مقالات

فيفيان ماير: لغز مكتمل بقطعة مفقودة

ذات يوم، وأنا أتصفح منصة إكس، صادفتني صورة امرأة هائمة في ذاتها في سيارة كلاسيكية التقطتها مصورة تُدعى فيفيان ماير. شعرتُ حينها بجذوة تتوهج في داخلي، وسؤال واحد سيطر عليّ: مَن هي السيدة خلف الكاميرا؟ ‏بحثتُ عنها، ووجدتُ فيلمًا وثائقيًا صوره شخص يُدعى جون مالوف، الشخص الذي أنصف فيفيان بعد وفاتها، من خلال الصناديق التي حاز عليها بمحض صدفة من مزاد ما، ضمّت حياةً بأكملها، عن سيدة تدّخر كل مصروفها من عملها في المنازل مربيةً وعاملةً للتصوير، مهووسة به، كأنها تمرّن نفسها على التحرر من شيء ما كامن في داخلها.

تمامًا مثل غرفتها المغلقة بقفل كبير، التي لا يجيد أن يتحرك فيها سواها، مختبئة خلف أكوام من الصحف وصلت حتى سقف الغرفة، كانت فيفيان ماير منطوية حول نفسها، ومن ثم أتى جون مالوف، وأماط جزءًا من لثامها. طيلة الفيلم، كنت أتساءل ما إذا كان كل الذين ادّعوا معرفة فيفيان قد عرفوها حقًا، وما إذا كان جون مالوف صائبًا بتسميته للفيلم «العثور على فيفيان ماير». كان الفيلم عبارة عن مجموعة أشخاص عرضوا قصتها من منظورهم الخاص لها، قصص متنوعة تصفها تارةً باللطف وأخرى بالقسوة وحتى بالإساءة تجاه الأطفال الذين كانوا تحت إشرافها. لم يكترث أحد منهم لمعرفة رغباتها الشخصية، التي كانت مخفية في هذين الجانبين بشكل لا يُصدَّق في نفسها، الأمر الذي نادرًا ما تطرق إليه أحد، حتى في المصادر الشتى التي تناولتها، حيث إنها تناولتها بوصفها موضوعًا مثيرًا للفضول، هامشيًا كما كانت هي في حياتها.

كان لها أمام كلٍ منهم جانبًا مرئيًا واحدًا. بدت كامرأة منبوذة، مذعورة، حانِقة، مثيرة للاشمئزاز، مصابة بوسواس قهري يجعلها تدعك كل ألعاب الأطفال الجديدة بكميات مهولة من الأمونيا، منفرةً الأطفال من ألعابهم برائحتها التي لا تطاق، مجسدةً ما ينبع من الخوف من الكشف عن هويتنا الحقيقية والاعتراف بها، مرعوبةً على نحو لا يُصدَّق، وعلى وجه الخصوص، كانت تخاف من لمس الرجال لها، وتحذر النساء من حولها منهم، وبناءً على شهادة إحدى صديقاتها القدامى، فإنها غالبًا قد تكون تعرضت لمعاملة وحشية وتحرشٍ جنسيّ، حيث يظهر هذا الجانب من خلال هوسها بالعناوين الإخبارية التي تكشف عيوب الناس وجوانبهم المظلمة كالقتل والاغتصاب والإساءة. كانت بالنسبة إلى معظم الناس حولها، شخصًا يخفي نفسه وراء الشكليات بارتدائها لقبعات كبيرة، وملابس ثقيلة تخفي قوامها، وأحذية طويلة، وقمصانًا رجالية، تمشي مؤرجحةً ذراعيها كرجل عسكري، وتُعلّق كاميرا حول رقبتها دائمًا كمكان تختبئ فيه. 

زيّفت عند عدد كبير من الناس التي تعاملت معهم في الأسواق، اسمَها الحقيقي، وكانت تكتب لقبها بعدة تهجئات مختلفة في كل مرة، والحقيقة أن كل هذا لا يهم، ما دامت ماير قد قررت أن تحدد هويتها بهذا الشكل. ذات مرة قالت لشخص ما يستفسر عن رغبتها في إخفاء اسمها: «ربما أنا جاسوسة». من الواضح أنها لم تكن كذلك، ربما أرادت أن تكون شخصًا آخر، أن تنسى كل ما حدث معها، أن تنسى يتمها، وتنقلها من منزل إلى آخر دون أن يكون لها بيت واحد، وحاجتها الدائمة إلى المال، أن تنسى شعورها بالاغتراب، وأن تجد بابًا للوصول إلى حياة الآخرين، من خلال مراقبتها لكافة تحركات الأفراد وعرض أجزاء من حياتهم الخاصة، ربما لأن مراقبة البشر دون الاحتكاك بهم أكثر أمانًا بالنسبة إليها، ولكن كان هناك أيضًا جانب آخر منها متعطش للحب، كان هذا واضحًا مما ذكرته صديقتها بحبها لأطفالها، وحب أطفالها لها.

في إحدى المرات، سألتْ بهدوء زوجين عملت لديهما وكانا يفكران في تبني طفل: «إذا كنتما تريدان الاهتمام بشخص ما، فلماذا لا تختاراني أنا؟» وضحكت ساخرة بعدها، لكنها كانت تعبر عن رغبة حقيقية لأن تكون فردًا من العائلة. أفصحت الزوجة نفسها، بأنه بالرغم من رغبتها في أن تكون فيفيان جزءًا من أسرتها فإن حوافها كانت حادة، وهذا ما لم يُمكّنها لأنْ تتناسب مع الإطار العائلي. في مرحلة ما، توسلت فيفيان صديقتها الوحيدة للبقاء، قائلة: «من فضلك لا تغادري، ابق وتحدثي معي، أنا صديقتك، من فضلك» لكن فيفيان استدارت فجأة عندما طلبت منها صديقتها أن تتبعها حتى يتمكنا من التحدث بصحبة أطفالها. كانت فيفيان تختفي بمجرد أن تكشف ولو قليلاً عن حاجتها إلى الحب، شاعرة بالعار، كما لو أن تلك الرغبة لا تليق بها.  

لم تدافع عن نفسها بوصفها مصورةً مبدعة بالرغم من إدراكها أنها تملك الإمكانات الكافية، حيث أوضحت ذلك في رسالتها إلى أحد أفراد العائلة البعيدة الذي كان يمتلك استوديو للتصوير، ليطبع صورة المناظر الطبيعية التي صورتها، إضافةً إلى افتقارها للقدرة على دفع نفسها إلى أبعد من ذلك. لم تحظَ فيفيان طوال حياتها بتقدير من مؤسسة ما، حتى بعد مماتها، إلا أن الناس أحبوا أعمالها جدًا، لأنها أظهرت للناس أنها المصورة التي كانت حشدًا، تحمل في صورها آلافًا من الحيوات، حاملة حسها للفكاهة والحياة والسياسة والبيئة والمأساة، كاشفةً كل الظواهر الإنسانية بسرياليتها وطبيعتها. 

في النهاية، أُدخلت ماير للمشفى، ولم يعرف عنها أحد شيئًا، أو يتساءل عن غيابها، وتركت وصية، موضحة فيها بأنها لا تملك أي صلة بأي من أقاربها، ولا ترغب في أن تعطيهم حقًا في أي من ممتلكاتها، لأسباب معروفة بالنسبة إليها، والتي كشفت عنها لعدد من أصدقائها المقربين، مخلفةً كل أشيائها المخبأة في صناديقها، التي كانت تقول عنها بأنها تمثل حياتها، في رغبةٍ بأن تهدم الصورة التي حرصت دائمًا على أن تصدرها عن نفسها، كامرأة غامضة، لا تعرض ممتلكاتها لأحد، وكأنها تريد للعالم أن يجاهد في الكشف عنها واحتوائها حتى ولو بعد وفاتها إن استطاع. 

 ماتت ماير وهي تدّخر كل لحظات حياتها، ممارسةً الفعل الوحيد الذي أحبته وعاشت من أجله، ودُفنت في الحياة البرية في المكان الذي أحبته وانتمت إليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

أ. سماء المقبالي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا