مقالات

في فيلم «قصيدة».. كيف يرى الشِّعرُ الأشياء؟

تحت شجرة، تتبادل يانغ أطراف الحديث مع عجوز تتساءل عما تنظر إليه. «الشجرة»، تجيب بتأمل. هذا الحوار يكشف عن بداية رحلة يانغ في عالم الشعر، حيث تتحول رغبتها في كتابة قصيدة من مجرد هواية لملء الوقت إلى حاجة عميقة للتعبير عن مأساة حياتها التي نحضرها في فيلم «قصيدة» (2010) Poetry للمخرج لي تشانغ-دونغ.

تأتي عجوز مُستغرِبة إلى السيدة يانغ، الستينية التي تجلس تحت شجرة وتسألها: «ما الذي تنظرين إليه؟» لتجيبها: «الشجرة». «لماذا تنظرين إلى الشجرة؟»، «لأراها جيدًا، لأشعر بها، لأفهم أفكارها وأستمع إلى ما تقوله لي». يصاحب هذا الحوار القصير حفيف الشجر الهادئ واحتكاكه مع الريح ليصبح هذا المؤثر الصوتي أحد المكونات الضرورية لمشهد هو امتداد لقصّة تمثلت في مهمة كتابة قصيدة، فيانغ كانت قد ذهبت لتعلُّم الشعر؛ في البداية كانت رغبتها هذه حَدَثًا عارضًا بدا مدفوعًا بالرغبة في التغلب على ملل السنوات الأخيرة من العمر، لكنها بعدئذٍ ستتحول إلى ضرورة مُلِحَّة وسردية مَرجوَّة للتعبير عن حياة أبرز ما فيها المأساة. يُعنْوَن هذا الفيلم الكوري الذي يدور عن توارد المصائب ليانع بـ«قصيدة»، فمشكلات السيدة التي بدا أنه من الصعب إيجاد حلول لها صار فعل الخلاص لها كتابة قصيدة، ولكن كيف يمكن للصف بسهولة أن يعلّم يانغ كتابة قصيدة؟ هناك يُحضِر المُعلِّم تفاحة ويخبرهم أن الشعر هو النظرة المختلفة للأشياء، حيث يجب عليهم رؤية التفاحة كما لم يروها من قبل، ورؤية العالم كأنهم لا يعرفون شيئًا عنه مسبقًا، وهذه الرؤية يجب أن تكون رحلة استكشافية: «الشعر هو البحث عن الجمال، أتفهمون؟».

تصدِّقَه السيدة يانغ وتبدأ رحلتها بالبحث عن الجمال. تُقنع نفسها بأنها اعتادت أن تحب الورد وتقول كلامًا غريبًا يشبه الشِّعر، وحين تذهب إلى الطبيبة لفحص نسيانها المتكرر وقبل أن تخبرها بإصابتها بألزهايمر، تشاهد زهورًا وتندهش: «هذه زهور الكاميليا! أنا أحب الكاميليا.. زهور الشتاء، زهور الألم»، ثم تواصل -بطريقة يائسة- بأن هناك جمالًا رومانتيكيًا في المدينة التي تعيش فيها فتبحث عن ذلك في النهر والأشجار، في الورود والتفاحة، لتستقر أخيرًا على «الزهور حمراء مثل الدم»، فتدوّن هذه الملاحظات الشعرية وهي تشاهد مجموعة زهور، لكن هذه الملاحظات لا ترقى لأن تصبح قصيدة، فهي ترغب في كتابة قصيدة -ولو واحدة- فيما تبقى لها من عمرها.

تحتفظ يانغ برؤيتها المقدّسة للشعر وترى أن أحد الشعراء يقول كلمات بذيئة ويسميها شعرًا وأن هذه إهانة للشعر، وتحتج عليه في حين يحاول هو التبرير لها دون أن تقتنع، لكن المعلم الذي علّمهم قداسة الشعر يحضر إلى تلك الحفلة ويصادف أن يكون أحد المشاركين فيها. الشاعر الذي يقول كلمات بذيئة لديه نظرة مختلفة للشعر، فهو -في ظنّه- الرؤية الساخرة للأشياء، على عكس شاعر آخر يراه النظرة الساخطة. إنها إذن منظورات مختلفة بناها المؤلف كي يستعرض الرؤى المتناقضة لرؤية الشعراء للعالم.

بدا المخرج -الذي هو بالمناسبة مؤلف الفيلم- مفتونًا بتداخل الجمال والمأساة، إذ تُعتبر الفلسفة التاوية التي أسسها الفيلسوف الصيني «لا وتسو» هي المؤسِّسة لهذه للنظرة، ولا بد لفيلم كوري أن يحظى ببعض الخصوصية الشرقية التي توارثت تعاليمها الأصيلة من مناهل الفلسفة الأولى، فالسيدة يانغ، التي تكتظ حياتها بالمأساة، لم يكن مظهرها انعكاسًا لتراجيديتها، بل مظهرًا آخر تبدو فيه بحلة أنيقة يتوارى داخلها البؤس واليأس.

أما حفيدها المراهق والذي كان السبب في مضاعفة المعاناة التي تمر بها، بدا بعيدًا كل البُعد عما يهتم به الشعر؛ يأكل البطاطس بملل ويشارك في اغتصاب طالبة أنهت حياتها بالانتحار، لكنه في الجانب الآخر يصير مُحرِّكًا غير مباشر لمعاناة يانغ التي يتخلق في أعماقها الشعر، فالقصيدة في قلب السيدة العجوز لا تُكتب سريعًا، إنما تمشي بالتوازي مع حياتها التي تصبح مع مرور الوقت أكثر صعوبة، فالسيد الذي يعاني من إعاقة والتي تعمل عنده السيدة يانغ خادمةً يمسك يدها ويترجاها أن تمارس معه الجنس، ولا تغفر له هذه الإساءة لتستقيل من وظيفتها الوحيدة التي تعيلها وحفيدها.

إذن «السماء لونها كقطة ماتت منذ شهر» حسب ما هو مقتبَس من الشاعر صديق معلّم الصف. يعكس هذا التعبير تصوّر البائس للطبيعة، فالسماء ليست كذلك، إنما انعكاس صورة الشاعر الداخلية التي تمثلت في رؤيته للسماء، وهي جملة شاعرية أشبه بالرؤية المغايرة للعالم التي تمثلت في ثورة الشعر الحديث وروّاده، النظرة الساخطة للعالم كنوع من أنواع الجمال، وهي تشبه إلى حد ما أحد مقاطع بودلير النثرية: «والآن يرهقني عمقُ السماء؛ يُسخطني صفاؤها. ويثيرني لاشعور البحر، وجمود المشهد... آه! هل يجب التألم دائمًا، أو الهرب دائمًا من الجمال؟ أيتها الطبيعة الساحرة، عديمة الرحمة». لا تنعكس هذه الرؤية على كيفية عرض المَشاهد في الفيلم، فهو من جهة لا يبدو متأثرًا بألوان الشعر التراجيدي وصوره السوداوية، ومن جهة أخرى تظهر المأساة في الصورة نفسها، فالنهر البديع الذي يحضر في بداية الفيلم تطفو فوقه جثة، فلا يستعين المخرج بأدواته التقنية كالمؤثرات البصرية أو الألوان، بل بالواقعية نفسها باعتبارها كافية لأنْ تبعث في نفس المتلقي الرؤية المناسبة للتعبير، فالفيلم في أغلب مشاهده يبدو أنه صف لتعليم المتلقي الشعر أو بعض ما قيل عنه، وقد لا يبدو هذا متعمدًا من قِبَل المخرج، فإن هاجس السيدة يانغ، المصرة على كتابة قصيدة، ينعكس في طريقة عرض الأحداث والأصوات المرافقة لها كحفيف الشجر وهدير النهر وإيقاع المطر، ليبدو الفيلم تتبعًا لاشعوريًا لقصيدة مُحتملة.

حضر الشعر في العمل ليس كونه نصًا مكتوبًا فحسب، بل مشهدًا بصريًا ملفتًا وجماليًا، إما بواسطة عرض المَشاهد أو حتى بالعناصر الفاعلة في الفيلم كالقميص الأحمر الذي يرتديه أحد الشعراء ويبرر دلالته بأن هذا اللون يشير إلى الحيوية.

ورغم دراسة الجميع للشِّعر ومواظبتهم على دروسه، يفشلون في كتابته، فهو -بطبيعته المعروفة- عصي على التّعلم، ولا يندرج تحت المهارات العلمية الأخرى، إنما هو تصوير حسي نادر لحياة المرء، وهكذا، وحدها يانغ التي كتبت قصيدة يمكن ضمها إلى ذلك النوع من الشعر الذي يعتبر التراجيديا مغذية الفن الأولى ومصدر ملاحمه، لكنها لم تُلقِ هي القصيدة، «أنشودة جينس»، إنما تركتها ومضت كي يلقيها المعلم وتستهلها: «كيف انتهى الأمر هناك؟ يا لها من وحدة.. هل ما زالت الشمس تتوهج بالحمرة عند المغيب؟»، وهي تعبير عن حياتها البائسة ويأسها. إنها سرديتها الصادقة وسيرة حياتها الوجدانية، وقد حققت ما أرادته في البداية من كتابة قصيدة واحدة، فالقصيدة أتت تعبيرًا عنها حتى في ظل غيابها، فروحها عبر الشعر تقاوم الخلود، إذ تُلقى القصيدة في عدم حضورها، بصوتها الذي يتردد في الخلفية عبر المَشاهد السينمائية التي كانت فيها، فلا ينفصل الشعر عن السينما في فيلم Poetry، بل يصيران في بعض المَشاهد وحدة واحدة، تعبيرًا مشتركًا ومتفاهِمًا عن هموم الشخصية حتى في غيابها، إذ تصير القصيدة في هذا الفيلم قادرة على أن تستعيض عن الوجود المادي للشخصية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

عبده تاج
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا