مقالات

«لا بد أن تكون هي الجنة»: سيرة إيليا سليمان المتوجة في «كان»

«أن تكون فلسطينيًا، هذا تحد في ذاته. يتوجب عليك تجاوز هذا الخطاب القائم عن فلسطين، وأن تصنع فيلمًا له بُعد
عالمي». المقولة لصانع الأفلام الفلسطيني إيليا سليمان الذي تُوج فيلمه "لابد أن تكون هي الجنة" (It Must Be
Heaven) بجائزة النقاد في الدورة الثانية والسبعين من "مهرجان كانّ السينمائي الدولي" (2019)، بعد دخوله في
منافسة شرسة مع أفلام مثل: "حدث ذات مرة في هوليوود" (Once Upon a Time in Hollywood)
لكوينتين تارنتينو و"حياة خفية" (A Hidden Life) لتيرينس ماليك.

"لابد أن تكون هي الجنة" هو التجربة الإخراجية الروائية الرابعة لسليمان، وفي هذا العمل يواصل سليمان استلهام
تجربته الذاتية داخل أفلامه، سليمان الذي عاش طفولته تحت الاحتلال الإسرائيلي، وشهد التهام ما تبقى من الأراضي
الفلسطينية في عام 1967. ثم عقب ذلك بعشرة أعوام، وحينما كان فتى لم يتجاوز السابعة عشر عامًا، أُلقي القبض عليه
من قبل القوات الإسرائيلية، وتم الضغط عليه للاعتراف بانتمائه المُسلح لمنظمة التحرير الفلسطينية. ومنذ ذلك اليوم، قرر
سليمان الهجرة، سعيًا لحياة آمنة. هاجر الفتى أولًا إلى أمريكا وبريطانيا ثم إلى فرنسا، ولكن ارتباطه بوطنه لم ينقطع قط،
فعاد بين الحين والآخر، ولكن العودة هذه المرة كانت من أجل السينما، وبواسطتها أيضًا.

الذات والوطن
أراد سليمان أن تجسد أعماله جانبًا من سيرته الذاتية، فكان فيلمه "سجل اختفاء" (1996)، الذي قام ببطولته هو وأسرته
وأصدقاؤه، وفيه يعرض سليمان قصة عودته من أميركا إلى أرضه المحتلة، وكيف تم التعامل معه وأسرته كأنهم بشر بلا
وطن أو جنسية، غير أن الفيلم جاء أقرب إلى السينما الوثائقية على طريقة آنيس فاردا. ثم عاد سليمان في العام 2002
ليصنع فيلمه الروائي الأول "يد إلهية" وفيه استمر في صناعة سينماه الخاصة، من خلال فيلم يتحدث عن رجل فلسطيني
يحيا برفقة حبيبته في مدينة الناصرة، ويكافح، تحت وطأة الاحتلال وممارساته، لكي يراها. في هذا العمل تحديدًا، الذي قام
ببطولته أيضًا، اختط سليمان لنفسه خطًا جديدًا يبدو أنه سيستمر معه؛ وهو الكوميديا، حيث جاء العمل مغلفًا بالكوميديا
السوداء، التي دفعت عديدًا من النقاد لمقارنة أسلوبه بأسلوب الممثل والمخرج الأميركي باستر كيتون. وقد شارك الفيلم
ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي الدولي (2002)، واستطاع أن يحصد جائزة لجنة التحكيم، بالإضافة إلى جائزة
أفضل فيلم من الاتحاد الدولي لنقاد السينما.

جاء الفيلم الثاني بعنوان "الزمن الباقي" (2009)، حيث دارت أحداثه بشكل أوسع عن مأساة الشعب الفلسطيني منذ عام
1948 وحتى وقت صدور الفيلم، من خلال أربعة فصول من حياة عائلة فلسطينية عاشت في بلدة الناصرة. يمزج
سليمان في هذا العمل بين ذكرياته الخاصة وذكريات والديه واصفًا الحياة اليومية لهؤلاء الفلسطينيين الذين ظلوا في
أرضهم بعد إعلان قيام إسرائيل عام 1948، ممن عُرفوا بـ"عرب إسرائيل". ولمرة أخرى نجح سليمان في الوصول
بفيلمه للمنافسة على جوائز مهرجاني كان السينمائي الدولي وتورنتو السينمائي الدولي.

2
"لابد أن تكون هي الجنة" (2019) هو الحلقة الثالثة في سلسلة السيرة الذاتية لسليمان بعد فيلميه السابقين، وهو يغطي
المرحلة التي غادر فيها سليمان فلسطين أملًا في وطن بديل. لكن هذا الأمل أو الوعد بحياة جديدة يتحول إلى كوميديا
مليئة بالمفارقات. ورغم أنه يسافر بعيدًا، منتقلًا من باريس إلى نيويورك، فإن صورة الوطن لا تفارقه أبدًا، بل يتحول
الوطن ذاته إلى منظار يرى به العالم، هوية ملاصقة ترتحل معه أينما ذهب.

سخرية ممتزجة بالشجن
ثيمة بسيطة، وربما تكون متكررة، عن شخص يرتحل من موطنه، فيظل مسكونًا بهويته داخل كل السياقات التي يتنقل
بداخلها، مولدةً كمًا كبيرًا من المفارقات. لكن أن يكون هذا الشخص فلسطينيًا، لهو أمر يجعلها بالتأكيد مختلفة. بساطة
الثيمة أيضًا لا تخلق من الفيلم عملًا سطحيًا، ففي بساطتها نتعرف على الذات المُشتتة شتات الفلسطينيين الذين يبحثون عن
وطنهم المنشود. في "لا بدّ أن تكون هي الجنة"، يفتش سليمان مرة أخرى عن وجوده، وكأنه يطارد الأجوبة بحثًا عن
هويته الفلسطينية.

قديمًا تعرّض سليمان للنقد بحجة أن أفلامه «لا تعرض القضية الفلسطينية بالقدر الكافي»، بمعنى أنه لا يُظهر الفلسطينيين
كضحايا أو كمقهورين؛ باختصار لا يظهرهم كمُحتلين. يرد سليمان، بصورة عملية عبر أفلامه، بأن السخرية مثلما تمتلك
القدرة على توليد الضحك، فإنها قد تستدعي أيضًا مشاعر الشجن والحنين، وقد تحمل بداخلها قدرًا كبيرًا من المأساة. يقول
إن الرؤى الهزلية التي يخلقها «تظهر للعالم كما لو كانت صورة مصغرة عن فلسطين». في قلب المفارقة ينسج سليمان
قضيته ببراعة تصيب الهدف بدقة، وهذا هو سر تميزه، أن يخلق الفكرة في قلب المفارقة الساخرة.

يقوم سليمان بالدور الرئيس داخل الفيلم. يحكي قصة سفره إلى الخارج من الناصرة – موطنه – حيث يذهب أولاً إلى
باريس، ومن بعدها إلى نيويورك، في محاولة للتحدث إلى المنتجين بغية الحصول على دعم لتنفيذ أحدث أفلامه. وربما لو
افترضنا أن هذا الحدث يستند إلى واقعة حقيقية في حياة سليمان، لكان عليه أن يكون أكثر دبلوماسية وإقناعًا مما كان
عليه داخل الفيلم، حيث احتفظ بصمت هزلي غامض في وجه كل من قابلهم.

يأتي المشهد الافتتاحي للفيلم من الناصرة، داخل إحدى الكنائس احتفالًا بعيد الفصح، حيث يتلو أحد رجال الدين
الأرثوذكس بعض الصلوات وهو يقود الموكب الملتف حوله نحو باب حديدي مغلق، يفترض أن يفتحه أحدهم عندما
يقترب منه. لكن العامل المسؤول عن فتح الباب على الجانب الآخر لا يتمكن من القيام بذلك، لأنه ثمل (لا يصرح الفيلم
على نحو مباشر أن هذا العامل هو سليمان، لكن في الواقع لن يصبح للمشهد ضرورة سردية ما لم يكن هو). يختفي
الراهب خارج الشاشة لينهر العامل ويعاقبه. إنه عاطل عن العمل وتبدو عليه أعراض السُكر من جديد. يمضي الزمن
ليظهر سليمان أكبر سنًا بنظارته الثقيلة ولحيته الرمادية وقبعته المصنوعة من القش. إن جيرانه أكثر غرابة، فقد استولى
أحدهم على أشجار الليمون الخاصة به، في حين يبدو آخر وقد أصابه الخرف. ولا وجود للطرف الأنثوي إلا في مشهد
خاطف لفتاة بدوية تسير بين أشجار الزيتون. يختتم سليمان الجزء الخاص بالناصرة بأحد المشاهد التي يظهر فيها وهو
يقود سيارته عائدًا إلى منزله عندما يصادف سيارة شرطة تجلس في مقعدها الخلفي فتاةٌ معصوبة العينين.

ينتقل الفيلم إلى فرنسا، حيث تتغير الموسيقى العربية التقليدية لتحل الفرنسية محلها تدريجيًا. في باريس لا يستطيع سليمان
أن يغمض عينيه عن الفتيات الجميلات اللائي ينطلقن بثقة في الشارع مرتدين التنانير القصيرة والأزياء البراقة. يلاحظ

3
سليمان أن الجميع يرتدي ملابسه على أحدث الصيحات، ويبدو مفتونًا ببعض رجال الشرطة الذين يستخدمون زلاجات
كهربائية في السير (Segways) بدلًا من السيارات. لكن في مشاهد أخرى يُظهر سليمان الوجه لآخر للشرطة، حيث
يستهجن القمع الذي تمارسه في كل مكان في العالم، حتى لغير الفلسطينيين، بما فيه الغرب الذي لا يكف عن إظهار
تحضره. وفي مشهد بديع من مشاهد الفيلم يُفاجَأ سليمان بدخول عصفور إلى غرفته في الفندق، يتبادل معه بالنظرات
حوارًا صامتًا ثم يفتح نافذة غرفته طالبًا من العصفور أن يغادر في حرية.

عندما يفشل اجتماعه مع أحد المنتجين السينمائيين في فرنسا، يستقل سليمان طائرة أخرى لبلد آخر: الولايات المتحدة التي
قد تحمل بداخلها فرصة جديدة. لكن الموسيقى لا تتغير بل تظل كما هي. في الولايات المتحدة، يتجول سليمان في أحد
المتاجر، ليكتشف أن الناس يشترون الأسلحة على مختلف أنواعها، من بنادق وحتى منصات إطلاق الصواريخ، ويخرجون
بكل سهولة. يحاول صديقه المكسيكي جايل جارسيا برنال مساعدته في الحصول له على موعد مع أحد المنتجين
الأمريكيين، يهاتفه فيسأله عن موضوع الفيلم فيرد بأنه «كوميديا عن السلام في الشرق الأوسط»، ويبدو من رد جايل أن
المنتج قد سأله عن هوية المخرج ليخبره بأنه «ليس فلسطينيًا من إسرائيل. إنه فلسطيني من فلسطين»؛ هنا ينتهي الحوار.
وفي سنترال بارك، يطارد ستة رجال شرطة مسلحين فتاةً ترتدي أجنحة ملائكية وعَلَمًا فلسطينيًا، حتى تمضي بعيدًا
لتتخلص منهم.

ما إن تكون فلسطينًا، فإنك ستضمن تعرضك للمضايقة على أيدي الشرطة. ستهان وستوضع تحت المراقبة. ولكن، ها هو
العالم كله قد تحول إلى دولة بوليسية عملاقة، وشبكة واسعة من نقاط التفتيش، والمواطنون المسلحون يتطلعون إلى
بعضهم بعضًا بشكل مثير للريبة. السيطرة موجودة في كل مكان ودون انقطاع. وقد تمثلت موهبة سليمان في قدرته على
نقل هذا الشعور المقلق بمشاهده الاحترافية الأنيقة وبتوقيعه المميز، مما جعل كل مشهد داخل العمل أشبه بلقاء مصيري
بين صمته المغلف بالدهشة وما يحدث حوله.

وكما شابلن، الذي اعتبر الكوميديا نوعًا من خطابات اللاعنف، واتخذها وسيلة للنقد الاجتماعي، يلجأ سليمان إليها كليًا في
التعبير عن فكرته، ومثل شابلن أيضًا يستخدم سليمان الصمت المُعبر على طول فيلمه، حيث لا ينطق طوال العمل سوى
بكلمة واحدة يوجهها لسائق تاكسي أمريكي أسود، يعترف له بأنه فلسطيني، فيسارع السائق إلى الاتصال بزوجته، ليبلغها
الخبر المفرح الذي لا يُصدَّق، وهو الذي لم يلتق فلسطينيًا من قبل في حياته ويعتبر ظهور سليمان في سيارته بمثابة
«معجزة»، يرفض على إثرها الحصول من سليمان على أجرة المسافة التي قطعها.

من أجمل مشاهد الفيلم ذلك المشهد الذي يذهب فيه إيليا سليمان لمقابلة قارئ لأوراق التاروت (عراف) في نيويورك.
ينظر المنجم له فيعرف سؤاله؛ إنه سؤال عن «الدولة الفلسطينية المأمولة»، سؤال عن «فلسطين الغد»، التي يحلم سليمان
بأن تغدو واقعًا يومًا ما. يؤكد المنجم لسليمان بأن حلمه سوف يتحقق، ويطمأنه بعد أن يقرأ الطالع أنه «أجل، سوف
يتحقق لا محالة»، لكنه يستطرد قائلًا إن الأمر قد يتطلب بعض الوقت، إذ لن يحدث ذلك، كما يقول الطالع، إلا بعد مرور
سنوات طويلة، «ولن نكون للأسف، لا أنا ولا أنت، هنا».

لم يقدم سليمان في فيلمه أي خطاب وعظي ولم يستحضر أي موضوعات سياسية علنية. لكن خلف المفارقات المختلفة
تتكشف عديد من الخطوط التي تتقاطع مع السياسة والمجتمع ونقد السلطة والبحث عن الهوية. يعرض الفيلم حال البشر
في فلسطين وباريس والولايات المتحدة، حالهم مع الاضطهاد والقمع والتحكم والألم، في ظل السلطات الاستبدادية البوليسية

4
التي تتحكم في كل شيء. لكنه لا يحكي ذلك بالكلمات، بل بلغة السينما، بالحركة والصورة، بالصمت المعبر، الذي يحمل
بداخله ضجيج ربما يصم الآذان.

فيلم "لابد أن تكون هي الجنة" هو بحث فلسفي عميق عن معاني الهوية، وواقع الغربة في وطن محتل، يبدو ساخرًا أو
حتى هزليًا من الخارج فقط، لكنه يحمل دراما عنيفة بداخله. هناك أوقات ربما يشعر فيها المُشاهد بأن جرعة السخرية
ضخمة بحيث كان من الممكن تقليلها، وهناك لقطات كان وجهُ سليمان يخطئ فيها التعبير، خاصة أن أداءه كان بملامح
ثابتة وبتعبير واحد طوال الفيلم. ومع ذلك نجح هذا التعبير ذاته في خلق حالة من الشجن التي يصعب تحديد سببها على
وجه الدقة؛ ربما سببها امتزاج تعبير الدهشة مع ملامح سليمان الشرقية إلى جانب معرفتنا بهويته الفلسطينية.

وكما يبدأ الفيلم من الوطن، يأتي المشهد الأخير منه أيضًا، حيث يجلس سليمان داخل إحدى الحانات في الناصرة، يتأمل
في صمت بعض الشباب الفلسطيني هنا وهناك، وفي الخلفية صوت نجاة الصغيرة يشدو بأغنية «بحلم معاك
بسفينة…وبموجة ترسّينا…ونبحّر تاني…الريح تعاند…وألاقي في عينيك وإيديك شطي وأماني…العالم كله بأسراره…عايش
وياي…عايش جواي…طول ما أنت...في الرحلة معاي».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

بدر الدين مصطفى
May 29, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا