النقد

فيلم «ريش»: البحث عن الساحر

يُفتتح فيلم «ريش» للمخرج عمر الزهيري (2021) بمشهد لرجل يبكي، يعقبه مباشرةً صوت إشعال عود كبريت، ويظهر الرجل في الكادر وهو يحترق، ويصرخ، صراخ ألم لا صراخ استغاثة، لكنْ ما من أحد حوله يهبّ لإنقاذه. هذا المشهد القاسي شكلًا، صورةً ومضمونًا، يمهد للعالَم الذي سيتعامل معه الفيلم وسيتعرف إليه المُشاهد بعد أن يحذف العنصر السوريالي الغرائبي من قصته. 

هو مشهد افتتاحي وفقًا لترتيب السرد، ويبدو مبتورًا لكنه وفقًا لمضامينه مشهد ختامي للمصير الذي ينتظر هذا العالم. هذا المشهد -برأيي- هو الفيلم كله، وكل ما سيأتي تفصيلة إضافية ليكون الهامش أكبر من المتن. واحدة من آليات الربط بين هذا المشهد والمَشاهد التالية هي خلفية المصنع والدخان الذي يتصاعد منه والذي سنراه في مَشاهد تالية من نافذة الشقة التي تعيش فيها الأُسرة.

المتن والهامش. يختفي الرجل المحترق عن مسرح السرد بانتهاء هذا المشهد! لم يُخفِ هذا الرجلَ ساحرٌ، كما سيفعل مع رب الأسرة لاحقًا. الرجل المحترق اختار مصيره بنفسه، هكذا تبدو الأمور، إذ ما من مقدمات تشرح هذا المصير، إلا إذا قلبنا المشهد ليصبح هامشًا وقصة الفيلم الرئيسة متنًا واعتبرنا أن نوعية الحياة التي يعيشها شخوص الفيلم هي خلاصة للمجتمع الغارق في قسوته، وأن النجاة من هذه العيشة أو المَخرج منها لا يكون إلا بالانتحار.

ثمة ساحر أو سَحَرة يقفون وراء هذا المصير الواقعي الذي لا يتعلق بشخصية في فيلم فقط بل قد يشير إلى واقع المُشاهد نفسه! ساحر يحوِّل الناس إلى دواجن خائفة وستؤول عملية البحث عنه إلى سدى، ليس لأنه مختف هو الآخر ولكن لأن الهدف من البحث عن الساحر هو الإشارة إليه لا القبض عليه متلبسًا!

عبث الواقع. الفيلم واقعي، غارق في الواقعية، وما تحويل رب الأسرة إلى دجاجة إلا حيلة تهدف إلى تحقيق أهداف عدة، منها: اختبار نوع الحياة التي يمكن للمرأة أن تحياها في غياب زوجها، والكشف عن طبيعة الحياة التي يعيشها هذا المجتمع المادي الآلي الخالي من أي عاطفة. حتى التعبير عن الحب أو الرغبة الجنسية تتم بطريقة آلية خالية من أية مشاعر؛ كل ما يربط الزوج بزوجته هو المبلغ المالي الذي يُناولها إياه مصروفًا للبيت. وباختفاء الزوج ستتغير اليد التي تُناولها النقود لكنها لن تختلف عنها في نوعية العلاقة المادية.

يمكن أن نعزو الجمود في أداء الممثلين إلى قلة خبرة الممثلين، لكنه أداء موظف يتناسب مع طبيعة المجتمع الآلي الخالي من المشاعر. وجوه محايدة ونظرات جامدة لا حياة فيها، وكلمات قليلة وعبارات مبتورة لتعطي صورة عن انقطاع التواصل الطبيعي بين سكان هذا العالم الذي لا ينطبق على المجتمع المصري وإنما على مجتمعات عديدة تشبهه. 

مَواقع التصوير الخارجية والداخلية، وكادرات الأبيض والأسود والرمادية والسخام، لا تعيننا على تحديد هوية المكان، ويصب هذا الحياد لصالح القضية الإنسانية. المخرج عمر الزهيري مهموم بقضية إنسانية لا بوصفها حالة مصرية، فالغالب في الفيلم هو لغته البصرية لا المحكية (الحوار) وهو بهذه اللغة الإنسانية الأولى يخاطب العالم لا الإنسان المصري فحسب. هكذا هي السينما في انتمائها للإنسان لا للجغرافيا ولا للقوميات.

يختفي الزوج في الظاهر بحيلة سحرية بعد أن يُدخله الساحر في صندوق ويتحول إلى دجاجة، لكن عودته بحالته المزرية تكشف عن اختفاء أو إخفاء من نوع آخر. يُعثر على الزوج أخيرًا وهو مغطى بطبقة من القار أو النفط وعلى جسده قروح وجروح وهو مصاب بغيبوبة، وهو على هذه الحال أكثر بؤسًا من دجاجة. لا يخبرنا الزهيري بما حدث له، مثلما فعل مع الرجل المحترق في مشهد الافتتاحية، وهذا يغري بالربط بين الرَجُلَين. هذه الحيلة السحرية، التي حوّلت الرجل إلى دجاجة، لا تُخرج الفيلم من واقعيته الشديدة لتضعه في خانة الغرائبية أو السوريالية، والقصة في مجملها عبثية، لكنها ليست عبثية فنية مفارقة للواقع، بل هي مستمَدة منه.

لم تختلف معاملة الزوجة لزوجها بعد أن عُثر عليه، على الحال الموصوف أعلاه؛ لقد كانت طوال الوقت تنظر إليه كدجاجة، وجوده مثل عدمه، وسيتدهور وضع الأسرة لكنه لن يختلف في طبيعته عمّا قبل. اللافت أنه بعد اختفاء الزوج لن تذهب الزوجة في رحلة للبحث عنه وإنما عن الساحر، المسئول، الذي أخفاه وترك لها بدلًا منه دجاجة بقيت عالة عليها تطعمها وتعالجها بكل ما تملك. أرى في الحيلة السحرية مقايضة بين الرجل والدجاجة تجعل من الإنسان مساويًا لثمن فرخة.

ليس عبثا ما نراه ولكنه واقع أكسبه المخرج سحرًا بغية الهروب من المعالجات السينمائية التقليدية لمآسي الواقع وللهروب أيضًا من رقابة الساحر الأكبر الذي ستتجلى رموزه في صور مختلفة لمحاربة المُخرج، بعد أن أنجز فيلمه. محاولة أخيرة لتدجينه هو الآخر قد تنجح وقد تفشل، فليس أقسى على السلطات من أن يغرّد فنان بعيدًا عن سرب الدواجن!

الخطيئة الكبرى. سيتسلل الملل إلى المُشاهد، والملل خطيئة ينبغي تجنبها كما يقول المخرج الإيطالي الأمريكي فرانك كابرا: «في السينما لا توجد قواعد، فقط خطايا يجب تجنبها، والخطيئة الأولى هي الملل». لكن الملل هنا نسبيّ أحيانًا وقد يصدر من الذات لا من الموضوع.. وقد يكون هذا ما حدث معي، مع أن الفيلم لا يخلو من جماليات بصرية وعناصر تشويق مبنية أساسًا على تقنية السرد لا على إبهار الحبكة أو حيوية الكاميرا.

يبدأ التشويق بأسئلة المتلقي مع نهاية المشهد الافتتاحي. لكن السرد يعزل هذا المشهد ليؤسس في المَشاهد التالية لحياة الأسرة وروتينها اليومي، في قصة تبدو مبتورة عن مشهد الافتتاحية، ثم تأتي اللحظة الفاصلة، مشهد عيد الميلاد والساحر والصندوق.. لتبرز أسئلة تتعلق بمصير رب الأسرة والساحر، ثم أسئلة تتعلق بمصير الزوجة وهي تكافح من أجل البقاء، ليختتم القصة بذبح الزوجة للدجاجة، وكأن المخرج باختياره هذه الخاتمة يقدّم حلًا باقتراحه قطيعةً مع الماضي.

فيلم «ريش» من الأفلام التي تترك أثرها في المتلقي ولا تفارقه إلا بعد محاولات لفك بنيته وتحليل قصته والتأمل في كادراته، هو فيلم لا ينتهي مع تتر النهاية بل يظل عالقًا في الذهن طالبًا من المُشاهد المشاركة لا التلقي السلبي أو اعتباره فيلمًا للتسلية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. رياض حمادي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا