في فيلمه الحاصل على السعفة الذهبية في مهرجان «كان» عام 2012 وأوسكار أفضل فيلم أجنبي والمرشح لأربع جوائز أخرى من ضمنها أوسكار أفضل فيلم في سابقة لا تحدث كثيرًا، يقدم «هانيكه» هنا تراجيديا عن الحب ومحاولة الحفاظ عليه.
لا يحاول أن يصنع لك فيلم أثارة أو أن يصدمك شعوريًا بوفاة أحد شخوص الفيلم في نهايته. يخبرك قبل أن تتعرف إلى الشخصية ذاتها أنها ستموت، ويبقى السؤال: لماذا وكيف ماتت؟ وعندما نشاهد شخصيتنا ننظر إليها نظرةً مليئةً بالحسرة، كأننا طبيب يعرف مصير مريضه في النهاية، فيشعر بالأسى عليه.
الالتحاق بمدارس وكليات السينما، وربما بعض الورش، مفيد. هو ليس الوسيلة الوحيدة بالطبع لتكون سينمائيًا، ولكنه طريق أسرع وأقل ضبابية، وذلك بالنسبة إلى كافة السينمائيين باختلاف تخصصاتهم، باستثناء الكتابة، فلن يعلّمك أحد الكتابة على طريقة هانيكه أو أن تكتب فيلمًا كفيلم شارلوت ويلز Aftersun مثلًا، بعيدًا عن أن الكتابة ليست تقنية تحتاج إلى أدوات تريد أن تراها بعينك وتلمسها بيدك لتعرف كيف تعمل، فهي تختلف عن بقية التخصصات وكل ما يمكن تعليمه لك هو الشكل التقليدي، الثلاثة فصول بمراحلها المعتادة، البطل الذي نتعرف إلى عالمه ثم نتعرف إلى مشكلته في الفصل الأول وبنهايته يقرر أن يخوض غمار التجربة ويحاول، ليجد في الفصل الثاني مشكلته قد تفاقمت، سواء كانت هذه المشكلة وحشًا يحاربه أو شيئًا يستعصي عليه حله، ليُلحق به هزيمة نكراء، ثم في الفصل الثالث عندما تتعرض حياة مَن يحبهم إلى الخطر، يقرر أن يقف على قدميه مجددًا، متسلحًا بسلاح الحب، السلاح الأقوى سينمائيًا وواقعيًا، ويُكلَّل بالنصر في النهاية. الثلاثة فصول معروفة منذ فجر الحكاية، بما تحوي من شخوص إضافية، كالفتاة التي سيقع في غرامها محاولًا الوصول إليها، وكصوت الحكمة الذي سيدفعه في نهاية الفصل الثاني ليتحلى بالشجاعة ويحاول مجددًا في فصله الثالث. هي الوصفة السحرية لكتابة فيلم أبطال خارقين أو فيلم أكشن أو حتى فيلم رومانسي تقليدي، لكن ما يفعله هانيكه وبقية رفاقه مختلف؛ هم لا يقسّمون الحكاية لفصول؛ هم أشبه بطبيب ماهر وماكر يغرس إبرته في جسدك دون أن تلاحظ ويبدأ ببطء في ضخ سمه. لن تشعر بشيء، ولكن عند اكتمال الجرعة ستهوي على الأرض بلا حراك، بلا أي مقدمات، ليتركك في النهاية مع طوفان من المشاعر لا تعرف من أي مكان جاء وكيف تسرّب كل ذلك بداخلك.
في فضاء هانيكه حيث تلتقي التجربة والمعنى.
منذ اللحظة الأول يرسّخ هانيكه أسلوبه، لقطات واسعة تنقل لك حيّز المكان كله، كما أنها لقطات طويلة ينعدم القطع فيها. يمهد هانيكه لأسلوبه الذي تشعر معه أن الكاميرا ثقيلة، لا في حركتها، بل في منح معنى للمشهد، فهو مدرك لقيمة القطع وللقطات القريبة -الكلوز أب ينعدم تمامًا في فيلمه- فلا يستخدم هنا إلا لقطات واسعة -في الغالب- أو متوسطة، مما يُكسب التنقل بينهما قيمة مضاعفة، وعند حدوث القطع تشعر أنك تتأهب لشيء مهم، لتعبير يجب أن ينقل أو لحدث يجب أن تركز عليه.
في المشهد الأول يكسر رجال الإطفاء الباب باحثين عن مصدر الرائحة. رائحة الموت تعبئ الأرجاء. شمَّ الجيران الرائحة فأبلغوا عنها. يبحث الشرطي هنا وهناك عن الجثة، متجولًا في أنحاء المنزل، وأثناء البحث يفتح النوافذ لإدخال حياة إلى الشقة وإخراج الموت الذي كساها. يجدون مصدر الرائحة: جثة هامدة لعجوز على السرير، محاطة بالورد من كل جانب، مرتدية ملابسها كاملة ومتأنقة كأنها مستعدة للرحيل، كل ذلك في مشهد طويل بلا أي قطع، ثم ينتهي المشهد بشاشة سوداء تتوسطها كلمة «الحب».
يستمر هذا الأسلوب على نحو مكثف في الدقائق الأولى منذ مشهد التعرف على الجثة، ثم بداية حكايتنا من اليوم الذي يسبق تغيُّر حياة العجوزين. يحاول هانيكه أن ينقل لنا الليلة الأخيرة في حياتهما قبل أن تمرض الزوجة، وكمّ مشاعر الحب والود والتفاهم بينهما، في حياتهما المستقرة التي يكسوها دفئُ رفيقين سارا الدرب معًا إلى آخره.
تكسب اللقطات الطويلة حميميةً وواقعيةً أكبر، وبالإضافة إلى ذلك، يستثمر هانيكه كل لحظة ولا يقفز عليها من أجل خلقِ أكبر قدر من إحساس أننا نشاركهما حياتهما، وإعطاءِ ديمومة للصورة. لن يتجاوز مشهدًا يقوم فيه ألكسندر بضبط كرسي البيانو ولا كثيرًا من التفاصيل البسيطة مثل شراء مستلزمات المنزل أو تناول الطعام وغيرها.. سينقل لك الحياة كما هي، ويحاول خلال كل ذلك أن يصنع مَشاهد تقلل من حدة الأجواء وتخفف من وطأة الحدث في نفوسنا كما تفعل شخصيات فيلمه بعضهم مع بعض.
كل هذا لم يكن ليحدث إلا بالتعاون مع ثلاثة أشخاص هم المونتيرة الفرنسية نادين موس ورفيقتها النمساوية -كحال مخرجنا- مونيكا ويلي -اللذان تعاونا مع هانيكه في فيلميه (2003) Time of the Wolf و (2001) The Piano Teacher في عمل مونتاجي فخم- بالإضافة إلى التعاون مع المصور السينمائي الفرنسي من أصل إيراني داريوس خوندجي، الذي تألق مؤخرًا مع المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليز إيناريتو في (2022) Bardo؛ صنعا معًا صورًا لا هي بالمتكلفة فتُفقدك قيمة الواقعية، ولا هي بالفقيرة فتخسر جمالية الصورة.
مع اقتراب النصف الثاني ومع تحرك الأحداث وتصاعدها، يُزيد هانيكه تدريجيًا من استخدام المونتاج واللقطات المتوسطة. تشعر أن الكاميرا أصبحت أخف حركةً، تلاحق الشخصيات وتحاول أن تلتقط ملامح القلق والحيرة التي سادت.
مشاهد مصنوعة بحنكة.
يمتلئ الفيلم بعديدٍ من المشاهد التي يقص فيها الزوجان حكايات لبعضهما، حكايات من الماضي أو أحداث حدثت في يومهما. تسأله «آن» بدهشة إن لم يقص عليها هذه القصة من قبل، ليرد جورج أنه لا يزال هناك عديدٌ من القصص التي لم يحكها بعد.
ولأن الاستماع والتحدث هما أكثر الأفعال رومانسية، فهما منزوعان من أي رغبات غير مشارَكةِ الآخر أحداث حياته وجعْلِه يدرك أنه وتفاصيله مهمين، فهناك متعة خالصة في النظر إلى مَن تحب وهو يسرد عليك ما حدث، محاولًا سرد ذلك بأكثر الطرائق براعة وخفة، أملًا في جعلك مستمتعًا، وبداخل كل ذلك طرفان يرغبان في قضاء أكبر وقت ممكن معًا.
ما يفعله هانيكه في الفيلم في مجمله يؤديه ببراعة متناهية في كل مشهد، يبدأ الحوار على نحو هادئ، يحكي أحد الطرفين قصة للآخر، ثم يتصاعد ببطء حتى يطفو على السطح من دون أن تأخذ حذرك، من دون أي افتعال أو انفعال. كل مشهد هو درس في كيفية كتابة مشهد سينمائي عظيم.
وباستثناء مشهد الحفلة الموسيقية قبل مرض الزوجة، نبقى نحن -المشاهدين- داخل الشقة، لا نخرج منها، فلولا مشهد الحفل والعودة بالحافلة في بداية الفيلم لاعتبرناه فيلم الموقع الواحد، وكأن هانيكه يريد أن يحاصرنا بالداخل كما فعل مع شخصيتيه، فحياتهما توقفت وانحصرت بداخل الشقة. حتى عندما يخرج الزوج هو يخرج لشراء الحاجات لا للتنزه، ومع ذلك نبقى بالداخل بانتظار عودته، ولذلك نبقى معهما في الداخل، محاصرين بألمهما ومحاولتهما النجاة رغم معرفتهما بحتمية النهاية.
أمام عينيك ومن خلال عيني هانيكه.
يستيقظ جورج فزعًا من حلم يشاهد نفسه فيه يسير باحثًا عن مصدر الصوت، وعندما ينادي: «هل يسمعني أحد؟» لا يجد أي رد، ليكمل سيره ليجد الممر غارقًا بالمياه، وعندما ينظر إلى قدميه يخنقه أحدٌ ليستيقظ على صراخه.
يجسد الحلم مشاعر جورج الذي بدأ يشعر بالوحدة التدريجية. آن لم تعد رفيقة الدرب كما في الماضي، كما أن شعوره أنها تقترب إلى الهاوية ببطء ومعها يقترب هو من الوحدة التامة، يولّد شعورًا بالاختناق، كما أن إحساسه بعدم القدرة وصعوبة مساعدتها في مهامها اليومية بسبب سنه، يُشعره أنه يغرق معها بلا قدرة على إنقاذ أي منهما، وخصوصًا أنه ملتزم بكلمته لها بعدم إرسالها إلى دار رعاية، وبالإضافة إلى مشاعر عجوز يرى رفيقته ترحل أمامه، هناك مشاعر آن التي بمرور الوقت فقدت القدرة على الحراك وأصبحت مثلنا: مجرد مُشاهد يرى نهايته أمام عينه.
في المشهد الذي تُعلّم فيه الممرضةُ جورج كيفية تغيير الحفاظات، يثبّت هانيكه الكادر على آن فقط. صانع سينما آخر كان سيضع بعض اللقطات لكيفية تغيير الحفاظة وينقل الصورة على جورج وهو يستمع إلى التعليمات، ولكن هانيكه يدرك أن كل هذا بلا قيمة؛ ما يهمنا هو مشاعر آن وهي تشاهد نفسها وقد تحولت إلى طفلة لا تتحكم بشيء، ولكن الفارق هنا أنها واعية ومدركة لذلك.
يرجع فضل كبير في نقل الكم الهائل من المشاعر إلى بطلينا جان لوي ترينتينيان في لقائي الثاني معه بعد أن شاهدته في (1994) Three Colours: Red وإيمانويل ريفا فاتنة (1959) Hiroshima Mon Amour في أداءين بديعين. ينقل جان مشاعر عجوز أهلكه رؤية حبيبته مريضة. يمتلك جان طبقة صوت رخيمة تجعلك تستمع إلى قصصه بلا ملل وتشعرك في الوقت نفسه وكأنك تتمنى أن يكون جَدًا لك يحكي لك مغامراته وقصصه. أما ريفا التي كانت في أكثر من نصف الفيلم طريحة الفراش بلا حراك، تنقل لك كل شيء بعينيها وصوت متقطع فقط، كهمهمات سجين يودّ أن يتحرر من سجن جسده.
عن ذاكرتنا وذواتنا.
تمتنع آن عن الشرب، وهو دليل على رفضها الحياة ورغبتها في الموت. يرفض جورج هذا الرفض حرصًا على حياتها. يرغب منها أن تواصل، حتى لو كانت طريحة الفراش لا تتحرك وتتمتم بكلمات غير مفهومة. يفتح فمها عنوة، ولكن تبصق آن الماء فيصفعها. هنا يدرك جورج أن ما تبقى لهما معًا سيدمره المرض.. سيمحي أثر الذاكرة الطيبة ويلوثها للأبد.
«في مرحلةٍ ما أضعت البطاقة البريدية، ذلك أمر محزن».
كانت هذه آخر جملة على لسان جورج في الفيلم وهو يخبر آن بقصة حدثت له في صغره، وكأن جورج يخبرنا بطريقة غير مباشرة أنه لا يريد لآن وذكرياتهما معًا أن تضيع كالبطاقة. يريد أن يحتفظ بذكراها كما هي من دون أن تشوبها شائبة.
في آخر مشهد يبدو الوهن والهذيان على جورج وكأنه توقف عن الأكل منذ فترة. يشاهد آن واقفة تغسل الصحون وتخبره أنها انتهت وأنه بإمكانه أن يرتدي حذاءه إذا أراد، ثم يخرجان معًا من الشقة ونبقى نحن بداخلها. نفهم من ذلك أنه -على غرار روميو وجولييت- يقرر جورج الذهاب إلى آن، فلم يعد قادرًا على العيش من دونها.
هذا فيلم عن الحب في صورته الأسمى. نحن لا نتحدث عن اللحظات السعيدة التي نحصلّها من مشاركة حياتنا مع مَن نحب، من كشف ذواتنا واكتشافها، ولا عن الرومانسية التي تولدها القبل والأعناق. هنا الحب خام صافٍ، فإذا لم يكن كذلك، فلماذا نكمل حتى هذه اللحظة؟ ولماذا نساعد مَن نحب ونبقى معهم رغم أن كل ما سنجده ألمهم وأنهم يرحلون ببطء؟ حب رفيقك لدرجة أنك لا تريده أن يراك تتألم أو أن يقضي بقية حياته في خدمتك، فتتمنى الموت لنفسك.
ولأن الحب أن ترى الآخر قبل نفسك لتعي أن رغبته أهم من مشاعرك، ورغم ما يحمله موته لك من قسوة وألم الوحدة، ولكن في موته راحته، حتى لو كان فيه عذابك.
هو فيلم عن ذكريات صنعناها معًا ولا نريد أن نفسدها بلحظات الألم، صورة لحبيبنا نود أن نحتفظ بها في ذاكرتنا من دون أن تشوبها شائبة المرض والضعف، هو كما اعتدنا رؤيته، زاهيًا، جميلًا، براقًا، ضحكته تملأ الأرجاء كما خطفت أعيننا منذ النظرة الأولى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش