يصور فيلم «يوم ونصف» (A Day and a Half (2023، قصة أب يائس يحاول استعادة طفلته من زوجته المنفصلة عنه، والتي لها حق الحضانة. يقتحم مركز الرعاية الصحية، الذي تعمل فيه، ويختطفها تحت تهديد السلاح. وبعد تطويق الشرطة للمركز الصحي يطالب «أرتان» بسيارة، سيقودها الشرطي «لوكاس». وطوال الطريق سيظل «أرتان» مُصوِّبًا مسدسه لرأس «لويز». وسنعرف خلال رحلة الهروب بعض تفاصيل حياتهما السابقة والأسباب التي قادت إلى هذا الوضع الخطير. والأهم من هذا أن الفيلم يؤكد على ضرورة الاختيار بين طريقين لحل المشكلات، وأن طريق الحوار أجدى من طريق العنف.
أن تشاهد فيلمًا
عنصر التشويق في أفلام الاختطاف قائم على ترقُّب مصير المختَطف والمختطِف، وإن كانت الاحتمالات هنا محدودة ومرتبطة بالهدف من وراء الفيلم (فكرة المخرج). وبما أننا إزاء قضية اجتماعية ذات أبعاد ثقافية، وعرقيات مختلفة، فإن الاحتمال الأرجح هو أن يُقتل المختطِف أو أن يُقبض عليه. وتَحَقُّق أحد الاحتمالين مرتبط أيضًا بالرسالة النهائية التي يريد المخرج إيصالها للمتلقي.
موضوع الفيلم مرتبط بالزاوية التي تشاهده من خلالها. في هذا السياق ثمة أسئلة عديدة يمكن طرحها: هل يناقش الفيلم النظرة العنصرية للمهاجرين، أم التفكك الأسري، أم العاطفة العربية مقابل العقلانية الأوروبية، أم سوء اختيار الشريك، أم عواقب الزواج غير المتكافئ؟ أم هو عن دراسة الخيارات المتاحة والوسيلة المُثلى لتحقيق الهدف؟ أم هو عن سوء الفهم البسيط الذي قد يؤدي إلى عواقب وخيمة؟ أم أنه يناقش كل ما سبق بنِسَبٍ تجعل موضوعًا في الهامش وآخر في المتن! وفي أمر تحديد الضحية ستختلف آراء المتلقين: هناك من سيقول إن الضحية هي الزوجة، وآخر سيقول إنه الزوج، وثالث سيقول الأطفال هم الضحية، ورابع سيقول جميعهم ضحايا سوء الفهم والاختيار الخطأ والظرف الاستثنائي.. وسيعتمد أمر تحديد موضوع الفيلم والضحية فيه على الشخصية التي أثَّرت في المتلقي أكثر من غيرها، ثم على المرجعيات التي تحكم ذائقة المتلقي وأحكامه.
مشاهدة فيلم تشبه قصة العميان مع الفيل حين وصفه كل واحد منهم انطلاقًا من الجزء الذي لمسه. بناء على هذا التصور المُجزَّأ أصبح الفيل حبلًا في بصيرة من أمسك بذيله وثعبانًا عند من أمسك بخرطومه وجذع شجرة عند من أمسك بساقه.. أما الصورة الكُلّية للفيل فلن تتحقق إلا بالرؤية، أو بتكوين صورة كاملة عنه. والحال نفسه بالنسبة إلى الصورة الكلية للفيلم، لكن ما تحتاجه هنا ليس العينان فقط، بل واستخلاص «فكرة المخرج» التي تُحققها عناصر صناعة الفيلم كافة. وما لم تشاهد بعض الأفلام مرتين على الأقل فسيظل سوء الفهم لصيقًا بتقييمها.
دوائر سوء الفهم
بعد الإلمام بتفاصيل الفيلم سنرى أنه قائم على فكرة «سوء الفهم»:
يُسجن «أرتان» لثلاثة أشهر سببه سوء فهم مع «ستيفان»، والد «لويز». «ستيفان» يقول بأن «أرتان» هو من دفعه، وهذا يقول إن «ستيفان» تعثّر بحذائه. وثمة احتمال أن كره «ستيفان» لـ«أرتان» هو ما جعله يكذب في المحكمة. لكن هل كانت «لويز» ستقبل بهذا! التعرف على شخصيتها من خلال سير الأحداث يكشف أنها لن تفعل. ثمة كراهية أخرى قائمة على سوء فهم ثقافي سببه التعميم. سوء الفهم الحضاري بين العرب أو المسلمين والسويديين يجعل الطرفين يوجهان التُهَم ضد بعضهما. لكن هذا لا يحدث من منطلق موقف عدائي عام، بل من منظور حالة خاصة يتساوى فيها الطرفان في توجيه التهم. «أرتان» يرى أن الأوروبيين يتحيزون ضده، ولذلك سجنوه، لأنه، بحسب تعبيره: لا يملك عينين زرقاوين وشعرًا أشقر.
المُشاهد الواعي بتفاصيل الفيلم وقراءتها سيدرك أن هذا الاتهام صدر من شخص يعاني من ظلم، وبالتالي هو لا يُعبّر عن موقف مطلق، وربما لو وُضِع «أرتان» في ظرف إيجابي معاكس لكان له رأيٌ آخر. في المقابل هناك اتهامات توجَّه للعربي، لكنها أيضًا لا تصدر من خلال نقاش هادئ بين شخصين أو أكثر يدلون فيه برأيهم حول العرب. تصدر الاتهامات انطلاقًا من حالة خاصة مشحونة بغضب وبهجوم مسلح قام به «أرتان». «أرتان» نفسه ينأى بنفسه عن أن يكون مثل «أسامة بن لادن» مع أنه يقول هذا دفاعًا عن نفسه وفي يده مسدس موجه إلى رأس زوجته «لويز»! هنا إشارة إلى سوء فهم أو جهل للفارق بين القول الذي يُكذّبه الفعل.
الحقيقة الكاملة غائبة. يعرض المخرج أسباب الخلاف بين الزوجين: خيانة «أرتان» لـ«لويز» مع امرأة أخرى، والخلاف بين «أرتان» ووالد «لويز»، ثم حصول «لويز» على حضانة الطفلة وإخفاؤها في منزل والديها، خوفًا عليها من والدها «أرتان»، ما يعني أن أسلوبه العنيف قد يؤذيها. سوء الفهم هذا سيتضح حين نرى حب «أرتان» لابنته وخوفه عليها ثم تفضيله الموت على الحصول على ممر آمن والنجاة بنفسه، ما دفع «لويز» في الأخير إلى مسامحته ووعده برؤية ابنته. يعرض الفيلم الأسباب لكنه لا يطلق أحكامًا أو ينحاز في النتيجة لصالح طرف، ولهذا لا نعرف مع مَن الحقيقة -حقيقة الخلافات تملكها المحكمة التي فصلت في القضية لصالح الأم- أو أن الحقيقة تتشكل من مجموع ما نراه وما هو كامن بين السطور، لا من كل جزء على حدة.
من أمثلة سوء الفهم ما قاله «أرتان» لـ«لوكاس» مستنكرًا: هل عملُك شرطيًا مبنيٌ على افتراضات من هو المذنب والبريء؟ هل تعمل الشرطة السويدية على هذا النحو؟ يعتقد «أرتان» أن الزواج ينتهي بتوقيع أوراق الطلاق، في حين أن زواجهما كان قد انتهى عمليًا بسبب تصرفاته. من ذلك إهماله لزوجته وخيانته لها وهي في أمس الحاجة له: أثناء مرضها. ومن الأمثلة أيضًا اعتقاد «أرتان» بأن «لويز» تخونه مع زميلها في العمل، دون دليل، واعتقاده بأن حق الحضانة للأم، بأمر قضائي، هو شكل من أشكال الاختطاف. يقول «أرتان» لـ«لوكاس»: «هي اختطفت ابنتي»، وظنُه بأن «لويز» تجنبت مقابلته في المقهى، لإيجاد حل لمشكلتهما، لكن الحقيقة تتضح في الأخير عندما تخبره أنها كانت في طريقها للمقهى لولا أنها غفت على الأريكة، بسبب الأدوية التي تتناولها.
الفارق بين «لويز» و«أرتان» هو أن «لويز» تعترف بمشكلتها المرضية، الذهان والقلق، وتتحمل نصيبها من المسؤولية، بينما يستمر «أرتان» في توجيه اللوم لها ولعائلتها. يصفه «ستيفان» بأنه طفيلي ومثير للاشمئزاز، وبأنه حشرة «قُراد» يمتص الدم.. وهو «عربي وضيع». وتصفه أُم «لويز» بأنه: «يفتقر إلى الفطنة بسبب أصله». وتوجه الأم لـ«لويز» حصتها من المسؤولية. تخبرها بأنها تحصد ما زرعته؛ فقد قضت شبابها في السفر حول العالم وتعاطي المخدرات و«حين لم يعد يريدك أحدٌ أنجبتِ طفلًا من أول فاشل تقابلينه». «لويز» من وجهة نظر أمها أنانية، تلوم الآخرين لكنها لا تفعل أي شيء صائب، كما أنها لا تستطيع الاعتناء بـ«كساندرا» (إذا كان الحال كذلك فكيف حصلت على حضانة «كساندرا»؟! وهل إبقاؤها لـ«كساندرا» في منزل أمها وأبيها ناتج عن وعيها بأنهما أقدر على الاعتناء بها منها ومن والدها «أرتان»؟!)
تصعب الإجابة، لكن يمكن تخمينها من خلال المعالجة المتوازنة وتحميل المسؤولية للطرفين (الوالدين). لكن الأهم من الإجابة هو هدف الفيلم الذي لا يسعى للإدانة، بل للتعليم، للمصالحة والحوار، لا للاستمرار في تبادل الاتهامات. نرى هذا الهدف ماثلًا في حضن «لويز» و«أرتان» لبعضهما في آخر الفيلم. الاعتذار المتبادل يعني الغفران وبداية جديدة لن يكونا فيها معًا لكنهما من خلال هذه الرحلة اكتشفا سوء الفهم الذي كان يُغلّف حياتهما. والفضل في إزالة سوء الفهم هذا يعود إلى البوح والمكاشفة والصراحة الجارحة أحيانًا. وهذا ما كان غائبًا من قبل فأدى إلى وصول المشكلات الصغيرة إلى هذا الحد من التهور والعنف.
«أرتان» ونقيضه
من أول مشهد، وقبل أن نعرف الخلفية العِرقية والثقافية التي ينحدر منها «أرتان»، يُظهر لنا المخرج «فارس فارس» أي نوع من الناس هو «أرتان»: شخص غير ملتزم بالطابور أو النظام، انفعالي، ارتجالي، لا يفرّق بين مكان العمل والبيت، لا يجد حرجًا من الحديث عن الشؤون العائلية الخاصة مع الغرباء، غير قادر على التحكم في انفعالاته وردود أفعاله، شكاك وموسوس، ويعالج المشكلات من خلال العنف لا الحوار. وستكون رحلة الاختطاف وسيلة لتعليمه درس نقيض على يد «لوكاس» الذي مر بتجربة مماثلة لتجربة «أرتان». «لوكاس» و«أرتان» نموذجان مختلفان للحالة نفسها، والفارق هو في كيفية التصرف. «لوكاس» لجأ إلى تحكيم العقل ولجأ «أرتان» إلى العنف.
يدافع «أرتان» عن نفسه بقوله إنه ليس إرهابيًا؛ فليس كل المهاجرين إرهابيين، كما قال في سياق اتهامه للمجتمع السويدي بتعميم الحالات الفردية. ما قاله «أرتان» حول تعميم الحالات الفردية صحيح، هناك سوء فهم، بين ثقافتين، مبني على تعميم. لكن «أرتان» متناقض بين القول والفعل؛ فاقتحامهُ المركز بالقوة واختطافه لشخصٍ تحت تهديد السلاح هو شكل من أشكال الإرهاب، بغض النظر عن النية أو الهدف من وراء هذا الاختطاف.
اختيار صانع الفيلم لشخصية انفعالية عنيفة من أصول عربية قد يُنظر إليه بأنه انتقاء، وبالتالي تعميم أو إسقاط شخصية «أرتان» على المجتمع العربي بوصفه ممثلًا لهم، لولا أن هذه الشخصية شائعة في الواقع. لكن الإيجابي في هذا الاختيار هو أن المخرج لا يُصوّر «أرتان» بوصفه شريرًا بطبعه، بل هو صنيع ظرف خاص وسوء فهم متبادل بينه وبين زوجته وعائلتها، وسوء فهم ثقافي حضاري، بدليل أن معدن «أرتان» الطيب يتكشّف خلال أحداث الفيلم والخاتمة فيستوعب الدرس ما إن يزول سوء الفهم ويجد نموذجًا أخلاقيًا يدله على التصرف السليم.
تكشف الأحداث، والمَشاهد الختامية، عن مشكلة بسيطة كان يمكن حلها بين الطرفين بالتفاهم. «يوم ونصف» كان كفيلًا بحل سوء فهم استمر لسنوات. هنا أيضًا نكتشف معدن «لويز» حين تغفر لـ«أرتان» وتوافق على أن يرى ابنته. ثمة مخاوف دفعت «لويز» إلى إبعاد طفلتهما عن والدها، منها إدمانه للشراب ومقامرته (بمالها) وخيانته لها، وعدم دفع إيجار الشقة التي تملكها، وهي اتهامات يواجهها «أرتان» بالتكذيب، وعدم إصرار «لويز» على تأكيدها يدعم احتمال كذب «أرتان». جدل سيوقفه «لوكاس» مرتين بما يعني أنه ماضٍ لم يعد ذكرُه يجدي؛ فالأهم هو الخلاص من مأزق الظرف الراهن بأقل قدر من الخسائر ثم استيعاب الدرس لبدء حياة جديدة.
يلجأ «أرتان» إلى الإنكار الذي يُعَد شكلًا من أشكال الهروب، فهو يُصِر على أن الحكم عليه بالسجن لثلاثة شهور كان بسبب أنه مهاجرٌ ولأنه لا يملك شعرًا أشقر وعينين زرقاوين، لا لأنه أُدين بدفع «ستيفان»، والد «لويز»، وكاد أن يتسبب في موته. تُذكِّره «لويز» بأن المحكمة أدانته، ما يعني وجود إثباتات لا مجرد شكوك أو تحيُّز ضده. جدال آخر سيقطعه «لوكاس» ليؤكد على مأزق الحاضر والأمل في المستقبل.
نظرة تفاؤل أخيرة
قصة «لوكاس» مع طفليه وانفصاله عن زوجته نموذجٌ للتصرف القويم. عن سبب الانفصال يقول: «لأننا توقفنا عن الاستماع لبعضنا». هنا تكمن مشكلة «أرتان» و«لويز» أيضًا، والفارق هو في كيفية التصرف. «لوكاس» يعترف بمسؤوليته عن المشكلة، بينما «أرتان» يستمر في الإنكار وتوجيه اللوم لـ«لويز». وبالرغم من الانفصال استمر «لوكاس» في التوافق مع زوجته والتواصل معها كصديقين من أجل ولديهما.
يكشف الحوار بين «لوكاس» و«أرتان» الطريقةَ التي يفكر بها «أرتان». يلوم «لوكاس» لأنه خان زوجته ومزّق عائلته، في حين لا يرى «أرتان» أنه قد اقترف الفعل نفسه! لا يلقي «لوكاس» باللوم على أحد، بل يعذر الطرفين قائلًا: «أحيانًا نحاول حماية أحبائنا لكن الأمور تسير على نحو خطأ». وعن عواقب سوء الفهم يقول: «أريد أن أكون واضحًا يا أرتان لتفادي سوء الفهم، لأني أعرف إلى أين يمكن أن يقود سوء الفهم». يحاول «لوكاس» تجنب مزيدٍ من الانهيار في علاقته بطفليه قائلًا: «لا أسعى سوى لمحاولة فعل الصواب الآن وآمل أن يسامحني ابني. أحاول أن أُعلّمه أن جميع الناس يخطئون، لكن الأهم هو كيفية التعامل مع أخطائنا». وفي محاولة أخيرة لثني «أرتان» عن الاستمرار في طريق الهروب يقول له: «كساندرا هي أهم ما لديك الآن وعليك أن تفكر أي نوع من الآباء تريد أن تكون لها وكيف تريدها أن تتذكرك عندما تكبر. لدينا جميعًا خيارات، ومن المهم أن نختار».
هذا درس سيستوعبه «أرتان» في النهاية، عندما يُسلّم نفسه. وبهذا يكشف أسلوب «لوكاس» في التعامل اللطيف والهادئ عن جدوى أكثر من التعامل العنيف الذي كاد أن يوقع ضحايا. أولى بوادر التحول حين ناول «أرتان» تلفونه لـ«لوكاس» ليتحدث مع ابنه بمناسبة عيد ميلاده. شعر «أرتان» بأنه مسؤول عن حرمان «لوكاس» من الاحتفال بهذا اليوم بسبب اختطافه لـ«لويز». ثمة عبارة قالها «لوكاس» لابنه في التلفون: «أحدثك من هاتف صديق». كلمة «صديق» ستترك أثرًا سعيدًا على وجه «أرتان». بهذه اللغة يمكن فقط إزالة سوء الفهم. هذه هي رسالة الفيلم وفكرته. لا يوجّه إدانةً بل يعرض جانبًا من الواقع ويقترح -بلغة فنية رفيعة وأداء صادق ومدهش- الخيار الأفضل للتعامل معه.
ليس الهدف من الفيلم هو أن تكره «أرتان»، أيًا تكن خلفيتك الثقافية والعرقية. في الأخير ستتعاطف مع «أرتان» مثلما فعل «لوكاس» و«لويز». تسليم «أرتان» لنفسه يكشف عن رغبته في تحمل المسؤولية والاعتراف بأخطائه وبأنه لم يعد يرغب في الهروب بعد الآن. تكشف نظراته لـ«لوكاس»، في المشهد الأخير، عن امتنان، وبطلبه منه لِكوبٍ من القهوة يؤكد على ثقته به بعد أن كان يشكّ فيه طوال الرحلة. ينتهي الفيلم بكادر أخير لـ«أرتان» وهو يبتسم لِتحمل هذه الابتسامة أملًا ببداية جديدة مختلفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش