في خريف عام 2000، نُظم مهرجان لخطوط الهواتف المحمولة في دار الأوبرا بالقاهرة، ورُوج لهذا المهرجان بإعلان متلفز جمع ممثلَين صاعدَين في هذا الوقت عرفهما الجمهور من خلال دوريهما المساعدين في أحد أنجح أفلام الصيف وقتها. لم يكن بطلا الإعلان سوى اللمبي (محمد سعد) وعاطف (أحمد حلمي) اللذين سيتشاركان بطولة فيلم «55 إسعاف» في الصيف التالي، وبحلول عام 2002 كان سعد حديث المدينة، أما حلمي فكان يتلمس خطواته بهدوء.
بدايات هادئة ومهمة استطلاع.
كان أول ظهور سينمائي لأحمد حلمي في فيلم «عبود على الحدود» عام 1999، والذي كان أول فيلم من بطولة الراحل علاء ولي الدين. قدم حلمي دورًا مساعدًا رفقة كريم عبدالعزيز، وفي الأعوام القليلة التالية ظل وجود حلمي السينمائي مقتصرًا على الأدوار المساعدة في أفلام عديدة نذكر منها في سنة 2000 فيلمي «الناظر» و«عمر»، وفيلمي «السلم والتعبان» و«رحلة حب» في عام 2001، وعلى الرغم من حصوله على بطولة مشتركة رفقة محمد سعد في فيلم «55 إسعاف» في العام نفسه، فإنه انتظر عامين بعد ذلك ليحصل على أول دور رئيس في فيلم «ميدو مشاكل» عام 2003 برفقة المطربة شيرين عبدالوهاب في ظهورها السينمائي الوحيد، ولم يحقق الفيلم أي صدى يُذكر، ولكن في العام نفسه عُرض فيلم «سهر الليالي» والذي تشارك حلمي بطولته رفقة عديد من الوجوه الصاعدة في سماء السينما وقتها، وحقق الفيلم نجاحًا ملحوظًا ونال بعض الجوائز، ليحصل حلمي بعدها على دور بطولته الأول في فيلم «صايع بحر» عام 2004.
سيطرت الكوميديا على أغلب أدوار حلمي في هذه المرحلة، ربما باستثناء دوره في فيلم «سهر الليالي»، وكانت المنافسة حامية إذ كانت أنجم علاء ولي الدين وهنيدي ومحمد سعد في أوجها، ولم تكن كوميديا حلمي الهادئة في أدواره المساعدة بقادرة على مزاحمة أقرانه، وربما لذلك عُرضت أوائل الأفلام التي قام ببطولتها في موسم السينما الأصغر، أي موسم الأعياد وعطلة منتصف العام، حيث قدّم حلمي في الفترة من 2004 إلى 2007 خمسة أفلام وهم «صايع بحر»، «زكي شان»، «ظرف طارق»، «جعلتني مجرمًا»، و«مطب صناعي» على الترتيب. المتتبع لهذه الأفلام سيلحظ أن حلمي كان يحاول استكشاف مساحة يفرض فيها وجوده وموهبته. حاول حلمي تقديم كوميديا الطبقات الشعبية التي لا تخلو من الإيحاءات الحادة في فيلم «صايع بحر»، ولكن لم يحقق الفيلم نجاحًا ملحوظًا ولم يبق في ذاكرة مَن شاهدوه سوى جملة «أمك ما تقولش لا» والتي عدّها بعض الناس وقتها كوميديا سليطة اللسان. في فيلمه التالي «زكي شان» استطلع حلمي الكوميديا الرومانسية وترك الفيلم صدى جميل عند مشاهديه، فاستثمر حلمي في النوع نفسه في فيلميه «ظرف طارق» و«مطب صناعي» وضَمَنَ له نجاحهما قبولًا ملحوظًا عند الجمهور، مما مكنه أخيرًا من دخول الموسم الكبير للسينما في مصر، الموسم الصيفي، بالفيلم الذي سيُحدث تغييرًا جذريًا في مسيرة حلمي.
«كده رضا».. تجربة الأداء التي فتحت كل الأبواب.
عُرض فيلم «كده رضا» في صيف عام 2007، والفيلم من تأليف السيناريست والممثل لاحقًا أحمد فهمي، وإخراج أحمد نادر جلال. شارك حلمي البطولة منة شلبي وخالد الصاوي. ابتعد الفيلم إلى حد ما من مساحة حلمي المألوفة وهي الكوميديا الرومانسية، فقدّم كوميديا مغلفة بطبقة رقيقة من الإثارة والتشويق عن قصة ثلاثة توائم يحملون الاسم نفسه وبطاقة شخصية واحدة، يحاولون تجميع الثروة بطرائق ملتوية، ولكن حياتهم تنقلب بعد ذهاب أخيهم الطيب إلى طبيب نفسي ثم تعرضهم لعملية احتيال.
حبكة الفيلم بسيطة ويميل إيقاعها إلى البطء حتى منتصفه على الأقل، ولكن تتصاعد أحداثه في ربعه الأخير بدرجة لاقت قبولًا واسعًا لدى الجمهور وقتها، كما أن دور حلمي وجمله الحوارية دغدغت موضوعات رائجة عند المتلقين مثل صراع فريقَي الأهلي والزمالك من خلال شخصية بيبو على سبيل المثال. ضمنت هذه العوامل نجاحًا كبيرًا للفيلم في هذا الصيف، فتوقع كثيرٌ من الجمهور أن حلمي قد وصل أخيرًا إلى الصف الأول وأن «كده رضا» سيكون بمثابة انطلاقته الحقيقية من أجل المنافسة على عرش الكوميديا في هذه الفترة، ولكن مكسب حلمي الحقيقي من هذا الفيلم لم يكن -في وجهة نظري- إثباته لنفسه بوصفه كوميديانًا بقدر ما كان أداءه التمثيلي البارع لثلاث شخصيات مختلفة بشدة في التركيب والانفعالات. أوعز حلمي -بقصد أو من دون قصد- إلى بعض مَن شاهدوه بأن لديه الاستعداد ليقدم تيمات أخرى بجانب الكوميديا إن تَوَفَّر له نصٌ مناسب. لحسن حظ حلمي وحظنا أن الكاتب أيمن بهجت قمر كان من ضمن من آمنوا بموهبة حلمي وقدراته. وبينما كان الجمهور ينتظر الفيلم الكوميدي القادم لحلمي في صيف 2008، كان حلمي على موعد مع رهان ذكي سيحفر اسمه ضمن أنجح ممثلي جيله.
«آسف على الإزعاج»: الرهان الشجاع الذي نجح.
جاء صيف عام 2008 بخريطة سينمائية شبه مطابقة للأعوام السابقة، والتي تسيطر عليها بشكل كبير الكوميديا وأفلام الحركة بمختلف وجوهها. ولكن حمل هذا الموسم الصيفي فيلمًا مختلفًا يستكشف تيمة سينمائية لم تكن رائجة في هذا الوقت لتقنع اسمًا لامعًا بالمحاولة، إلا أن أحمد حلمي -على حد تعبيره في لقاء مع الإعلامية إسعاد يونس في برنامج «صاحبة السعادة»- صمم على خوض التجربة التي ما زال يصنفها كثير من جمهور السينما بأحد أفضل الأفلام المصرية في الألفية الثالثة.
استكشف الثلاثي أحمد حلمي والمؤلف أيمن بهجت قمر والمخرج خالد مرعي أرضًا خصبة وبكر، هي تيمة الدراما النفسية بلمحة كوميدية بسيطة. شاب عبقري مصاب بالفصام، لا يتقبل موت والده، ويراسل رئيس الجمهورية طلبًا لدعم مشروعه الرائد. وصفة فنية استوفت كل المقادير المطلوبة ببراعة لتصنع من الفيلم علامة مميزة لمرحلته. قدم أحمد حلمي نفسه في هذا الفيلم بوصفه ممثلًا بارعًا وخرج من عباءة الكوميديان التي كان يتمرد عليها بالتدريج وعلى استحياء في أعماله السابقة، كما اتسمت القصة بنبرة نقدية هادئة لأوضاع البلاد وأحوال الناس، ونبرة عتب صريحة للسلطة ورأس الدولة، والمفارقة أن كاتب الفيلم كان معروفًا بتأييده للرئيس الأسبق حسني مبارك، ولربما هذا ما يجعل الفيلم رمزًا على مرحلة فنية انتهت، مما يستدعي التفكير في الفوارق الجوهرية في مساحات الحرية الفنية قبل ثورة يناير وبعدها. كسب حلمي وقمر ومرعي الرهان إذ حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا في دور العرض، وأصبحت أغنيته التي غنتها شيرين عبدالوهاب إحدى أكثر الأغاني رواجًا وقتها وحتى يومنا هذا، بل إن نغمة رنين هاتف شخصية حسن التي لعبها أحمد حلمي، كانت وقتها تدوي في وسائل المواصلات وقاعات المحاضرات في عصر ما قبل الهواتف الذكية. كسب حلمي التحدي وجاء وقت السؤال الأصعب الذي أتعب كثيرًا من ممثلي هذه المرحلة، وهو الخطوة التالية بعد النجاح المدوي.
«ألف مبروك»: بقليل من الفلسفة، حلمي يربح الرهان مرة أخرى.
عُرض فيلم «ألف مبروك» للمرة الأولى في صيف عام 2009 وكان اللقاء الأول لحلمي بالأخوين دياب (خالد ومحمد) اللذين اشتركا في كتابة القصة والسيناريو، وأخرج الفيلم أحمد نادر جلال. قصة الفيلم مأخوذة من أسطورة سيزيف الإغريقية الشهيرة. يقدم الفيلم معالجة للأسطورة تعتمد على غرائبية الحدث في سياق تتقاسمه الكوميديا والدراما. يلعب حلمي دور أحمد، مدير الحسابات الناجح في إحدى شركات البورصة، وهو شخص أناني مستهتر بمشاعر وهموم كل من حوله، وعبر الحدث الغرائبي يعالج الفيلم فكرة القَدَر والواقع والاختيار والإجبار. قدم حلمي مرة أخرى أداءً تمثيليًا مميزًا وحقق الفيلم نجاحًا كبيرًا إذ احتفى الجمهور بتيمة مختلفة تُقدَّم له بدرجة عالية من الجودة والتماسك، وكسب حلمي والأخوان دياب رهانها على تعطش الجمهور للقصص الجيدة، رهان سيكرره حلمي رفقة السيناريست خالد دياب في العام التالي.
«عسل أسود»: الفوز بقلب وصوت الجمهور.
إذا كان «آسف على الإزعاج» دليلًا على شجاعة أحمد حلمي في تجاربه، فإن فيلم «عسل أسود» كان تأكيدًا على ذكاء حلمي الشديد في اختيار خطواته التالية. صيف 2010 الشهير، حيث المزاج الاجتماعي في مصر مضطرب بغيوم القلق والسخط والترقب والضجر من أوضاع سياسية واجتماعية متجمدة. لا صوت يعلو فوق صوت حتمية الهجرة ووجوب اليأس من أي تغيير قريب، وضجيج المقارنات بين الحياة في مصر والبلدان الأخرى والذي لم ينحصر في السياقات الشعبية، بل حملته برامج تليفزيونية كذلك. وسط كل ذلك تستقبل دور العرض فيلم أحمد حلمي الجديد: «عسل أسود».
قصة الفيلم عن شاب من أصول مصرية يعيش في الولايات المتحدة ثم يقرر العودة إلى مصر للبحث عن جذوره. يقدم الفيلم لوحة كوميدية ذكية، تتهكم على وضع البلد الاجتماعي وعقدة الخواجة الشهيرة بكوميديا عفوية لطيفة، وتداعب في الوقت نفسه الروح المصرية العنيدة فتبرز قيم الرضا والأمل والتكافل وأن «فيها حاجة حلوة» رغم كل شيء. التقط خالد دياب بمهارة نغمة الشارع -والشباب خصوصًا- والصراع القائم وقتها بين هاجس الهجرة وحلم التغيير، وأدى حلمي الدور ببراعة، ليفوز الفيلم بقلوب الجمهور الشاب وشباك التذاكر وقتها بجدارة، ويحلق حلمي منفردًا في مصاف نجوم الشباك قبل الثورة بشهور.
وقامت الثورة: كم كانت رحلة جميلة يا حلمي.
في صيف عام 2011 الملتهب سياسيًا في مصر، كان المزاج الجماهيري منهكًا بصراع سياسي مرير وكانت الاعتصامات والمظاهرات شبه دائمة في منطقة وسط البلد المكتظة بدور العرض في القاهرة. لم تكن الشواهد تبشر بموسم سينمائي صاخب كالأعوام الماضية، ورغم ذلك قدم حلمي فيلم «إكس لارج» الذي عاد فيه إلى تيمة الكوميديا الرومانسية واجتمع فيه مجددًا مع رفيق مغامرته الأهم أيمن بهجت قمر. استُقبل الفيلم باحتفاء كبير من جمهور حلمي، وربما طيبت أجواء الفيلم المبهجة بعضًا من المزاج المثخن هذا الصيف.
وانتهى عهد وجاء عهد جديد تغيرت فيه خريطة الإنتاج، لتزدهر سينما الأمر المباشر والإنتاج السيادي، ويعاد ترسيم حدود الحرية ومساحات الإبداع، فجرى على حلمي ما جرى على غيره من نجوم العشرية الأولى، وعلى الرغم من أعماله السينمائية الكثيرة نسبيًا في العشر سنوات الأخيرة فإنه لم يحقق النجاح المعهود نفسه، وشابها -أي أعماله الحديثة- بعض التكرار لتيماته السابقة، ولكن سيكون من الظلم أن يُلام وحده على ذلك، إذ صار من الصعب وربما من الخطر الاقتراب من الجمهور وهمومه أو تتبع مزاجه كما كان الحال في حقبة تألق حلمي وسعد وغيرهما.
في النهاية يقتضي الإنصاف أن نقول بأن حلمي كان الوحيد من نجوم مرحلته الذي حافظ على نجاحه واستثمر فيه بذكاء قبل أن تتغير المعالم والظروف في العشرية الثانية من الألفية الجديدة. تمرد حلمي على فكرة الولاء لنوع سينمائي واحد والتي كانت سمة واضحة لنجوم هذه المرحلة، فعلى سبيل المثال، رفيق بداياته محمد سعد لم يخرج عن إطار الكوميديا قط. كان حلمي صبورًا ومغامرًا، عرف كيف يراهن على الجمهور وسعى إلى الإنصات إلى المزاج الشبابي وتتبع أثره، فاقترب منه الجمهور وسانده في مغامراته.
لا يسعني في النهاية إلا أن أتذكر إعلان حلمي وسعد الذي أحببته كثيرًا في طفولتي وأتساءل إن كان قد خطر على بالهما أو بال أي شخص أن هذين الاثنين سيقدمان ثنائية قد ينظر إليها بعض المشاهدين من المستقبل ويخوضون في جدال من كان الأنجح ومن كان الأكثر موهبة؟ سأترك هذا السؤال لابني أو لحفيدي، أما سؤالي الحالم أو الواهم فهو: هل جاء الوقت ليلتقي عاطف واللمبي مرة أخرى ليقدما تجربة ينتظرها جمهورهما المنفي في السينما الحالية؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش