مقالات

«فينوس مرتدية الفراء»: المازوخية كما يجب أن تكون

العلاقة بين الرجل والمرأة كالعلاقة بين المطرقة والسندان، والبعض يفضّل أن يقوم بدور المطرقة، والبعض الآخر يفضّل أن يقوم بدور السندان. من هذه الفكرة انطلقت الأفكار السادية والمازوخية في عالم الأدب، ومنها إلى علم النفس، والممارسات الجنسية غير الاعتيادية. 

وهي توجهات مجهولة وعالم غامض لكثيرين، ما كان سببًا في نجاح ثلاثية Fifty Shades الروائية، وحتى بعد أن حُولت إلى أفلام سينمائية، إلا أنه يغلب عليها الجانب الدعائي والترويجي أكثر من السؤال الرئيس حول طبيعة النفس البشرية، فإلى أي مدى يجب على الإنسان الالتزام بالحدود السائدة؟ وإلى أي مدى هو قادر على اختراقها وعدم الالتزام بها؟ 

ويعتبر «فينوس مرتدية الفراء» (2013)، من أهم الأفلام التي تناولت المازوخية، إذ يصعب فهمه دون كثير من القراءة والتسكع بين تحليلات الفلسفة وعلم النفس، وأعتقد أن رومان بولانسكي، كاتب ومخرج الفيلم، قرأ تحليل الفرنسي جيل دولوز للمازوخية، وفهمه جيدًا قبل أن يصنع فيلمه. 

في بداية الفيلم تتجول الكاميرا في الشوارع، بحثًا عن أحد المسارح، التي يقام بها تجارب أداء لمسرحية «فينوس مرتدية الفراء»، تقطع الطريق، وتُفتح لها الأبواب، تقف على باب المسرح، تراقب مكالمة رجل مع خطيبته، وصوت الرعد في الخلفية. الكاميرا كانت تسير إلى المسرح مع واندا غورديان، بطلة الفيلم، والتي انتهى بها المطاف في النقطة نفسها أمام باب المسرح.

الرجل هو الكاتب توماس نوفاتشيك، والذي قام بالإعداد الفني للنص المسرحي من رواية «فينوس مرتدية الفراء»، وقرر أن يُخرج العمل بنفسه لأول مرة، وبعد انتهاء تجارب الأداء، وبعد رحيل كلِ مَن في المسرح إلا توماس، تقتحم واندا الفوضوية صالة المسرح.

كان توماس على موعد لتناول الغداء مع خطيبته ماري سيسلي، في حين أن واندا متأخرة الحضور عن تجارب الأداء، ترغب في الحصول على تجربة أداء لدور بطلة المسرحية. يبدأ الفيلم من رغبتين متناقضتين بين الرحيل والبقاء، بين رجل وامرأة، وينصاع الرجل لرغبة المرأة. 

تخلع البالطو، فتظهر مرتديةً فستانًا قصيرًا عاريًا من الجلد أسود، وطوق كلب حول رقبتها، شعرها غير المشذب وكحل عينيها السائح إثر بلل المطر في الخارج، يجعلها تبدو أمام الكاميرا، كإحدى ممثلات الأفلام الإباحية، وعلى وجهها أثر بعضٍ من الممارسات العنيفة. 

قبل تجربة الأداء لا تحتاج إلى معرفة معلومات عن  الشخصية أو مراجعة النص، الذي يتضح أنها تحفظه عن ظهر قلب، ومنذ البداية ينبهر توماس بأدائها الصوتي، يندمح مع أدائها، ويحاول ألا يفعل، إلا أنها تدفعه أكثر للاندماج، ويتحول الفيلم إلى عرض على خشبة مسرح، بين كاتب يمسك بنصه، يحاول أن يساعد متقدمة لبطولة الدور الرئيس، وممثلة ترغب في الحصول على الدور بشدة، أو كما قالت، إذا كان يبحث عن واندا، فهي واندا. 

نشاهد أداءً مسرحيًا، داخل فيلم، يختلط فيه حوار المسرحية، وحوار الفيلم الأساسي، كلعبة الأدوار المتقنة، التي يحدث بها نوع من تشويش الواقع والخيال، بين محاولات أداء وتحفيز متبادل لتعميق الأداء المسرحي، وغزل وإغواء، ومناقشات حول القصة في الرواية الأصلية، وتحليل تاريخ الأبطال. 

يعاني توماس من مكامن خلل نفسي، يحيى في علاقة رومانسية هادئة مع خطيبته ماري سيسلي، تقوم على الجنس الهادئ في نهاية الليالي. تخبره واندا إنه على الرغم من أن هذا يبدو جيدًا ومثاليًا، فإنه ممل، وبداخله ما يدفعه إلى علاقة أكثر صخبًا، ولا يستطيع الحصول عليها. 

يقول توماس: «الحياة تجعل منا ما نحن عليه في لحظات غير متوقعة»، ويبدو أن اختراق واندا للمسرح هو اللحظة غير المتوقعة التي ينتظرها. طبقًا للفلسفة الوجودية يعيش الإنسان داخل قيود محيطه الاجتماعي، إلى أن يجد فرصة لتحطيم هذه القيود، على هيئة لحظات عابرة مُغامرة. 

يبدو توماس لا يختلف عن كوشيمسكي بطل المسرحية، يبحث عن امراة مثل واندا بطلة المسرحية، امرأة تمارس عليه أنواع العقاب الجسدي والنفسي التي يشتهيها في داخله. 

ومنذ أن كتب النمساوي فون زاخر مازوخ، رواية «فينوس في الفراء» (1870)، والتي تأسس على إثرها فيما بعد مصطلح المازوخية، نسبة إلى مؤلف الرواية، ظل يُنظر إلى المازوخية على أنها نقيض ومكمل السادية، حتى جاء الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في كتابه «البارد والقاسي» (1967)، ليعيد الرواية للحياة من جديد، ويبدّل مفهومنا عن المازوخية. 

ووفقًا لجيل دولوز، فالسادي صنيعة المازوخي، والمازوخي صنيعة السادي؛ يعتقد الفيلسوف الفرنسي أنها علاقة متلاعبة لاتكاملية، بمعنى أن السادي يبحث عن العادي، ويجعله خاضعًا له، كما يبحث المازوخي عن العادي ويجعله سيدًا له. المازوخي والسادي لا يكملان بعضهما، ولا يبحثان عن بعضهما. 

والسبب أن لذة الألم التي يتلقّاها المازوخي، هي خياله عن طرائق التعذيب والإهانة التي سيستمتع إذا قام بها، والعكس، لذة السادي هي طريقة التعذيب التي يتخيلها ممتعة إذا تمت ممارستها عليه. 

تقترح واندا على توماس أن يؤدي بدلًا منها دور بطلة المسرحية، قائلة: «أنت مَن خلقها، هي خيالك». وبالفعل يستجيب ويبدأ في أداء مبهر للمرأة التي تخيّلها. وقبل الاقتراح تُقَرِر تحريره من ضغوط لقائه مع خطيبته، تطلب منه أن يهاتفها ويخبرها بعدم قدرته على المجيء إليها، ثم تغلق هاتفه، وتُلقي به.

تقوم واندا بعدة أدوار، فهي تطلب من توماس تحفيزها على الأداء المسرحي، في حين تحفّز مكامن المازوخية داخله، تحاول أن تجعله أمامها على هيئته الحقيقية، وبعد أن تحصل منه على الاعتراف بحقيقة ميوله، تحاول أن تحلّل دوافعه، وتواجهه بأنه، بوصفه مازوخيًا، يدّعي منح الهيمنة، إلا أن الهيمنة تعود إليه، فهو صاحب الخيال الذي يتحقق في العلاقة، ولو بدا ضحية إهانة، فهو صانع الشخصية السادية على الطريقة التي يحب أن يخضع بها. 

تعطينا أسماء توماس وكوشيمسكي مسافة بين الكاتب مؤلف المسرحية صاحب الميول المازوخية المكبوتة، وبطل الرواية المازوخي، إلا أن اختلاط اسم واندا ممثلة المسرح باسم واندا بطلة الرواية، يجعلك غير قادر على أن تفرّق بينهما. 

هي تؤدي الدور دون الحاجة إلى القراءة من مسودة النص، تعرف كثيرًا عن المصادر التاريخية للمسرحية وعن الكاتب المسرحي، أتت بملابسها الجلدية، وطوق الكلب، وبالطو رجالي يعود إلى حقبة الرواية الأصلية.

تبدو شديدة التلاعب في بداية ظهورها، تنكر معرفتها القوية بنص المسرحية، كما أنه بدلًا من أن تستجيب للخيال المازوخي في عقل مؤلف المسرحية، تفجّره بوصفه رغبة عارية، تقنعه بأنه الأنسب لأن يلعب دور البطلة، وما إن يستجيب تربطه في عمود المسرح، بطوق كلب حول عنقه، وتبدأ بالرقص أمامه عارية. وتأخذ الكاميرا سيرًا عكسيًا خارج المسرح، وتختم الفيلم بلقطة تأسيسية واسعة للمسرح من الخارج.

على طريقة أديب نوبل الإيطالي داريو فو، شاهدنا مسرحية داخل مسرحية، مساحة شديدة الروعة من الأداء التمثيلي، عن فكرة مركبة ومعقدة جدًا، تلتزم بمكان واحد، وزمن حقيقي، زمن يمرّ تحت ضغط، بطل الفيلم الذي يربطه موعد الغداء مع خطيبته، ويجب عليه الذهاب، إلا أنه مُضطر إلى أن يبقى أمامنا على المسرح يلاحق أطياف غرائزه التي تفجرها واندا. 

ولا يُعتبر الفيلم أكثر من تسكع بين كتابات جيل دولوز، التي قلبت معنى المازوخية، ليأتي الفيلم ويقلب أحداث الرواية، إذ يعتقد الفيلسوف الفرنسي أن المازوخية محاولة تَطَهُّر من خطيئة، ما إن تنتهي، تتحول الضحية الخاضعة فيها إلى جلاد، إلا أن مخرج الفيلم يقترح حلًا سيكودراميًا: بدلًا من تخيُّل شخصية السادي في عقل المازوخي، يمكن تجسيدها على المسرح كما اقترحت واندا على توماس نوفاتشيك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. محمد سميح
April 11, 2024
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا