مقالات

كيف أثّر الأدب الروسي في السينما الروسية؟

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شق الأدب الروسي طريقه نحو العالم الغربي وسمعت أوروبا وأمريكا تلك الأسماء البرّاقة مثل: تشوكين، وتولستوي، ودوستويفسكي، وترجنيف، وتشيخوف وآخرين، وكان ظهورهم من ظلمة الطغيان والحرب الروسية أمرًا محيرًا لكثير من الناس، نظرًا لأن الأدب الروسي كان آخر القادمين إلى مملكة الأدب. 

ولعل ذلك انطبق على السينما الروسية كذلك، فقد مرت بعثرات وفترة ركود طويلة خلال الحروب والثورات، ولكنها عادت عودة المنتصر من حربه، ومنذ نشأتها كان لها أسلوب فريد اقتبسته من أسلوب الرواية الروسية ورموزها المعقدة وأساليبها العميقة، ولأن تاريخ الأدب الروسي تقدم على حداثة السينما الروسية فقد أثر فيها تأثيرًا كبيرًا حتى وصل هذا التأثير إلى سينما العالم الغربي. لكي نتأمل مدى التأثير الذي قدمه الأدب الروسي للسينما الروسية، أقدم لكم في هذه المقالة قراءة تقدم لمحات عن تاريخ هذا الأدب ورواده، وكيف ساعد الأدب الروسي في نهضة صناعة السينما الروسية، وما هي العقبات التي مر بها الكتّاب وصنّاع الأفلام.

تاريخ الأدب الروسي. مر الأدب الروسي بمسيرة عريقة، ومرت كل مرحلة بمدارسَ فنية وروادٍ أضافوا لتلك المدارس كثيرًا، وما واجهته كل مرحلة من عقبات وميزات اختلفت به عن غيرها، وبإمكاني سرد مراحل تاريخ الأدب الروسي في خمسة مراحل:

العصور الوسطى: بدأ الأدب الروسي من القرن العاشر من خلال الدين المسيحي الذي أخرج مؤلفات دينية أدبية وأهمها «كتاب العهد الجديد»(3)، وعلى الرغم من سيطرة الكنيسة المسيحية فقد برزت الأساطير الشعبية التي تُحكى بين القرى، وقصائد الملاحم، وأغاني الحب، وكانت القصائد تعبر عن خيالات الشعب وعواطفهم وخصوصًا الجنود والفلاحين.

القرن الثامن عشر: شهد هذا القرن ظهور الكتّاب الذين أحدثوا تأثيرًا جوهريًا في الأدب، منهم الشاعر بوشكين وليرمونتوف اللذان ساهما في تألق الشعر الروسي، وكانت الحركة الرومانسية هي التي أنشأت أشكالًا شعرية وجعلت الشاعر الروسي هو القوة الأدبية لذلك العصر.

القرن التاسع عشر: بدأ من هنا العصر الذهبي للأدب الروسي ووصل تأثيره إلى القمة بظهور أعداد هائلة من القراء الجدد، والاستغلال التجاري لتداول الكتب، وكان الكاتب معلمًا وموجهًا له تأثير أخلاقي وعاطفي في المجتمع، وكانت المؤلفات الأدبية التي نُشرت في ذلك العقد قوية التأثير كمًا وكيفًا، وانتصرت الروح الواقعية على الكتّاب من خلال مؤلفاتهم، ومن أبرز المؤلفات كانت «الآباء والأبناء» لتورجينيف، و«الأبله» و«الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، و«الحرب والسلام» لتولستوي، و«الحرباء» لأنطون تشيخوف.

الأدب السوفييتي

مر الأدب الروسي بمرحلة غلب عليها الركود بشكل كبير، ولكن تبعها ازدهار مقيد وأُطلق على تلك المرحلة «أدب الثورة»، وبدأت هذه المرحلة من عام 1917 وانتهت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991.

فترة : 1917 - 1940

في عام 1917 سقطت القيصرية الروسية بعد ألف عام من الحكم، وقام النظام السوفييتي على يد لينين، ولم يصل التأثير السلبي اقتصاديًا واجتماعيًا فحسب، بل أثّر في النشاط الأدبي الذي أصبح ضئيلًا وأوقف مسيرة الحياة الأدبية، وأصبح بين أرفف المكتبة الروسية كتب سياسية، وصحف حزبية، ولجأ المؤلفون خارج بلادهم إلى برلين وفرنسا. توقف النشاط الأدبي وسط الدمار والموت، وظهر الانتعاش في عام 1920 وبدأت فترة النشاط بصدور المجلات ودور النشر، وازداد إنتاج الكتب، ولكن بتشدد من الرقابة وضغط  من الحزب(2).

وظهر جيل جديد من الروائيين والشعراء للمسرح الأدبي، ومنهم الشاعران يسينين ومايكوفسكي، وظهر في قصائدهم الأسى وقسوة الواقع لما عاصروه في فترة الحرب، وظهرت مؤلفات الأدب السوفييتي وكان لونوف أحد أهم الروائيين السوفييت وعالج في قصصه الحالة الاجتماعية والاقتصادية للسوفييت في رواية «الباعة المتجولون»، ونُبذت في تلك الفترة السياسية أعمال الأدباء المؤثرين في فترة الحداثة ومنهم: بوشكين، ودوستويفسكي، وتولستوي. (3)

تاريخ السينما الروسية

وكما مر الأدب الروسي بالقفزات والعقبات، فقد مرت السينما الروسية بما مر به الأدب الروسي، ولكن الفارق بين تاريخ السينما الروسية والأدب الروسي أن الأدب ساعد في نهضة السينما الروسية، خاصة عند نشأتها، في وقت كان يسود فيه حكم ما بعد الثورة البلشفية على يد لينين، وعُرض أول فيلم -Stenka Razin- في عام 1908، وأُنشأت أول مدرسة سينمائية بدأت في موسكو عام 1912 على يد المسرحي والممثل فلاديمير جاردين.

الفترة الصامتة ما بين 1909 – 1916

انطلقت في هذه الفترة صناعة الأفلام وكان معظم هذه الأفلام مقتبَسًا من الأدب الروسي بقصصه ومسرحياته وقصائده المشهورة، وتم إنتاج تسعة عشر فيلمًا في عام 1909 وارتفع عددها إلى مائة واثني فيلم في عام 1912.

  • 1912، أخرج بروتازانوف فيلم «وفاة الرجل العجوز العظيم» Departure of a Grand Old Man وهي قصة مقتبَسة من تأملات ليو تولستوي في كتابه «اليوميات» في جزئه السادس.
  • 1913، أُنتج فيلم «مفاتيح السعادة» The keys of happiness المقتبَس من رواية الكاتبة الروسية أناستازيا فيربيتسكايا والذي حقق شهرة كبيرة في شباك التذاكر، وجاءت معظم الأفلام الناجحة من كُتّاب النثر المعاصرين.
  • 1914، أُغلقت الحدود الروسية بعد سيطرة الحلفاء في الحرب العالمية الأولى على سوق روسيا، وكانت التجارة الجديدة بمثابة ضرر للصناعة، وعلى الرغم من النقص الذي زاد مع استمرار الحرب، فقد ازدهر الإنتاج وأُنتج 230 فيلمًا.
  • 1916، كان النقص في مخزون الأفلام مشكلة حقيقية، ونشأت السوق السوداء، وسمحت أسعار السوق السوداء للاستوديوهات الكبرى بالبقاء وتم طرد معظم الاستوديوهات الصغيرة من العمل. وكان الشاعر ألكسندر بوشكين المؤلف المفضل للاستوديوهات التي تبحث عن الإنتاجات «المرموقة»، وأنتج بروتازانوف «ملكة البستوني» The Queen of Spades من خلال نجم السينما الروسية إيفان موزوخين(1).

سينما الأفلام الصامتة السوفيتية

منذ بداية الثورة عام 1917 كانت السينما الروسية تعاني من أزمة عميقة، وأدت ثورة فبراير إلى تفاقم تلك الأزمة وأُغلقت النقابات الروسية ودور السينما، وظهرت أفضل أعمال بروتازانوف «الأب سيرجي» Father Sergius المقتبَس من رواية ليو تولستوي.

وبحلول نهاية عام 1919، كان واضحًا لصانعي الأفلام الروس أن البلاشفة -بأفكارهم المختلفة حول السينما والتشديد على صناعها- أفكارهم السياسية راسخة ولن تزول، ولذلك بدأ صنّاع الأفلام بالهجرة إلى باريس، وبرلين، وبراغ، وسان فرانسيسكو، ولم ينجح معظمهم في استعادة حياتهم المهنية في مجال السينما، وعلى الرغم من وجود بعض الاستثناءات كانت هذه الهجرة نهاية صناعة السينما المزدهرة المبكرة.

لقد كانت العشرينيات عصرًا للتنوع الفني، ولكن شهدت تلك الفترة سيطرة النظام من خلال الرقابة الشديدة على الأعمال الفنية بكافة أشكالها بعدم السماح للفنان بأن يصدر أفكاره، وفي عام 1924 تم حظر 216 فيلمًا بسبب الخطر الذي تشكله على التعليم الأيديولوجي للعمال والفلاحين.

وبعدما حصلت تلك الفجوة للأعمال الفنية أدركت القيادة في عصر حكم ستالين الإمكانية الدعائية الجبارة في الوسائط الجديدة وخصوصًا الأفلام ووصف ستالين العاشق للسينما على أن الأفلام «أهم وسيلة على الإطلاق للتهييج الجماهيري»(2).

العصر الذهبي

في الستينيات والسبعينيات، شهدت السينما الروسية العصر الذهبي مع ظهور مخرجين مثل: أندريه تاركوفسكي، أندريه كونشالوفسكي، وسيرغي بوندارتشوك، وأصبحت أعمالهم تُعتبر من أهم الأفلام في تاريخ السينما. 

وسطعت الأفلام الروسية التي اقتُبست من الروايات الروسية الشهيرة ومنها:

  • فيلم «الجريمة والعقاب» (1970) Crime and Punishment المقتبَس من رواية «الجريمة والعقاب»، من إخراج ليف كوليدجانوف.
  • فيلم «الأبله» (1958) The Idiot من إخراج إيفن بيريف والمقتبس من رواية «الأبله» لدوستويفسكي.
  • فيلم «آنا كارينينا» (1967) Anna Karenina لألكساندر زارخي والمقتبس من رواية تولستوي الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه.
  • فيلم «الإخوة كارامازوف» (1969) The Brothers Karamazov المقتبس من رواية «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي.

ولكن تبقى السؤال الجوهري الذي خط هذه المقالة، وهو كيف أثر الأدب الروسي في السينما الروسية؟ 

ومن خلال قراءتي لتاريخ كلا الفنين، هناك طرائق عديدة أثر بهما الأدب الروسي في السينما الروسية والتي خلقت أعمالًا سينمائية ذات تراث فني غني:

  • تبني القصص والشخصيات

تبنى صنّاع الأفلام الأعمال الأدبية الروسية التي تتميز بالشخصيات المعقدة والقصص المليئة بالتفاصيل والتطورات التي تمر بها الشخصيات، وتمكن هذا العنصر من خلق أفلام غنية بالتفاصيل والعمق داخل الشخصية، وأثرت كتابة هذه الشخصيات في الأدب الروسي إلى تميز البطل الروسي في الفيلم الروسي فأصبح يتسم بالواقعية، وله مبادئ وعقيدة راسخة وذلك من خلال ثبات موقفه رغم التقلبات التي تمر به، وغالبًا تتمثل شخصيته بانتمائه لجذوره القومية التي تجعله مندفعًا وشجاعًا.

  • الرمزية والفلسفة

الأدب الروسي تناول القضايا الفلسفية والاجتماعية المعقدة، وهذا منح السينما الروسية الفرصة لاستكشاف هذه القضايا بأسلوب بصري، وتأثر أسلوب الأفلام الروسية بأسلوب روايات الكتاب الروس، وقد ذكر الناقد كرستين تومسون: «كما تمت الإشارة إليه في المراجعة الأولى والإيجابية لهذه الأفلام في عالم الصور المتحركة، كثيرًا ما يتم سماع النغمة المأساوية، وإن الأفلام الروسية تميل إلى ما يسمى "النهاية الحتمية" وليس النهاية المثالية أو السعيدة، كان هذا هو الشيء الذي أعطى المراجعين بعض الرعشات الطفيفة من الخوف فيما يتعلق بالاستقبال الذي قد يحظى به جمهورنا لهذه الأفلام»(1).

  • تأثير السياق التاريخي والاجتماعي

تأثر الأدب الروسي بالأحداث التاريخية والاجتماعية وأنتج أعمالًا أدبية تصف الطبقات الاجتماعية كطبقة النبلاء ورجال الدين والتجار والجنود والفلاحين والفترات التاريخية وتقلباتها وتأثير الحروب فيها من خلال الثورة والحروب الأهلية والعالمية، فنرى في قصص تشيخوف أسلوبه التراجيدي للفلاحين البسيطين، والنبلاء المتكبرين، والتجار الحاذقين، والمدرسين المملين، والقساوسة التافهين، والضباط الجهلة بين القرى والمدن والقصور.

  • التعبير عن الروح الروسية

عَكَس الأدب الروسي الروح والهوية الروسية، فامتزج هذا الأدب بين الرومانسية والواقعية والعمق الروحي، وذلك من خلال تصويره للمناظر الطبيعية الواسعة بين القرى النائية والذي أضاف عزلة وجمالية خاصة به، ومن خلال تعامله مع مفاهيم الديانة والروحانية والتي تأثرت من المسيحية الأرثوذكسية، فنرى ما يجول في عقول شخصيات الأدب الروسي من تساؤلات حول القَدَر ومعنى الحياة.

واستخدمت السينما الروسية هذا التعبير الفريد لنقل العمق والشاعرية الروسية في الأفلام، ولعل أقرب عمل رأيت فيه هذه الشاعرية الروسية هو عمل «المرآة» (1975) لأندريه تاركوفسكي والذي اجتمع به مع تولستوي من خلال تسجيل تجاربه الشخصية وتأسيسه لعالم خاص به بقوانين فنية تهتم بتسجيل التجربة الإنسانية بكل ما يحيطها من شقاء، وقد ذكر عن فيلمه:

«لقد كان العالم بالنسبة لي مرتبطًا بأمي. لم أدرك هذا عندما كانت على قيد الحياة، ولكن عندما ماتت أمي أدركتُ الأمر فجأة وبوضوح شديد. لقد أخرجت الفيلم (المرآة) وكانت أمي لا تزال على قيد الحياة، وقد خُيّل لي أنني أتحدث عن نفسي في هذا الفيلم، ولكنه كما اتضح لي فيما بعد أنني كرسته لحياة أمي، والروح الإنسانية المعذبة والمليئة بالخيبات لا يمكن أن تكون إلا بهذا الشكل الهائم والغريب عن ملكوت الدنيا».(1)

ختامًا، فإن ماضي الأدب الروسي والسينما الروسية هو ماضٍ عظيم، وهو ماضٍ يجعلنا نتأمل بأنه مهما بلغت قوة الظروف الهالكة التي حلت به فهي ستخلق عاجلًا أم آجلًا انتصارًا وتفوقًا حتميًا وذلك بوجود الدافع للتقدم. إنها تلك الشرارة التي لم تنطفئ بداخل الفنان رغم الأزمات والعقبات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

المراجع
1 Rimgaila salys (2013) The Russian cinema reader 1908 to the stalin era
2 ستيف.أ. سميث (2018) مقدمة قصيرة عن الثورة الروسية. ترجمة:عاطف عثمان.
3 مارك سلونيم (2017) مجمل تاريخ الأدب الروسي. ترجمة:صفوت عزيز.
مريم عبدالله
May 7, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا