مقالات

«إلى أرض مجهولة»: حجبٌ للحلم والصوت

يُقدّم مهدي فليفل طرحًا جريئا في مناقشة قضية اللاجئين الفلسطينيين في فيلمه «إلى أرض مجهولة»، والذي تم عرضه في مهرجان البحر الأحمر الدولي، وحاز على إعجاب الحضور رغم ما يحمله من ألم وقسوة وجرأة في كشف المستور دون مواربة. فالعِلاج لا يحتمل اللطف، ومشرط الجراح لا يعني القسوة لمن يريد التشافي، فالواقع أقسى بكثير مما نراه، وما قدمه مهدي هنا، ما هو إلا النزر اليسير مما يعيشه اللاجئون المبعثرون في أرض الله الواسعة، وفقء الدمل ضرورة، حتى للمتشائم الممسك بالدبوس الذي يرى احتمالَ التهاب الجرح أمرًا واردًا، بل ويسير في الاحتمالات دون أن يقف عند محطة وردية طوال الرحلة.

لا طريق للخروج من أثينا

لا يغيب أبدا المثل الدارج القائل «كل الطرق تؤدي إلى روما»، وما أقرب أثينا من روما، وما أبعدها أيضا! يحكي الفيلم قصة الشاب «شاتيلا» الذي يقوم بدوره محمود بكري، وقريبه «رضا»  الذي يقوم بدوره آرام صباغ، وهما الفلسطينيان المهاجران من لبنان إلى أثينا، والحالمان بالخروج من أثينا إلى ألمانيا، وما يتكبدانه من أعمال ومصاعب في سبيل توفير المال؛ للخلاص من أثينا، وتحقيق حلمِهما بهجرةٍ جديدةٍ، مُفعِّلين خاصية الحلم باستئجار مكان قديم، ليصبح مقهًا يعمل به «شاتيلا» وزوجته التي تركها مع ابنه في مخيمٍ بلبنان، ورضا الذي رغم أنه لا يحمل من المؤهلات ما يشفع له أو يمكنه من تقديم أي شيء، إلا أن شاتيلا يجد في وجهه الساذج القبول، لا لأنه كذلك! وإنما كرمًا منه، ومن منطلق استشعاره للمسؤولية الملقاة على عاتقه.
المسؤولية التي حمّلته إياها عمته التي أوصته على ابنها رضا، ورعايته خشية عودته للتعاطي، فيبذل شاتيلا كل ما في وسعه، على إثرها، من أجل أن يكون عند حسن ظن عمته، مُستجيبًا للواجب المتحتم عليه، وفاءً لوالده الذي قام بتربيتهما معا، ولكن لا سبيل لاستقامة ذيل الكلب، ولو وضعته في قالب!

تناقض الشخصيتين

يقدم الفيلم الصراع والوفاق ما بين شاتيلا ورضا، فانطلاقا من الاسمين، ومعناهما اللغوي المُحيل إلى رمزية «شاتيلا» الضاربة في المعاناة؛ فمنذ بناء المخيم الشهير الذي يحمل هذا الاسم، والألم لا يزال مصاحبا لكل اللاجئين.
يقع مخيم شاتيلا جنوب بيروت في لبنان، ومنذ أن تبرع «سعد الدين باشا شاتيلا» بأرض له لإيواء المهاجرين قسرا من فلسطين، بعد النكبة في نهاية الأربعينات الميلادية، حملت هذه البقعة اسم صاحب المنحة. ومن يومها، وقبلها، والمحنة ملازمة لحياة كثير من اللاجئين، ولأن الحياة لا تقف مهما كانت سيئة! نما المخيم بتوالد أجيال في تلك المخيمات التي تفتقر لكثير من مقومات الحياة، بل وما يزيد الطين بلة، هو ما واجهه مخيم شاتيلا في الثمانينات الميلادية من أهوال المجزرة الشهيرة التي تحمل اسمه مقرونا باسم «صبرا»، والتي راح ضحيتها كثير من اللاجئين، وكأن الطرق منذ ذلك الزمن كانت غير ممهدة، هذا إن كانت ثمة طُرقٌ من الأساس! بينما نرى هنا «رضا» وما يحمله من استسلام بادٍ على وجهه يظل نقيضا لما يكابده «شاتيلا» أثناء الرحلة.

أثينا ما بين الحكمة والفوضى

«أثينا» اسم آلهة الحكمة اليونانية، ومهد الأساطير الضاربة في القدم، والتي منشؤها صراع الجبابرة، والفوضى العارمة على الصعيدين الأسطوري والتاريخي. هذا الصراع الذي انتقل من الأساطير إلى الواقع بالاحتلال الفارسي، وكأن التاريخ يعيد نفسه باختلاق الفوضى واللامعقول.
يبيت بطلا الفيلم في بناءٍ يضم المهاجرين إلى أثينا، وهو أشبه بالخرابة التي تجمع الخلطاء، وشاتيلا ما هو إلا «بروميثيوس» سارق النار الذي لم يتورط فيما تورط به رفاقه من التعاطي أو الفساد الأخلاقي الذي يقترفه رضا مثلا، المستسلم البريء المُستغَّل في المنتزه لأغراض شاذة بمقابل مادي. ومع ذلك شاتيلا ليس بريئا بالمطلق، كما أن بروميثيوس سارق في نهاية المطاف، فشاتيلا السارق بمعونة رضا، لا يخجل من الإنكار على رضا ما يقترف في المنتزه، والحدث الأقسى من ذلك -والذي لم يدخره فليفل الذي أبدع في إغراق البطلين دون رحمة- حين أرسل شاتيلا قريبه رضا مع الشاذ بمقابلٍ أعلى، فشاتيلا طاهرٌ يُمارس الخطيئة مضطرًا، كما حدث مع «تاتيانا» التي قامت بدورها الممثلة اليونانية «أنجيليكي بابوليا»، لأن اقترابه منها مُبررٌ بهدفٍ قاده لذلك، وهو إعانة الطفل «مالك» ليصل إلى عمته في إيطاليا، وليكون المقابل المادي وسيلةً لتحقيق هدفه في الخروج من هذه الفوضى، وتَحقُّق حلمه بالوصول إلى ألمانيا. ولكن لا أحد يعلم ما الذي حدث لهما بعد خروجهما، كما أن الحقيقة لا تظهر كاملة دائما، والمبررات لا تقوم بدورها أيضا.

الضرب في الميت

الخروج من الوطن ضرب من الموت البطيء، فالغربة كُربة، والسفر قطعة من العذاب كما في الحديث الشريف، والغريب ذليلٌ خارج أرضه. فكل ما يعانيه شاتيلا هو من أجل البحث عن عذابٍ أقل بالهروب من أثينا إلى ألمانيا، فحياته كلها هروب ورثه كابرًا عن كابر، فكل المحن ابتدأت من التهجير، ولن تنتهي ما دام شاتيلا ورضا في بحث دائم عن منفى جديد. فكل ما يقومان به من سلب ونهب «مُبررٌ» وفق منطق الشخصيات وحسب دوافعهم الشخصية؛ المُسوغة لأهداف نبيلة تقود إلى حياة آدمية لطفله الذي جاء، ولو على حساب والد سوري لجأ إليه من أجل وجود مَخرج شريطة وجود ضامن، وهو المزوّر «مروان» الذي قام بدوره باقتدار الممثل القدير «منذر رياحنة»، فسرقة المسروق لها ما يبررها، فمع ما يحمله شاتيلا من نُبل إلا أن القسوة في موقفه ذاك يجدها ضرورة مبررة فـَ «..وَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلا ** مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى» كما قال المتنبي من قبل، ومع فساد رضا الظاهر إلا أنه يملك قلبا طيبا لا يرضى بجوع أسير، أو قسوة غير مبررة، أو معاملة لا إنسانية، وهذا ما يقوده للتعاطي هروبا من ورطته التي رسمها السيناريست بدوافع لا تبرير لها، وهي المشعلة والمحرقة في آن لسير الفيلم وابتعاده عن الإملال. فبينما يعيش رضا تأنيب الضمير، يجد شاتيلا نفسه مدفوعا بواقع الحال إلى ما يفعله، فموت مشاعره اضطرار، ولا سبيل من تأنيب مدمن لمن هو أصلح منه، فموت مشاعره لم يكن باختياره.

شمس أثينا

المشهد الأخير من الفيلم كان قاتلاً، حين أخرج الحافلة من النفق إلى الشمس، ليصدم المشاهد بالحديث الذي لا يسمعه من كان الحديث مُوجهًا إليه، فتشرق الشمس على رجلين من رجال غسان كنفاني في روايته الشهيرة «رجال في الشمس»، والتي استَشهد بها المخرج مهدي فليفل في جوابه، بعد العرض الأول للفيلم في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي؛ إذ لا يمكن الحديث عن اللاجئين الفلسطينيين دون أن يحضُر غسان كنفاني، الذي جسد ببراعة معاناة اللاجئين، ووثق قصصهم وغُصصهم.
رواية غسان كنفاني تجسد رحلة ثلاثة لاجئين فلسطينيين يحاولون الوصول إلى الكويت بحثا عن حياة أفضل، وهي رحلة تنتهي بمأساة في خزان مياه، وهنا تأتي المفارقة عندما يُصبح الماء الذي هو رمزٌ للحياة وسيلةً للموت، فالشمس وهي مصدر العافية، هي ذاتها الحارقة التي لا تأذن ببصيص أمل، وما أقسى أن يتوه النور في وضح النهار!
إن الصمت الذي ألزم به مهدي فليفل بطله بعد محاولة للثرثرة -التي لا يسمعها رضا- أقسى بكثير مما لو جاء دون ثرثرة، فمن المؤلم أن تخرس وأنت قادر على إيصال صوتك، والأكثر قسوة حين تثرثر ولا يسمعك أحد!
يعد فيلم «إلى أرض مجهولة» لمهدي فليفل إضافة قيمة لمعاناة اللاجئين، فهو موضوع جدير بالطرح لتجسيده آلام المهاجرين في العالم، وتوثيق المعاناة دراميًا، وتشريح معضلة البحث عن الوطن في عالم لا يبصر في اللاجئين إلا بؤسهم، بل يزيد ذلك بؤسا ما استطاع أن يزيد، بحجب أقل ما يمكن أن يصل، عبر تقديم هذه المأساة الملهاة بطرح تراجيدي لم يخل من الكوميديا. فمع قسوة الفيلم إلا أن الجمهور قهقه في بعض مواطن الفيلم، لأن أقسى الكوميديا ما جاء في قالب تراجيدي، وهل هناك أقسى من حياة تفترض السعادة، ولا تهب إلا البؤس!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

د. محمد البشير
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا