مقالات

غلطة الشاطر التي ارتكبها بازوليني في «ثلاثية الحياة» وأنقذه رحيله من تبعاتها

إذا كانت كتابات كثيرة للسينمائي والشاعر والمفكر الإيطالي بيير باولو بازوليني (1922 – 1975) قد نُشرت بعد موته قتلًا بصورة غير متوقعة في ذلك الخريف الكئيب على شاطيء أوستيا غير بعيد من روما، فإن النص الذي لا يزال يُعتبر حتى اليوم الأكثر غرابةً ولفتًا للنظر من بين كل النصوص التي كتبها خلال حياته ولم ينشرها، كان ذلك الذي نشرته صحيفة «كورييري ديلا سيرا» بعد أيام قليلة من موته، مع اعتذار متأخر من روح كاتبه يتعلق في تأخرها في نشره إذ كان «بازوليني سيحب أن يراه منشورًا ويسمع تعليقات عليه». 

المهم في ذلك النص هو أن كاتبه السينمائي الكبير كان يعلن فيه ندمه على تحقيقه ثلاثة أفلام كانت هي التي شغلته خلال السنوات الأخيرة من حياته ما بين 1971 و1974 لتكون، إن استثنينا فيلمه الأخير بالفعل «سالو، أو أيام سادوم المئة والعشرون» (1975)، آخر ما حقق في مسار سينمائي استثنائي اختلطت فيه السينما بالشعر على نحو لافت، ونعني بها تلك الأفلام الثلاثة التي سماها بنفسه «ثلاثية الحياة» و استقاها من التراث الحكائي الشعبي العالمي وكانت على التوالي: «ديكاميرون» (1971)، و«حكايات كانتربري» (1972)، وأخيرًا «ألف ليلة وليلة» (1974). وهي تنتمي كما نعرف -تباعًا- إلى التراث القصصي الإيطالي ثم إلى التراث الشعبي الإنجليزي وأخيرًا إلى التراث العربي. 

الحقيقة أن بازوليني لم يكن نادمًا من جراء اختياره تلك النصوص، بل لأنه أفرط في المشاهد الإباحية واللغة التحررية معتقدًا أنه بذلك يتصدى لموجة من «البغاء» الفني الذي يستخدم الأجساد مطية لتحقيق أرباح وحداثة مزعومة، فإذا بأفلامه تستخدم ذلك الاستخدام نفسه ليتم التعامل معها بوصفها منتجات إباحية، «ما أتى متناقضًا تمامًا مع ما كنت أريد قوله»، كما أشار في ذلك النص.

ومهما يكن من أمر، قد لا يكون ثمة مفر هنا من العودة إلى فيلم بازوليني الأخير «سالو...» للإشارة إلى أنه لئن كان هذا الفيلم لا يقل «تحررًا» و«إباحيةً» عما في ثنايا أجزاء «ثلاثية الحياة»، فإن الغاية في ذلك الفيلم الكبير الذي ختم به حياته بدت واضحة وفُهمت كما أراد لها أن تُفهم. ولعل ذلك يعود إلى أن رسالة الفيلم الأخير كانت سياسية وفكرية في حين لم تكن الرسالة التي حملتها أفلام «الثلاثية» سوى رسالة «جمالية» بالكاد تنم عن موقف سياسي أو فكري أو تبدو حقًا على علاقة بالنضالية المشاكسة التي ركّز عليها الكاتب مساره الإبداعي. 

ولإدراك هذا البُعد قد يجدر بنا أن نتذكر أن بازوليني لم يقدِم على تحقيق أفلام «الثلاثية» إلا بعد أن وُسمت الأفلام الكبيرة التي حققها قبلها وجعلت له مكانته الكبيرة في تاريخ السينما بكونها نخبوية ليس لها جمهور شعبي حقيقي. فهو وبعد أن كان قد حقق فيلمه العظيم عن «المسيح بحسب القديس متى» (1964)، وأتبعه بتحفتين سينمائيتين تاريخيتين مبنيتين على اثنتين من المسرحيات الأسطورية الإغريقية تعتبران مؤسستين حقيقيتين للفكر الغربي -«أوديب ملكًا» (1967) و«ميديا» (1970)- رأيناه يحقق في تقاطع مع هذين الأخيرين فيلمين فكريين هما «ثيوريما» (1968) و«حظيرة الخنازير» (1969). 

صحيح أن كل واحد من هذه المجموعة من الأفلام حظي بمكانته الفنية والفكرية، لكن المشكلة بالنسبة إلى بازوليني كانت تكمن في رغبته بأن يعود بشكل أو بآخر إلى تلك السينما الشعبية التي أطلقته في بدايات عمله السينمائي ولا سيما عبر فيلميه المبكرين «آكاتوني» (1961) و«ماما روما» (1962). ومن هنا كان خياره أن يلجأ إلى ذلك التراث الشعبي العالمي –و«النهضوي» بشكل أو بآخر- الذي يمثله كتاب تشوسر من جهة وكتاب بوكاشيو من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة كتاب «الليالي العربية»، أي المصادر التي اشتغل عليها لتحقيق أجزاء «الثلاثية».

والحال أن بازوليني وخلال اشتغاله على تلك الأفلام التي كان يريدها شعبية تتماشى مع نوع من فكر تنويري وحرّ كان يتوخى التعبير عنه، استثمر كل طاقاته في كل واحد من تلك الأفلام، بل وصل الأمر به إلى أن يلعب أدوارًا ثانوية في الفيلمين الأولين تتعلق بمبدعين -الرسام النهضوي جيوتو على سبيل المثال في «ديكاميرون»- كنوع من التأكيد على تبنّيه التام لإبداعات سينمائية، معتبرًا وجوده فيها شخصيًا نوعًا من ضمانةٍ ما لقيمتها الفنية، لكنه -وكما يقول في ثنايا مقاله- أخطأ في حساباته إذ تم التعامل الصحفي، بل حتى النقدي وفي الساحة العامة، مع كل واحد من الأفلام بوصفه عملًا جماهيريًا لا عملًا شعبيًا. 

وبالنسبة إلى بازوليني، الفارق كبير بين أن يكون عمل فني ما، عملًا شعبيًا، أي مستمدًا من التراث الشعبي في استعارة للموضوعات والمضامين وقدرة النص على التعبير عن حياة اجتماعية ما بلُغة فنية راقية هي لغة بازوليني عادةً، وليس ثمة أي احتجاج على هذا، وبين أن يكون العمل جماهيريًا، أي مصنوعًا ضمن إطار تلك الاستراتيجيات التي تهدف في حقيقة الأمر إلى اجتذاب الجماهير إلى صالات العرض عبر استخدام عناصر جذب من خارج عملية الإبداع الفني نفسه كالمَشاهد الإباحية واللغة السوقية وما إلى ذلك.

ومع ذلك كله، قد يكون من المفيد أن نذكر هنا أن بازوليني في دنوه من تلك النصوص التراثية لم يستخدم كل الحكايات المنتشرة فيها، بل اختار عددًا محدودًا من حكايات كل كتاب تعمّد أن تكون الأكثر جذبًا من ناحية العري والمشاهد الإباحية والاستخدام غير الخجول للغة الحوارات، لكنه لم يقاوم في الوقت نفسه إغراءات فنية كثيرة وضعت بدورها موسيقى باخ والموسيقى الاستشراقية الروسية والأندلسية والأناشيد الدينية المسيحية في خدمة المَشاهد السينمائية التي أبدع على أية حال في تصويرها، تمامًا كما أن اختياره لأماكن التصوير والديكورات والملابس -حين لا تكون المَشاهد خالية من الملابس!- كان اختيارًا عابقًا بالجمال. وإذا أضفنا إلى هذا الألوان الرائعة التي قدمت بها لوحات تشكيلية بديعة، يمكننا أن نزيد من التُهم التي كان في الإمكان توجيهها إلى السينمائي الكبير، متحدثين مثلًا عن تهمةٍ مفادها استخدام كل ذلك الإبداع الإنساني العظيم لخدمة -والتغطية على- سينما تجارية تتملق الجمهور العريض وتحاول خداعه!

مهما يكن، لا شك أن رحيل بازوليني عن عالمنا في وقت كان فيه فيلمه الأخير «سالو» قد أنقذ سمعته الفنية، دون أن يحدث أي تأثير إيجابي على قيمته الأخلاقية -خصوصًا أن مقتله بالذات أتى في هذا السياق، صنوًا لـ«الهفوة المثلثة» التي ارتكبها في اختياراته الأسلوبية المتعلقة بأفلام «ثلاثية الحياة»- قد أنقذه -أقصد رحيله- بشكل أو بآخر من سجال كان لا شك سيُخاض ضده في حضوره، حول الخيارات التي يحق أو لا يحق للمبدع أن يُقدِم عليها ليعلن بعد ذلك «ندمه» المتأخر. ويقينًا أن بازوليني، حين كتب ذلك النص الأخير، كان يسعى حقًا إلى خوض سجال من ذلك النوع لكنه لم يكن مقدّرًا لقدرة مساجليه على إصابة مقتل منه، وخصوصًا أن الأمر لا يتعلق بفيلم أو بمشهد من فيلم، وبسينما تعتبر نفسها شعبية، بل بثلاثة أفلام تنهل من أمهات تراثية عالمية، لتحقق في النهاية أرباحًا مالية لم يسبق لفيلم آخر من أفلام ذلك السينمائي الإيطالي الكبير أن حقق ما يدانيها!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. إبراهيم العريس
March 5, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا