هذا فيلم لا ينبغي لأحد أن يموت قبل أن يشاهده وإن شاهده لن يفكر إلا بالحياة.
فيلم «سينما باراديسو الجديدة» (Nuovo Cinéma Paradiso (1988 هو باكورة أفلام المخرج الإيطالي جيوزيبي تورناتوري، كتبه وأخرجه وهو في منتصف العشرين من عمره. وهو فيلم لا يبلى لكثرة مشاهدته وتقادم الزمن عليه، ولا يحترق بالحديث عنه لآخرين لم يشاهدوه، وذلك لتفاصيله الصغيرة التي لا تقال. أما خطوطه العريضة فيمكن سردها على النحو التالي:
الفيلم عن صانع أفلام شهير (توتو) يسترجع ذكريات طفولته ومراهقته في بلدته الصغيرة وعشقه للسينما وصداقته العميقة بعارض الأفلام ألفريدو الذي عوَّضه عن غياب الأب المفقود في الحرب العالمية. كان توتو قد رحل عن البلدة إلى روما بنصيحة من ألفريدو على ألا يعود. وبعد ثلاثين عامًا اتصلت به والدته لتخبره بوفاة ألفريدو. خبر الوفاة أعاد ذكريات توتو القديمة ومن خلال شريط الذكريات تلك نشاهد هذا الفيلم.
قضايا سياسية واجتماعية ودينية.
كلمة «باراديسو» تعني جنة أو فردوس. وسنجد في سياق هذا المقال ما يدعم هذا التداخل بين عالم الخيال الذي تمثله الـ«سينما» وبين عالم الواقع الذي تجسده شخصيات الفيلم وتحولات الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية في إيطاليا.
مدة الفيلم ساعتان وثلاث دقائق يتقاسمها توتو الطفل وتوتو اليافع بالتساوي، أما توتو أو سلفاتوري، صانع الأفلام البالغ، فيتمثل دوره في استعادة أيام صباه ومراهقته بحلوها ومرها، خصوصًا تلك التي تربطه بألفريدو، ثم عودته في نهاية الأحداث إلى مسقط رأسه لحضور جنازة صديقه ومرشده. يمكن تحديد ثلاث قضايا يتعامل معها الفيلم، اجتماعية وسياسية ودينية، تتداخل وتتطور في شبكة علاقات من مرحلتين، يقوم فيهما المجتمع بدور الدمية، والدين ثم السياسة والمال بدور الخيوط المحركة.
تسود في المرحلة الأولى سلطة رجال الدين، نظرًا لانشغال السلطة السياسية بالحرب العالمية الثانية. هناك مشهدان يُلمِّحان إلى موقع السينما في قلوب الناس في مقابل الكنيسة والمدرسة: مشهد القس وهو يؤدي قُداس المساء وتوتو ممسك بالجرس ويقاوم النوم، ومشهد التلاميذ وهم في المدرسة. الكنيسة والمدرسة تُشْعِران المرء بالملل، أما السينما فمكان لقضاء أمتع الأوقات. هذا الموقف السلبي من الكنيسة سببه سلطة القمع التي تمثلها الكنيسة. القس في المرحلة الأولى يقوم بدور الرقيب على الأفلام التي تُعرض في السينما، يشاهد الأفلام قبل عرضها ويقتطع منها مَشاهد القُبل وما يعتبره مخلًا بالذوق. يقول رجل أثناء عرض فيلم: «عشرون عامًا أذهب إلى السينما ولم أرَ قبلة واحدة». هذه الأمنية وأكثر ستتحقق في المرحلة الثانية.
بانتهاء الحرب تبدأ المرحلة الثانية؛ تتفرغ السلطة السياسية المرتبطة بسلطة المال لشؤون المجتمع وتصبح هي المتحكمة في سير الأمور. احتراق مقر السينما ثم ترميمها وتجديدها وافتتاحها هي اللحظة الفارقة بين المرحلتين: انتهى زمن ألفريدو العجوز وبدأ زمن توتو الطفل ثم المراهق. أصيب ألفريدو بالعمى نتيجة الحروق. ويدل إنقاذ توتو لألفريدو على حب ووفاء ورد للجميل، في مقابل فرار الآخرين دون أن يفكروا في إنقاذه مع أنهم سبب غير مباشر في اشتعال النيران. يشير هذا العجز إلى السبب الذي جعل مصير المجتمع واقعًا بين سلطتين تتناوبان على توجيهه، وسيُختتم الفيلم -في نهاية المرحلة الثالثة- بعجز مماثل هو وقوفهم أمام سينما باراديسو دون حراك وهم يشاهدون المكان الذي قضوا فيها أجمل سنوات عمرهم، تهدمه البلدية.
ألفريدو هو مرآة لتوتو فيما لو سلك المسار الذي سار عليه، والعكس صحيح. يقوم توتو بدور محوري، وكذلك ألفريدو الذي تأتي على لسانه عبارات بليغة تلخص خبرته في الحياة التي استقى معظمها من الأفلام، ولذا سنجده يقوم بدور الموجه والمرشد لتوتو، حتى بعد إصابته بالعمى، فهو كما يقول: «الآن وقد فقدت بصري، أصبحت أرى بشكل أفضل». منذ طفولته يحثه ألفريدو على ألا يكون مثله، وحين يبلغ مرحلة المراهقة يحثه على الرحيل؛ يخشى ألفريدو ضياع عمر توتو محبوسًا في غرفة العرض مثلما ضاع عمر ألفريدو.
يمكن اختزال الفيلم إلى كلمة واحدة هي «الحنين»، لكن الحنين في حياة توتو سيختلف عن الحنين في حياة المُشاهد، وهذه هي عظمة السينما حين تلمس ما يخصنا في الوقت الذي تصور فيه حياة الآخرين المتخيلة.
يخاطب ألفريدو توتو قائلًا: «لا ترجع، لا تنظر إلى الوراء، لا تغرق في الحنين إلى الماضي، انس كل شيء.. لا أريد أن أسمعك، أريد أن أسمعهم وهم يتحدثون عنك». يريد ألفريدو لتوتو أن يحيا حياة الواقع لا حياة الخيال، فالحياة، كما يخبره، «ليست كما في الأفلام، الحياة أكثر صعوبة».
ينتهي دور رجل الدين، الأب أديلفيو، مع بداية المرحلة الثانية بعد مشاهدته لمشهد أول قبلة على الشاشة. بهذه القبلة يتم تدشين المرحلة الجديدة التي تظهر فيها سلطة المال ممثلة في الرجل الثري الذي يعيد ترميم السينما ويزودها بآلات حديثة وإشراف توتو. ثلاث كلمات غيرت شكل الحياة ومضمونها في العهد الجديد: الاقتصاد، التليفزيون، الفيديو. ويشير إشراف توتو على إدارة العرض في السينما الجديدة بآلة عرضها الجديدة وشريط الأفلام الذي لا يحترق، إلى الجيل الجديد، حيث سيتمكن المشاهدون في هذه المرحلة من مشاهدة ما هو أكثر من القبلة، ومع هذا التحول لن يُلغى دور الرقابة ولكن ستتحول من رقابة دينية إلى رقابة سياسية واقتصادية.
في مشهد مؤثر ودال يمرر ألفريدو يده على وجه توتو وهو طفل، وفي لحظة يغادر توتو الطفولة ويظهر وجهه وهو في سن المراهقة. لمسة يد ألفريدو لوجه توتو ونقله من الطفولة إلى المراهقة فيها إشارة إلى الدور الذي لعبه ألفريدو في حياة توتو.
مع بلوغ توتو مرحلة المراهقة ستزيد مساحة الحرية وسيتم عرض مشهد لبريجيت باردو وهي عارية تمامًا في أحد الأفلام. هذا الانفتاح الاجتماعي يسير بموازاة انفتاح سياسي واقتصادي وتراجع لسلطة رجال الدين، وكأن الرقابة التي كانت مفروضة مؤشرٌ على طغيان الديني على الاجتماعي. وفي ذلك إشارة إلى مرحلة وحياة جديدة تعكسها السينما من خلال عنوان الفيلم «سينما باراديسو الجديدة».
الواقع والخيال.
يصور فيلم «سينما باراديسو» مراحل تطور المجتمع الإيطالي الناتجة عن المتغيرات الجديدة، وهو تطور سلبي من منظور القيم، فمع المرحلة الجديدة ستتحول السينما إلى ماخور، بعد أن كانت مكانًا لحب عذري بين حبيبين. في المرحلة الأولى ثمة مَشاهد ترصد تطور العلاقة بين شاب في الدور الأرضي وشابة في الدور العلوي، يكتفيان بنظرات الوله كلما أغمض المتفرجون أعينهم أثناء مشاهد الرعب على الشاشة، وفي لقطات تالية ستكلل هذه النظرات بزواجهما ثم إنجابهما. في المرحلة الجديدة ثمة مشهد لفتاة هوى تستعمل حمام السينما بوصفه مكانًا لمواعدة الرجال. وهناك أمثلة أخرى لهذا التحول منها لقطات لرجل وهو يبصق من الدور العلوي على المشاهدين في الدور الأرضي، لكن فعله يقابَل باستهجان لفظي فقط. أما في المرحلة الجديدة فسيتطور الكلام إلى فعل، فيقذفونه بشيء يبدو كالبراز.
مثال آخر نجده في لقطات لرجل لا يأتي للسينما إلا من أجل النوم، في إشارة إضافية إلى الحميمية والراحة التي تمثلها السينما. كان الرجل في المرحلة الأولى ينام بسلام أثناء عرض الفيلم مع قليل من منغصات لفظية يرد عليها بعبارته الوحيدة «سأصنع منكم لحمًا مفرومًا، سأصفي حسابي معكم». أما في المرحلة الجديدة فيضعون في فمه صرصارًا.
السينما حياة موازية.
سينما باراديسو، في نظر روادها، ليست مكانًا لعرض الأفلام فقط، بل هي مكان لممارسة حياتهم ومشاهدتها وهي تنمو بين جنباتها. الأفلام التي تُعرض فيها لا تفقد بريقها ولا تأثيرها مع مرور الزمن. ومع تكرار مشاهدتها يتمكن بعض مرتادي السينما من حفظ الأدوار وأدائها وتقمص شخصياتها، ويظهر ذلك في مشهد يذرف فيه المتفرجون الدموع وبينهم رجل يحفظ عبارات الفيلم عن ظهر قلب ويؤديها بشكل حزين وأكثر انفعالًا وإقناعًا من الممثل الذي يؤديها على الشاشة، وهو مشهد يلغي الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، بين السينما والواقع.
السينما حياة موازية وأداة للمعرفة؛ نجد ذلك عندما تكذب أم توتو عليه وتخفي عنه مصير والده، لكنه يعلم حقيقة موته من السينما التي لم تكن تعرض الأفلام فقط وإنما أخبار الحرب كذلك. والسينما وسيلة لنسيان الهموم؛ نجد ذلك في مشهد لتوتو وهو يسير بصحبة أمه والحزن بادٍ عليهما بعد إعلان خبر مقتل الأب واختفاء جثته، وحين يرى توتو بوستر (ملصق) فيلم على الجدار يشرق وجهه بابتسامة.
والسينما تحقق الأمنيات؛ نرى ذلك في مشهد لتوتو وهو يتمنى انتهاء الصيف الكئيب بأسرع وقت ممكن ليتمكن من رؤية حبيبته. يقول: «لو أن الحياة فيلم لأمكن إنهاء الصيف بضوء خافت، قطع ثم رياح خفيفة». في تلك اللحظة يلمع البرق وينزل المطر ويتفرق المشاهدون وتأتي حبيبته (إلينا) لتُقبّله.
في مرحلة تالية ستذهب السينما إلى الناس في عروض مكشوفة في الساحات العامة في دلالة على تغير مفهوم السينما من مكان حميمي، يحرص الناس على الذهاب إليه، إلى الساحات المفتوحة. هذا التغير هو الذي مهّد في الأخير لهدم السينما من قِبَل البلدية وتحويلها إلى جراج. ويمكن أن نجد في خروج الناس من سينما باراديسو ثم هدمها رمزية تشير إلى سقوط الإنسان من الجنة. ثمة لقطة في نهاية الفيلم تدعم هذا التأويل وهو خروج المجنون من الساحة التي كان يعتبرها ملكًا له، حيث خروج المجنون يحل محله العقل العملي المتمثل في استعمال السينما -بعد أن صارت مهجورة- لشيء فيه مصلحة عامة، على نحو براغماتي أو نفعي، يبين طغيان المادي على الروحي.
ما كان متخيلًا في «سينما باراديسو» حدث في الواقع بعد سنوات قليلة، عام 1992. في هذا العام «بيعت معدات شينيشيتا وتجهيزاتها بالمزاد العلني. وكان ذلك بالنسبة إلى فيلليني قرع جرس الموت للمكان الذي كان يعتبره بيته... إن الانهيار الذي أصاب شينيشيتا كان إشارة إلى ما ينتظر صناعة السينما الإيطالية من أوقات عصيبة... لم يُعرِض الجمهور في أمريكا والعالم فحسب عن مشاهدة الأفلام الإيطالية، بل أعرض الإيطاليون عنها كذلك. وتوقف الأمريكيون عن صناعة الأفلام في إيطاليا التي تحولت من أرخص مكان للعمل إلى أغلى مكان. وأخيرًا لم يكن الانهيار المفاجئ للحكومة، ودخول قادة سياسيين ورجال أعمال إلى السجن، لم يكن ليعزز مكانة شينيشيتا كقبلة لصناعة الأفلام»1. ألم يقل ألفريدو إن «التقدم يأتي بعد فوات الأوان»، وإن الحاضر حين يهدم الماضي الجميل ليس بوسع الحنين أن يعيده.
الحنين إلى الماضي.
الفيلم إجمالًا دعوة إلى العيش في حياة موسومة بالتغير، إذ إن الحنين لن يجدي في إيقاف سيرورتها وصيرورتها. تتظافر عناصر الفيلم في نسيج يمكن تلخيصه في كلمة واحدة هي الحنين، الحنين إلى الماضي حيث الزمن الجميل، أو ما نعتبره جميلًا. الماضي دائمًا جميل طالما نتذكره بخير. الماضي جميل لأننا لا نتذكر منه سوى اللحظات الجميلة، ويمكن للحاضر أن يكون أجمل لو صنعنا فيه ذكريات سعيدة، وهذا ما ينجح الفيلم في توصيله بلغة غير مباشرة بداية بالعنوان إلى مضامين أحداثه، وتلعب الموسيقى التصويرية، التي ألفها إنيو موريكوني، دورًا كبيرًا في التعبير عن ذلك الحنين، كما لم يكن لهذا الفيلم أن يكون على هذه الصورة من الجمال والسحر من دون الأداء المدهش للطفل سالفاتوري كاسيو الذي قام بدور توتو في مرحلة الطفولة.
ثمة رسالة تتنبأ بحاضر سيؤول إلى ماض، نجدها في تحذير ألفريدو لتوتو. يقول ألفريدو مخاطبًا توتو: «هنا تعيش يومًا بيوم معتقدًا أنه مركز العالم. تعتقد أن لا شيء سيتغير أبدًا، ثم تغادر لسنة أو لسنتين. وعندما تعود ستجد كل شيء وقد تغير وانقطع الخيط، وما عدت لتبحث عنه لن تجده، وما كان ملكك قد اختفى. عليك أن ترحل بعيدًا لزمن طويل، وبعد سنوات عديدة، يمكنك أن تعود إلى ناسك وأرضك، لكن الآن لا، مستحيل. الآن أنت أشد مني عمىً».
تحذير توتو هو تحذير للمتلقي كي لا ينظر إلى الوراء، أو أن ينظر إليه بحياد كما فعل توتو بعد عودته وهو يوجه نظراته للمحيطين ولسينما باراديسو دون أن تبدر منه أي علامة حزن أو محاولة لمنع الهدم أو للاعتراض عليه. تلك النظرات المحايدة التي يوجهها توتو هي حصيلة ما علّمه ألفريدو، لقد قال له: «أيًا يكن الفعل الذي فعلته، أحببه».
هي دعوة لكي نحيا ببساطة ولا نندم على شيء مضى أحببناه، فالحياة تضيع أحيانًا في التخطيط لها فننسى الحاضر الذي يستحق أن يُعاش. وهذا ما لم يكن يؤمن به توتو المراهق وهو يخطط لمستقبله مع حبيبته إيلينا، لكن إيلينا تؤكد ما قاله ألفريدو فتخاطبه: «لا يا سالفاتوري، لا يوجد مستقبل. لا يوجد سوى ماضٍ، حتى لقاء ليلة البارحة لم يكن سوى حلم، حلم جميل. عندما كنا صغارًا فنحن لم نلتق، هل تتذكر؟ والآن وقد حدث لا أتخيل نهاية أفضل».
نظرات توتو المحايدة بعد عودته وتعدد علاقاته بالنساء، بعد أن صار مخرجًا مشهورًا، دليل على أنه قد استوعب الدرس؛ لم تعد إيلينا سوى صورة محفوظة في فيلم التقطه أيام مراهقته. مثلما أن مغادرة المجنون للساحة فيها دلالة تفيد حلول العقل مكان الجنون، حين لا يقيم العقل العملي للحنين أي حساب عندما تقتضي المصلحة هدم السينما.
توتو هو نحن.
لا يوجد وصفة لنجاح أي فيلم، بحسب فيلليني، سوى حب الناس له، إذ «ينبغي أن يتماهى، أن يتعاطف، أن يتقمص. ينبغي أن يكون الجمهور قادرًا على ولوج الفيلم، والحلول محلي، أو محل بعض الشخصيات على الأقل»2. وهذا ما يتحقق في فيلم «سينما باراديسو»، ببكاء المُشاهد وضحكه.
ومن منظور التماهي أجد توتو، من حيث الشكل، يشبهني طفلًا، ومن حيث الجوهر سيجد فيه كثيرون أنفسَهم، فأغلبنا يحمل في ذاكرته لحظات جميلة كثيرًا ما تعاوده وتُشعره بالحنين إلى زمن قد ولى، لكننا نأبى العودة خوفًا من أشباح الماضي. ثمة بلدة للطفولة نود العودة إليها. توتو لم يعد من أجل أمه، عاد من أجل ألفريدو. وتوتو لن يكبر، كما لن يكبر الطفل فينا. ببقاء توتو طفلًا فإنه يرفع عنا كلفة الحنين إلى الماضي بالعودة لمشاهدة الفيلم مجددًا. وما لم يكبر الطفل فينا سنظل نشاهد الفيلم ونستعيد ذكريات تلك الأيام التي لم تكن جميلة بقدر ما أن الطفولة بحلوها ومرها كذلك.
يمنحنا توتو فرصة للقيام برحلة في الزمن ويعفينا من القيام بها على أرض الواقع، رحلة تشبه الإسقاط، حيث استعادة طفولتنا قد لا تكون مسلية ولذلك نستعيض بها طفولة أخرى إن لم تكن تشبه طفولتنا فيمكننا على الأقل ادعاء أنها كذلك، ومع الزمن يصير ما تخيلناه حقيقة مثلما أن الأحلام عند فيلليني هي الحقيقة وما عداها وهم.
فيلليني و تورناتوري و«سينما باراديسو».
صنع جيوزيبي تورناتوري هذا الفيلم عام 1988، وسيتحفنا بعد هذا الفيلم بأفلام عديدة. حصل الفيلم عام 1990 على جائزتَي الأوسكار والغولدن غلوب كأفضل فيلم أجنبي، وحصد خمس جوائز بافتا عام 1991، منها جائزة أحسن ممثل لفيليبي وريت الذي قام بدور ألفريدو، وجائزة أفضل ممثل مساعد للطفل المدهش سالفاتوري كاسيو الذي قام بدور توتو في مرحلة الطفولة، كما نال الفيلم جوائز من مهرجانات أخرى.
عن فيلم «سينما باراديسو» قال المخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني في مذكراته:
«من بين المخرجين الجدد الذين أعرف أعمالهم، يعجبني على نحو خاص مخرجنا الإيطالي جويسيب تورانتوري الذي يتصف فيلمه (سينما باراديسو) بالفردية الصادقة من غير الابتعاد عن تراث السينما العظيم. إنه فيلم ناضج جدًا قياسًا إلى سنه. ولأنه يصنع من الأفلام هذا النوع، فإنهم يعتقدون أنه غير مجدد، وهذا يعني أنه مقلد وغير أصيل. وهذا ليس صحيحًا. فالقدم والجدة ليسا ما يهم، بل الروعة والإدهاش»3.
ويقول:
«ثمة أسف أشعر به ولا أشارك فيه الجميع، ولكنني اعترفت به للمخرج جويسيب تورانتوري. أنا لا أحب إسداء النصائح، إلا أنني رغبت في تشجيعه على عمل أتمنى لو أني عملته. كنت أول من شاهد الطبعة الكاملة لفيلمه (سينما باراديسو). عرضه لي وحدي، ثم سألني عن رأيي فيما ينبغي أن يفعل... الطبعة التي أراني إياها تورانتوري هي الطبعة النهائية الموزعة للفيلم، وكذلك كانت طبعة (الشيخ الأبيض) التي رآها روسيلليني. فكرت في كلماته (روسيلليني) وهو يقول لي: ذات يوم سترى المستقبل في شخص أصغر منك وهو يجتاز مرحلة حاسمة من حياته. أعجبني فيلم تورانتوري كثيرًا، غير أني قلت له: إنه طويل جدًا ويجب اختصاره. ولما سألني عما ينبغي أن يختصر لم أقل شيئًا. أنا لا أفعل ذلك. كان ينبغي ألا يصغي إليّ بل إلى نفسه»4.
توتو الذي فر بعيدًا عن بلدته لم يفر من السينما، أصبح مخرجًا ليحقق حلم ألفريدو في تغيير العالم ليصبح أفضل. يقول ألفريدو: «لو أني خلقت العالم، أقول بكل تواضع، لكنت جعلت بعض الأشياء أفضل، لكن لسوء الحظ لستُ الخالق». لقد أصبح توتو ذلك الخالق، وتوتو هو تورناتوري نفسه وأي صانع أفلام عظيم مثله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1.أنا فيلليني 465
2.أنا فيلليني 199
3.ش شاندلر: مذكرات أنا فيليني، ص 351
4.(السابق ص371)