مقالات

«جنون الرجال» والنسويّة!

حين تٌنهي مشاهدة عمل درامي، وتبدأ مباشرة في البحث عن مقالات تحليلية عن العمل، تعرف أن العمل قد أثار خيالك، أما حين تنهض لإحضار شاحن اللابتوب فتجدك تمشي كما بطلة العمل، فقد وقعت في سحره. هذا ما حدث معي بعد مشاهدة مسلسل «جنون الرجال» (2007–2015) Mad Men، دراما تلفزيونية تدور أحداثها داخل وكالة إعلانات في الستينيات بمدينة نيويورك. عمل أشادت به صحيفتَي «واشنطن بوست» و«لوس أنجلوس تايمز» باعتباره «الدراما التلفزيونية الأكثر نسويّة»، رغم احتلال الرجال المشهد، وظهور النساء كأطياف تحاول العبور!

تاريخيًا، عاصر العمل الموجة الثانية للحركة النسوية، والتي تركزت قضاياها حول الحق في العمل والأمومة والطلاق وهي إشكالات كانت تخوضها النساء البِيض من الطبقة الوسطى في تلك الحقبة. البطل الرئيس للعمل رجل، «دون دريبر»، شخصية ثرية نفسيًا، ما بين معاناة من طفولة قاسية وتجربة عنيفة شابًا، جعلته يقرر انتحال شخصية أخرى للهروب من تبعات الماضي، إلا أن تلك التبعات وذكرياتها ظلت تلاحقه. أظهر دريبر عبقرية إبداعية في عمله جعلته موضع تقدير، وإن ظل شخصيةً غامضةً للجميع. لم يحاول إملاء ما يريده على الآخرين، فهو يدعهم يفعلون ما يريدون، بما في ذلك زوجتيه وحبيباته، وبالمقابل يفعل ما يريده. لا يحاسب الآخرين على أخطائهم ولا ينتظر منهم ذلك، ولأجل هذا يخون زوجتيه دون مراعاة لانكشاف أمره. يعيش حياته بلا اكتراث، حتى في عمله حين تأتيه الرغبة، يختفي لأيام وأسابيع، ليبدو كشخص بارد وقاسٍ، وبالمقابل تصدر منه سلوكيات تُظهر منه جانبًا إنسانيًا منصفًا وحساسًا.

المفارقة أن بعض المقالات رأت في هذا البطل نموذجًا لرجل نسويّ، فهو يعامل النساء في العمل بنديّة تبدو قاسية أحيانًا، ودون تشكيك جندري بجدارتهن. هل ينبع ذلك من أنه عاش طفولته في بيت دعارة؟ أي أنه كان محاطًا بنساء «عاملات»، فالبغايا لم يكنّ إلا رائدات أعمال احتجن إلى إدارة عملهن كأي مهنة، وما اختلف هو أن بيئة العمل أصبحت، افتراضًا، تحفظ كرامة النساء على نحو أفضل! في المقابل، تعيش النساء العاملات في المسلسل مرحلة انتقالية، حيث يصبح وجودهن في المكاتب معترفًا به، ولكن محدودًا بسقف زجاجي يحدد لهن إطارًا لأدوارهن الوظيفية، المحصورة بدور السكرتيرة.

الشخصيات النسائية الرئيسة تقع في إطار ثلاثة نماذج متباينة: جوان هولواي، بيغي أولسن، بيتي دريبر. أما البقية، فقد تقترب أو تبتعد من أحد هذه النماذج الثلاثة. لذا، فإنه من المهم تناول هذه الشخصيات الرئيسة الثلاث بتفصيل أكبر. بيتي دريبر، الزوجة التقليدية المثالية، امرأة جميلة بمظهر جذاب وأم تجيد العناية بأبنائها، كما تجيد إقامة الولائم للمناسبات الاجتماعية. هي نموذج مناسب للرجل الناجح ليصطحبها بفخر إلى المناسبات الرسمية بمثابة دليل على حياته المثالية، بما يعزز نجاحه المهني. مثالية شكلية، تخفي خلفها امراة حياتها محصورة بدور محدد ومختار لها مسبقًا، بما يجعلها تستسلم لحالة «الملل المدمر من الحياة» كما عبّرت عنه بيتي فريدان في كتابها الشهير «اللغز الأنثوي». تعيش بيتي في عصر كانت الفكرة السائدة فيه هي أن الأمومة وحدها يجب أن تكون كافية للمرأة، بما يجعلها لا تحاول الكشف عن ذاتها وقدراتها وبالتالي لا تعرف ما ينقصها، لتصبح غير راضية على الدوام، دون معرفة سبب هذا السخط، بما يعزز شعورًا بالعجز، وهذا نموذج كلاسيكي لحالة الاكتئاب الصامت والإحباط المكبوت، والذي سيؤدي إلى كثرة التذمر وانتقاد حياة الآخرين، لينتهي بها المطاف نموذجًا تقليديًا لـ«الزوجة النكدية». ولكن على الرغم من ضجرها من وضعها فإن بيتي لم تستطع الخروج من دورها. لذا، حين تصل إلى نقطة اللاعودة مع زوجها، لا تطلب الطلاق حتى تضمن وجود زوج آخر، فهي لا تستطيع العيش إلا بوصفها زوجة. نموذج بيتي -بحسب المسلسل- نموذج ضعيف لن يستطيع الاستمرار، لذا تصاب بالسرطان لتموت سريعًا، فإن زمنها قد ولّى.

جوان وبيغي كانتا نموذجًا للمرأة العاملة، والاختلاف بينهما يظهر جليًا في تعاملهما مع جسدهما وعلاقتهما مع الرجل وفي موقفهما من الأمومة. جوان هولواي -بتفاصيل جسدها الصارخ أنوثةً- تعي أن الرجال لا يرونها إلا من خلال جسدها الصاخب، ولا تحاول إنكار ذلك، فهي لا تحاول مقاومة تنميطها، بل تقرر الاستفادة من ذلك لأقصى درجة. يكشف هذه الفكرة المشهدُ الذي تنحني فيه جوان بطريقة كاشفة لانحناءات جسدها أمام الزجاج الأحادي الاتجاه، الذي يقع خلفه زملاؤها الذكور في العمل. هي تدرك ما تفعل، فهي تستخدم جسدها الجنسي، «موضع إدانتها»، وسيلةً لتعزيز مكانتها. تقرر جوان عدم الاختباء من هذه الحقيقة، حقيقتها، وألّا تجعلها عائقًا لمسيرة طموحها، بل إنها تستخدمها بوصفها ميزة، كما أي ميزة يسجلها الموظفون في سيرهم الذاتية، وعلى الرغم من براعتها وذكائها وصرامتها في العمل، تُتهم جوان علنًا وضمنيًا من قِبل بيغي وبعض الموظفين بأنها تُسهم في «إدامة الهياكل الذكورية وذلك بلعبها دور "مارلين مونرو"»، فلماذا تفعل جوان ما تفعله؟

بداية، إن جسدها هو حقيقتها، مشيتها المتمهلة التي تمنحك وقتًا لمراقبة تفاصيل حركة جسدها، صوتها بنبرته التي تتراوح بين الهدوء الأنثوي والهمس العابث البارد، مع عيون نصف مفتوحة وكأنها لا تكترث للآخرين، نموذج جسدي لامرأة لا تكترث، وهي صفات دائمًا تجتمع لدى النساء الشهوانيات أو مثيرات شهوة الرجال، فلماذا على امرأة بهذا الحضور أن تخفي كل ذلك لتنجح في عملها، في حين يتباهى الرجال من حولها بخياناتهم الزوجية وقدراتهم الذكورية؟ أضف إلى ذلك أن جوان على دراية بالسقف الزجاجي، لذا لا تحاول الاصطدام به، كما تفعل بيغي، بل تلتف عليه. هذا الأمر يمكن تلمسه في المشهد الذي تتعرض فيه جوان للتحرش من زميل عمل، وهو مشهد جوهري في كشف الاختلافات بين جوان وبيغي، وفي الكشف عن المصائر المحتملة للنساء في بيئة العمل في تلك الفترة؛ حين تتعرض جوان للتحرش من زميل لا تفعل شيئًا وتقرر الاستمرار في أداء عملها دون شعور بالعار قد يدفعها إلى محاولة إخفاء هويتها الأنثوية، أما بيغي فتعاقب الموظف بطرده ليتعلم احترام زميلات العمل. هنا تعترض جوان بأن هذا ليس إلا «إثبات [بأنها] مجرد سكرتيرة بلا قيمة، [وأن] بيغي عاهرة لا [تتمتع] بحس الدعابة». موقفان مختلفان من التحرش أو التمييز الجنسي، فسواء كان الأمر يتعلق بتجاهل التمييز الجنسي في المكتب كما تفعل جوان أو اتخاذ إجراء كما تفعل بيغي، فإن كلا التصرفين يكشفان عن الإشكالات التي تعيشها المرأة في بيئة العمل.

تختار بيغي أن تكون ندًا للرجل في العمل، فهي امرأة موهوبة ومثابرة ولديها الطموح الذي يجعلها تختار «الطابع الرجالي للعمل»؛ تعمل وتدخن وتسهر في المكتب كالرجال، وبملابس كمن يحاول إخفاء آثار جريمته: «جسد أنثى»، حتى أصبح الرجال يتعاملون معها كزميل عمل، فلا يتحرجون من إلقاء التعليقات المهينة عن النساء، فهي جزء من مجموعتهم. تربط بيغي تقدمها المهني ببذل مجهود حتى لا تظهر بمظهر جنسي أو أنثوي تنافسي، فمثلاً، حين يحدث نقاش في المكتب مفاده أن كل امرأة يمكن اختزالها إلى أحد نموذجين، جاكي كينيدي أو مارلين مونرو، تُسأل بيغي أي النموذجين ستكون، فتضحك ولا تجيب؛ هي ترى نموذجها خارج هويتها الأنثوية وذلك عبر اقترابها إلى النموذج الرجل، وهذا ما يجعل تجربتها المهنية تختلف عن نموذج جوان، فإن جوان تحتفي بصدرها الكبير بارتدائها ملابس شديدة الضيق لتستعرضه بكل فخر وثقة أمام الموظفين، وفي المقابل، تختار بيغي ملابس بلا لون ولا نكهة حتى تخفي نكهة جسدها ليشعر معها الرجال بنديتها. تريد بيغي أن يراها الموظفون الرجال باعتبارها «شخصًا» جديرًا بالتقدير، يعمل وفق القيم التي يؤمنون بها. ولكن هل يساعدها هذا؟ لا. تظل بيغي تعيش الصراع، صراع امرأة تنجز كثيرًا براتب أقل، وهذا هو الفارق الرئيس بينها وبين جوان، فإن جوان تعي سقفها فتعمل ضمن حدوده، مستعينة بذكائها الأنثوي.

يظهر هذا الفارق في كيفية تعامل المرأتين مع الحمل. تحمل بيغي دون زواج لتقرر التخلي عن الطفل حتى دون محاولة منها لمعرفة موقف الأب، لأن هذه الأمومة ستقف عائقًا أمام حياتها المهنية، لتعيش بجرح أمومي تحاول المكابرة عليه، أما جوان فتختار الاحتفاظ بالطفل، فهي متصالحة مع أدوارها الأنثوية بما فيها الأمومة، بل وتختار نسب الطفل إلى الزوج، حتى تضمن لطفلها وجودًا مشروعًا في المجتمع. هل تخطئ جوان بذلك؟ لا تطالب الزوج بشيء سوى ورقة ستصنع فارقًا في حياة طفلها في مجتمع يتسامح مع أخطاء الرجل ولا يفعل المثل مع أخطاء النساء. تكذب على الزوج، ولكن هي تعيش في مجتمع يحدد لها سقفًا، لا في العمل بل حتى في حياتها، فإن طفلها لا يمكن أن تنسبه لنفسها، وإن نسبته لوالده الحقيقي سيدفع ابنها الثمن. تختار أن تتماهى مع سقف المجتمع وتسمي طفلها بما يريده المجتمع: «نسب الطفل للزوج». تكمن قوة جوان وعيها الدائم بالسقف الزجاجي، أما بيغي فعلى الرغم من كل ذكائها وموهبتها فإنها تعتقد أن هذا السقف سيتلاشى بمجرد تماهيها مع الرجال، وهذا ما يجعلها ترتطم بالسقف كثيرًا لتصاب بخيبات متعددة.

بين هذه النماذج الثلاثة: زوجة مثالية، امراة عاملة (ند للرجل)، وامراة عاملة (مارلين)، نجد نماذج نسائية أخرى -باختلاف وضعهن الاجتماعي أو عمرهن- جميعهن يعشن إشكالات نساء تلك الحقبة، فمثلاً، فاي ميلر، الباحثة النفسية، نموذج لامرأة عاملة تقع في منتصف المسافة بين جوان وبيغي، حيث تحتفظ بأنوثتها بالحد الأقصى الذي تستطيع، وبذات الوقت تُظهر صرامةَ وكفاءةَ الرجال المهنية، ومع هذا لا تخلو حياتها المهنية أو الشخصية من المنغصات والعقبات، أما النموذج الشاب، فنجد ترودي كامبل، الزوجة التقليدية، امتدادًا لشخصية بيتي، امرأة تضع ابتسامة مشرقة دائمة على وجهها، ولا نعلم إن كانت سعيدة أم لا. لا تصبح ترودي زوجة نكدية -بعد- ولا تصاب بمرض مميت كما بيتي، ولكن لعل مصيرها لن يختلف عن مصير بيتي، فبالرغم من أنها ترفض خيانة زوجها ولا تغضّ الطرف كبيتي، فإنه ينتهي بها الحال لتكون زوجة «صالحة»، وهو الأمر الذي عبّرت عنه ممثلة الدور بقولها: «مثل معظم النساء في ذلك الوقت، كانت ترودي قادرة على غضّ الطرف عن أي شيء تجده منفرًا طالما كانت قادرة على ذلك، فلطالما كانت ترودي مهتمة بما يعتقده الآخرون، لذا فهي قادرة على إظهار حالة من البهجة في الأماكن العامة، حتى لو لم تكن الأمور مثالية في المنزل».

في المسلسل، لم تُطرح كلمة «نسوية» ولا مرة، رغم أنه مغرق بالنقاش النسوي. تمثل بيغي وجوان الجيل الثاني الذي اقتحم المكاتب، حيث سبقهن جيل دخل المكاتب، مُجبرًا، نتيجة غياب الرجال في الحرب، مما أدى إلى الحاجة إليهن. الجيل الأول لم يكن إلا سكرتيرات، أما الجيل الثاني فهن من اكتشفن أنهن يستطعن أن يمارسن أدوارًا أكثر، وبالتالي فإن صراعهن كان في محاولة كسر محدودية ذلك المصير. الجيل الثالث من النساء العاملات هو الذي تمثله ميغن، وفيه دخل النساء سوق العمل وهن يرين خيارات أوسع، وهذا ما جعل الطابع الأساسي لشخصية ميغن هو الثقة بالنفس والأريحية لتكون ذاتها بما يجعلها تتحرك بسهولة، فما بين توتر جوان لإظهار أنوثتها وتوتر بيغي لإخفائها، تتصرف ميغن بتلقائية تُشعرك أنها ابنة عمك الذكية. هذا الأمر يجعلها تغيّر عملها وتغير نمط حياتها ومدينتها بثقة. تفسّر تلك الثقة جيسيكا باري، التي تلعب دور ميغن، قائلة: «ميغن ليست مهتمة بفعل كل شيء على نحو صحيح تمامًا؛ إنها تريد فقط المساهمة في العالم بطريقة تشعر أنها مهمة». ومع هذا لم تخلُ مسيرتها من صراعات كالتحرش الجنسي المتواصل من نساء ومن رجال، وفي كل مرة تصد هذه التحرش تجدها تخسر قليلاً من تقدمها الوظيفي.

وأخيرًا هناك سالي ابنة دون بريمر، أكثر نساء العمل شبابًا، حيث تبدو شابة قوية واثقة في نفسها دون أن تثق بأي من والديها لتقرر أن يكون نموذجها حين تكبر، بل تقرر ألّا تكون كأحد منهما! أهو احتقار لنموذج والديها أم تحرر من الطوق النسوي الذي يجعل خيارها بين أن تكون كأمها أو لا تكون، ويصبح النموذج الرجالي المتمثل في والدها مطروحًا للنقاش؟ كاتب المسلسل، وينر، يصف سالي بأنها «الشخصية التي سوف تفكر فيما تريد أن تكون هي عليه»، وكأن العمل بسالي يصل إلى أهم مكاسب الموجة الثانية للنسوية، الحق في اختيار المصير، بما يفتح الباب للنسوية التقاطعية، الموجة الثالثة، والتي ألمح المسلسل لبوادرها وذلك ببداية ظهور النساء السود في العمل، بما سيكشف عن طبقات أخرى لإشكالية وضع المرأة خارج دائرة المرأة البيضاء من الطبقة الوسطى.


المفارقة الظريفة والذكية أن العمل الأكثر نسوية قد سُمّيَ بـ«جنون الرجال». قد يعترض البعض على ذلك، بحجة أنه: كيف لعمل يستعرض امتهان الرجال للنساء في العمل وخياناتهم الزوجية أن يكون عملاً نسويًا؟ هل جنون الرجال هو عامل أسهم في تشكل النسوية؟ لا نعلم ولكن لعل الإجابة الأبسط عن السؤال فهي ليكون العمل نسويّاً: هي أن يحكي الحكاية. أليست الدراما إلا حكاية تُروى بصريًا؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. هند السليمان
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا