهم مخرجيها ومُنظّريها: «جوهر الواقعية الجديدة هو موقف أخلاقي وليس تقنياتٍ عمليّة».

الموقف الأخلاقي الذي تنطلق منه الموجة الواقعيّة لصناعة الأفلام يقوم على أن الفنّان يقع على عاتقه مسؤوليّة سياسيّة واجتماعيّة تجاه جمهوره، فيجب أن تتعاطى أعماله معهم ومع قضاياهم ومعاناتهم، ومن هنا يأتي الاستحضار المباشر للواقع ومواجهة الحقيقة المادّية العارية، دون تزييف أو زخرفة فنّية، وهو موقف يحيلنا إلى الوظيفة التي تحددها النّظريات الماركسيّة للفن. وبكل تأكيد فإن هذه النّظرة الصّارمة للفن تكون أكثر قوةً وصلابةً في أوقات الأزمات واللحظات الصعبة، وهنا نعود إلى روسيلليني من جديد لنرى موقفه الذي يتعاطى مع هذه الفكرة: «يبدو لي أنه من الإجرام في هذه الأوقات ألّا نقترح على الناس غمر أيديهم في الواقع، ليشعروا بحقيقة الأشياء».

بالرّغم من ظهور موجة الواقعية الجديدة في إيطاليا بداية الأمر، ومع السّبق التاريخي الذي حازه مبدعوها مثل روبيرتو روسيلليني، فيتوريو دي سيكا ولوتشيانو فيسكونتي وغيرهم، فإنها تشكّلت في بلدان أخرى كثيرة مثل بنغلاديش والهند في الخمسينيات، البرازيل في الستينيات، السنغال في السبعينيات، وأخيرًا إيران منذ مطلع التسعينيات وحتّى اليوم، صِيَغٌ مختلفة تحمل الروح نفسها التي بدأت بها في إيطاليا، وعند تمعّن هذا الظّهور للسينما الواقعية في كلّ هذه الأمثلة التي ذكرناها، سنجد أنها ترتبط على نحو وثيق بالأزمات والكوارث واللحظات الصّعبة التي تجد الشعوب نفسها في مواجهتها.

وهنا نصطدم بسؤال جوهري يتعلّق بأمريكا، وهو لبّ النقاش الذي خاضه النّقاد السينمائيون الأمريكيون. فيما كانت الواقعية هي الوسيلة التي تتعاطى بها السينما مع الأزمات والكوارث، لماذا كانت الولايات المتّحدة هي الاستثناء لهذه القاعدة؟ وهل كانت استثناءً فعلاً؟

الخيال والواقعية: عن هوليوود وأعدائها

في ديسمبر من عام 2006 عرض متحف الفن الحديث في نيويورك مجموعةً مختارة من أفلام روبيرتو روسيلليني، وعلى هامش هذا الحدث، كتبت ناقدة صحيفة نيويورك تايمز، مانوهلا دارجيس، مقالة عنوانها: «الواقعيّة المحيّرة لروبيرتو روسيلليني»*، افتتحتها باقتباس مقولة لإحدى شخصيّات فيلم «قبل الثورة» (1964) Before Revolution لبيرناردو برتولوتشي: «لا يستطيع المرء أن يعيش من دون روسيلليني»، قبل أن تضيف إليها تعليقًا في مقدّمتها، قائلة: «يبدو أن معظم رواد السينما في أمريكا استطاعوا العيش من دونه، حتى وإن لم يكونوا في أفضل حال». وهذه النّظرة للسينما الأمريكية هي السائدة، ويتقاسمها مع دارجيس، أنتوني سكوت، الذي بنى أطروحته النّقدية انطلاقًا منها. يقول سكوت: «الاكتشاف السينمائي الأكثر جذريّة المتمثّل في الواقعيّة واستحضار الحياة حدث بعيدًا عن هنا، بدأ في إيطاليا أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، وتطوّر في بلدان أخرى، فيما لم يظهر في الولايات المتحدة إلّا نادرًا».

السينما التي تقدّمها هوليوود يمكن وصفها بأنها «سينما الهروب»، وهي النّقيض المباشر والأكثر حدّة لسينما الواقعية الجديدة، التي تضع مواجهة الواقع العاري نصب عينها. هذا الاختلاف الجوهري بين النّوعين السينمائيين، ووقوفُهما متقابلَين على حافّتي الأنواع السينمائية، يجعل الانحيازات لكّلٍ منهما شديدة التطرّف، وهو تناقض في قلبه ينطلق من رؤيتين مختلفتين للعالم، فإن هوليوود هي تمثّل الرؤية الرأسمالية الأمريكية، وقد كانت لعقودٍ الوسيلةَ الأولى لنشر الثقافة الأمريكية في كل أنحاء العالم، أما الواقعية الجديدة، التي أبدعها سينمائيون عُرفوا بقربهم من الحزب الشيوعي الإيطالي، فتتبنّى رؤية راديكاليّة للفنّ بوصفه صوتًا إنسانيًا، يجب أن يُنزّه من الزّخرفة والزّيف، وأن يضع الهموم الاجتماعية أساسًا ينطلق منه ويعود إليه.

إن هذا التّحليل التجريدي، ليس إلّا تسميةً للأشياء، لكنّه يجب ألّا يخدعنا ويجرنا إلى ثنائيات الخير والشّر، والتجميل والتّقبيح، ويجب ألّا يجعلنا نسلّم أنفسنا لكليشيهات الهجوم الأهوج على هوليوود والسينما الأمريكية، لأن هذا النّوع السينمائي ليس سطحيًا تمامًا، وليس عدوًا للإنسان، في حين أن السينما الواقعية، وإن كانت تنحاز للإنسان بشكل ظاهري، قد وقعت في إشكالات عدّة، جعلتها لا تصمد أمام الزّمن، فتهاوت وبحث صنّاع الأفلام -حتّى الإيطاليون منهم- عن أنواعٍ أخرى يمكن أن تعبّر عنهم.

عندما تشاهد فيلم روسيليني «ألمانيا في العام صفر» (1948) - Germany Year Zero، ستصاب بإعياء نّفسي شديد، وستشعر بالضّيق وربّما ستفقد كلّ أمل في الجنس البشري. مقدار الألم والقسوة في هذا الفيلم تتجاوز كل حدّ، والصّبغة الواقعية، التي تجعل المُشاهد يشعر بأنّ كل ما يراه على الشّاشة حقيقي وينبض بالحياة، تزيد من حدّة الشعور بالمأساة إلى أقصى درجة. هل هذا هو الدّور الذي يجب أن تلعبه السينما في حياتنا؟ سنترك هذا السّؤال مفتوحًا، وننتقل إلى هوليوود لنرى الصّورة المقابلة.

في 1940، بعد عامٍ واحد من نشر جون شتاينبك روايته «عناقيد الغضب»، تعاون مخرج هوليوود الأشهر، والفائز بأربعة جوائز أوسكار، جون فورد، مع كاتب السيناريو نونالي جونسون، حيث اقتبسا العمل على شاشة السينما، صانعين فيلمًا حمل ذات الاسم. الرّواية تمثّل أهم الأعمال الأدبية التي نُشرت في أعقاب الكساد الكبير، وهي عملٌ واقعي، يتناول أزمة عائلة من مُزارعي ولاية أوكلاهوما قررت الانتقال إلى كاليفورنيا بحثًا عن فرصة للحياة، بعد أن استحوذ البنك على أرضهم وطردهم منها.. حكاية مأساوية، كُتبت بعاطفة إنسانيّة كبيرة.. صرخة عنيفة في وجه الوحشيّة الرأسمالية.. وانتصار للإنسان المسحوق، الذي دهسته عجلة النّظام المالي الذي لا يعبأ بالعدالة أو الأخلاق.

هذه الحكاية المباشرة الأسلوب والواضحة الدلالة والمعنى، في اقتباسها السينمائي، «نُزِّهت» من أهم سماتها، المتمثّلة في الأسلوب الواقعي، لتكون في الفيلم أقلّ حدّة وأخفّ قسوة. التصوير في الاستوديو ينزع عنها الشعور العنيف الذي يهيمن على القارئ، وستتحوّل من مأساة إنسانية كاملة المعالم، إلى قصّة حزينة، ربما تبكي عند مشاهدتها، لكنّها مجرّد قصّة حزينة، لا أكثر ولا أقل. لن تدفع المُشاهد إلى إعادة التفكير في النّظام الرأسمالي، وبالتأكيد لن تصنع عنده رغبة في الثّورة عليه. لكنّ هذا لا يجعل من الفيلم عملاً سيئًا، على العكس، هو فيلم جيّد، صُنع بإتقان، وأجاد ممثّلوه تجسيدَ الشّخصيات، حتّى إنك لتشعر بأن إيماءاتهم وحركاتهم تنفُذ إلى الخبايا النّفسية المستترة داخلهم.

وهنا، من خلال هذا المثال، يمكن أن نفهم أسلوب هوليوود، فحتّى عند تناول أكثر القصص والحكايات واقعيّةً وتفاعلاً مع الحالة الإنسانية، يتمّ صبغها بأسلوب الاستوديو، الذي يجعل منها «فيلمًا» وليس واقعًا متجسّدًا على الشاشة. وهكذا، تتسامى هوليوود على الواقع، وتقدّم لمشاهديها واقعًا بديلاً، رحلة في عالمٍ موازٍ، تولّد لديهم مشاعرَ موازية، خياليّة، لا تشبه ما يجرّبونه في حياتهم العادية.

عن خيال هوليوود الذي فشل أمام الاختبار

يقدّم أنتوني سكوت في مقالته تصوّرَه عن هوليوود والسينما التي تقدّمها في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية التي يواجهها المجتمع الأمريكي. يقول: «ما نوع الأفلام التي نحن بحاجة إليها اليوم؟ إن هذا السؤال يظهر تلقائيًا -تقريبًا- في أوقات الأزمات. لقد طُرح هذا السؤال مرارًا وتكرارًا وسط دوامة القلق والربكة التي نشأت في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكانت النتيجة التي توافَقَ عليها المديرون التنفيذيون لاستوديوهات هوليوود والصحفيّون والنّقاد السينمائيون المختصون، هي أننا -بعد هذه التّجربة التي لا يمكن تَصَوُّر رعبها- بحاجة إلى الخيال، وهذا ما تمّ العمل على إنتاجه، فحتّى لو رأينا بعض الاستثناءات في الأفلام الوثائقية السياسية الغاضبة، أو الأفلام الدراميّة الجادة، فإنها لم تستطع أن تقوّض التوجه العام».

هوليوود تتمسّك بالخيال والنظرة إلى السينما بوصفها منتجًا ترفيهيًا، كما لو كان الأمر «عقيدة» راسخة لا يمكن تغييرها أو أن يحيد السير عنها. والتفاعل السينمائي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لم يكن المرّة الأولى التي تندفع فيها هوليوود للإيغال أكثر في أسلوبها الخيالي. يضيف سكوت هنا: «هل تذكرون فترة الثلاثينيات، عندما رقصنا فوق مأساتنا خلال فترة الكساد الكبير مع فريد أستير، وبازبي بيركلي، وضحكنا وسط الكآبة مع لوبيتش والإخوة ماركس؟»، وبمدّ الخط على استقامته، سنرى بوضوح أنه في لحظات الأزمات الكبرى التي واجهها المجتمع الأمريكي، كانت أفلام هوليوود تذهب في اتجاه التّرفيه على نحو أقوى وفي بعض الأحيان أكثر فجاجة، وكأنها تقدّم نسيان الواقع والهروب منه بديلاً لمواجهته.

في 2009، وسط الأزمة الاقتصاديّة الطاحنة، سارت هوليوود على الطريق نفسه من جديد، وهذا ما أنتج رفض أنتوني سكوت ونقّاد سينمائيين آخرين في الولايات المتّحدة، ونقتبس من مقالته مجددًا وهو يقول: «في الأشهر الأخيرة [أي فترة الأزمة الاقتصادية] تبلورت مجموعة من المشكلات والمخاوف الجديدة. لقد فقد النّاس وظائفهم ومنازلهم، وتآكلت القيم واختفى الأمان. ومن جديد نجد أننا نبحث عن النّسيان، نسيان مشكلاتنا. في أوقات الرخاء والسِّلم، أو في لحظات الأزمات والحروب، نرى بأن الأفلام التي نحتاجها هي تلك التي تقدّم لنا إمكانية الهروب، مهما كانت خيالية أو مؤقتة»، ليضيف: «ربما نحن بحاجة إلى هذا النّوع فعلاً، ولكن لنفكّر قليلاً، ماذا لو كنّا في بعض الأوقات بحاجة إلى الهروب من الهروب؟ خلال العقد الماضي تمّ تصعيد الخيال السّاحر من كونه أسلوبًا مسلّيًا ليصبح مبدأً أيديولوجيًا. إنه من الصّعب التمييز بين الإيمان الحميد بأن أحلامنا سوف تتحقق، وبين الإغراء الأكثر شرًا المتمثّل في اندفاعنا للإيمان بالأكاذيب. لمواجهة طغيان الخيال السّحري الذي يُكَرَّس بوصفه رؤية حصرية في وول ستريت وواشنطن وكذلك في هوليوود، يبدو أنه علينا أن نعود للتعامل مع العالم كما هو، وربما يكون من المفيد أن نأخذ في الاعتبار أن ما نحتاجه في السينما والأفلام في مواجهة عالم واقعي مثير للقلق والارتباك هو الواقعيّة».

إن الأزمة السينمائية التي أنتجت مقالة أنتوني سكوت، والتي أنتجت النّقاش بين النّقاد السينمائيين الأمريكيين، نشأت في الأصل بسبب فيلم «المليونير المتشرّد» (2008) - Slumdog Millionaire، الذي تزامن عرضه أواخر صيف عام 2008 مع استعار لهيب أزمة الرّهن العقاري، وجاء استحواذه على الأضواء في حفل الأوسكار الذي أقيم في فبراير 2009 -بحصوله على ثماني جوائز- بعد انفجار الأزمة المالية وتحوّلها إلى واقع يعيش الأمريكيون تحت وطأته. الفيلم، وإن كان يقدّم للمشاهدة تفاصيل الفقر والحرمان، فإنه في قلبه يحتفل بالرؤية الرأسمالية للعالم والخيال الذي تكرّسه هوليوود، فإن قِصّته المغمورة بالعاطفة هي مطاردة لأحلام الثراء السريع، تأتي في إطار مغامرة يتغلّب في نهايتها أبطالُها على البؤس ويبلغون أهدافهم بطريقة سحريّة. ونعود هنا إلى ثيمة الهروب إلى الخيال والأوهام، ودفع النّاس للإيمان بالأكاذيب.

على الجانب الآخر من الصّورة، وما زاد من تناقض المشهد وحرّض سكوت ورفاقه لخوض نقاشهم، كان عرض فيلم المخرجة كيلي ريشاردت، «ويندي ولوسي» (2008) - Wendy and Lucy، الذي يصوّر قصّة كفاح امرأة شابّة وكلبتها، بعد أن تقطّعت بهما السّبل في إحدى بلدات ولاية أوريغون. الفيلم هو أشبه ما يكون بتأمّل هادئ ومتأنّ للوحدة واليأس وما الذّي يمكن أن تفعله الحالة الاقتصاديّة المتردّية بالفرد، وبطريقة ما يذكّرنا بفيلم فيتوريو دي سيكا «أومبرتو دي.» (1952) - .Umberto D.

فيلم كيلي ريشاردت كان عملاً مستقلاً، جاء من خارج استوديوهات هوليوود، وفي ظلّ الأزمة الاقتصاديّة مثّل النموذج المضاد، فعلى عكس الهروب المستمر نحو الخيال والأوهام، أعطى فرصة لمواجهة الواقع، ورؤية الأشياء على حقيقتها من دون تزييف أو تجميل. ولهذا تحديدًا مال إليه نقّاد كُثّر، ورأوا فيه وفي أفلام واقعيّة أخرى مثل «النّهر المتجمّد» (2008) - Frozen River لكورتني هانت، «الثّقل» (2008) - Ballast للانس هامر، و«وداعٌ منفرد» (2008) - Goodbye Solo لرامين بحراني، أنها الأسلوب السينمائي الذي يحتاج إليه المجتمع، لمواجهة مشكلاته وفهمها.

لقد مثّلت الأفلام الواقعيّة المستقلّة التي أُنتجت في العامين 2008 و2009 صورةً عبّرت عن الأزمة الإنسانية التي وجد المواطن الأمريكي نفسه في مواجهتها، وأكّدت كذلك على فشل هوليوود ونموذج الهروب العبثي الذي تتبعه، ليكتشف الأمريكيون، بعد أكثر من ستة عقود على ظهور الواقعيّة الجديدة، أن أصابعها امتدت إليهم، وأنّهم بحاجة إليها حتّى تكون الأفلام التي تُعرض في لحظات الأزمات معبّرةً عن حالتهم، وحتى يفهموا أنفسهم وواقعهم من خلالها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. قيس عبداللطيف
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا