يقدم المخرج والكاتب الأمريكي آري أستر صورة مضطربة للأم والأمومة في أفلامه، فنجد أن الأمومة المريضة وتأثيراتها القاتلة محور عدد من أفلامه والتي تربط الأم بالشر، فالأم غير القادرة على التعاطف، والمؤذية، تدمر حياة أبنائها في النهاية، الفكرة التي يأخذها أستر إلى مستويات جديدة في أخر أفلامه Beau Is Afraid «بو خائفًا» (2023) بعد أن أسس لها في فيلمه القصير Munchausen «مونشاوزن» في (2013) وأشار إليها بالحبكة الرئيسة في فيلمه Hereditary «وراثي» المنتَج في 2018.
«مونشاوزن»: تلخيص عقدة الأم عند أستر
في فيلمه القصير والصامت «مونشاوزن» والذي لا تتجاوز مدته 17 دقيقة، يأخذنا أستر في رحلة مكثفة لعلاقة شاب حديث التخرج من التعليم العام بوالدته، وكما هو حال أغلب مَن في هذا العمر في الولايات المتحدة، فهم يذهبون للدراسة في جامعات بعيدة عن أهاليهم، وبعد افتقاد الأم لابنها، ثم معرفة حبه لفتاة تدرس معه بالجامعة، ثم قرارهما الارتباط والزواج بعد تخرجه من الجامعة، وتحت إلحاح وخوف الأم من فقد ابنها مرة أخرى واستئثار فتاة أخرى بحبه واهتمامه، تُقرِّر أن تضع له السم في الطعام، والسم يأتي على هيئة مشاعر سيئة، كما كُتب على القارورة التي وضعت منها قطرات في طعام ابنها، بهدف أن تتسبب له بمرض ليبقى تحت رعايتها. هنا يجسد أستر التعلق المرضي المؤذي بصورة مادية مجسدة.
هنا نجد تلخيصًا مكثفًا لرؤية أستر للعلاقة المرضية بين الأم وابنها، فهي تحبه، ولكن التعلق المؤذي، والحمائية القاتلة، والغيرة، تُسبب أذى لا يمكن التراجع عنه، قد ينتهي بجريمة وفقد أبدي، ففي النهاية، وبالرغم من محاولات تعويض ما فات، وغمر الابن بمشاعر جيدة، يموت في نهاية المطاف، فالأذى الذي تتسببت به الأم لابنها لا يمكن التراجع عنه مهما حاولت.
«وراثي»: الأم أصل الشرور
أما في فيلم الرعب النفسي والدرامي «وراثي»، يتناول أستر «الطوائف» والطقوس الوثنية والرعب المرتبط بها في سياق رعب نفسي وقصص خوارق العادات والشياطين، وفي وسط هذه المعمعة يعود أستر ليلقي باللوم على الأم أو الجدة، إذ من هنا تنطلق كل الأحداث الغريبة في الفيلم والتي بدأت بالموت الغامض للجدة، وسبقه العلاقة المضطربة بين الأم آني غراهام ووالدتها (الجدة)، ثم اللعنات التي ورّثتها آني إلى ابنتها تشارلي (الحفيدة)، وهنا نعود لرؤية أستر المركزية في أفلامه المذكورة، إذا تُوَرِّث الجدة -صاحبة العلاقة المضطربة بابنتها- لعنتَها إلى أحفادها، في وسط طائفة تمارس طقوسًا وثنية تدمر عائلةً كانت سعيدة في يوم ما، فهنا كل شيء «وراثي»، فاللعنة حملتها الأم من الجدة، وأورثتها إلى ابنتها، وكل ما دمر هذه الأسرة جاء من لعنة غامضة وعلاقات عائلية ملتبسة تنتهي بمشهد طقس وثني مخيف ومريب.
«بو خائفًا»: متاهة الرعب
تتعدد قراءات فيلم آري أستر الأخير Beau Is Afraid «بو خائفًا» المنتَج في 2023، والذي أبدع بطلُه خواكين فينيكس في تجسيد شخصية بو المضطربة والمرعوبة. يأخذنا الفيلم في رحلة طويلة مع الخوف الذي يعيشه بو، فهو يخاف من كل شيء، يخاف من الآخرين، والعناكب، والتدخين، والمشي في الشارع، والحب والفقد، والأطفال، والسيارات، والحجارة، وكل ما حوله، لكن خوفه الأكبر -كما هي ثيمة آري أستر الأثيرة- هو خوفه من مواجهة أمه. ومع المضي في مشاهدة الفيلم، يبدو وكأن السردية لم تكن لحياة بو ويومياته، بل يجسد الفيلم مخاوف بو كما يعيشها ويتخيلها دخل عقله، خوف عميق متجسد في النفس والروح، وهذا هو الجانب الفنتازي في الفيلم والذي تجلى على هيئة عنف نفسي لا حد له.
في البداية، يبدو وكأن الفيلم يبدأ بيوميات حياة بو، لكن تكتشف -بعد مرور عدة دقائق- أن بو يعيش في عوالم ما بعد نهاية العالم (apocalyptic era)، حيث العراة يمشون في الشوارع، والبشر أشبه بالزومبي، والفوضى تعم كل المكان، والكل يهجم على الكل، حتى إنه يُضطر إلى خوض رحلة رعب طويلة ليصل إلى شقته القذرة الآمنة نسبيًا في مبنى متهالك لا يحميه من شيء. بعد انتهاء هذا الجزء، تأتي لحظات بقاء بو في منزل غريبَين، أشبه بالمهووسَين، يقومان بالعناية به وهو شبه مخدر، وهذه لحظات رعاية استثنائية في حياة بو، لكنها لا تستمر، إذ سرعان ما يخاف بو من الطفلة التي يقطن في غرفتها، وتكرهه، ثم تتطور الأمور دراميًا حتى يهرب من هذا المنزل، وبعد انتهاء هذا الجزء يعيش بو مع «أيتام الغابة»، ويَظهر أنهم يشبهون بو بشكل أو بآخر، فكلهم هاربون من حياتهم ليعيشوا حياة مختلفة في مسرح مفتوح يجوب الدنيا.
بعد «أيتام الغابة»، يتجلى أستر في لحظة رائعة من ناحية الإخراج، تُجسِّد الحياة التي يتمناها بو في داخله، فتُجسِّد أحلام بو التي لا تتحقق، أو قد تتحقق، فبعد احتضان أيتام الغابة لبو، يبدأ الفيلم بأخذ منحنى يدمج الصور السينمائية بالرسوم الكرتونية، ومن خلال سرد سريع ورائع، يخبرنا عن حياة بو حتى مشيبه. تتحدث هذه الجزئية عن زواجه، وأبنائه، ثم اختفاء زوجته، وضياع الأبناء، وكيف عاش بو هائمًا على وجهه، لكن سرعان ما يعود بنا المخرج أستر إلى نموذجه الأثير في تفسير اضطرابات أي إنسان: الأم. يمضي الفيلم إلى أكبر مخاوف بو، مواجهة أمه، فبعد أن اعتقد أن أمه قد قُتلت في حادث مأساوي، تأتيه لتقرّعه في المنزل، وتتصاعد مخاوف بو، حتى ينتهي المطاف في محاكمة علنية فيما يشبه ملعب كرة القدم لكنه على هيئة بحيرة يجلس بو في قاربه المتهالك في وسطها.
ثم ماذا؟ لا شيء، يغرق بو أكثر فأكثر في مخاوفه، ومتاهة الرعب التي تسكن مخيلته، وتبقى أصابع الاتهام موجَّهةً دائمًا إلى «الأم» كما في كلاسيكيات التحليل النفسي التي رُوجعت ونُقضت كثيرًا خلال العقود القليلة الماضية.
فكرة الاضطرابات النفسية في حياة الأبناء، والتي يتطرق إليها أستر في أفلامه، أي عزو كل ما يرتبط بحياة الأبناء إلى علاقات مَرَضية مع أمهات باردات غير قادرات على التعاطف، من الأفكار القديمة في علم النفس، والتي تَحَدَّث عنها فرويد وغيره مبكرًا، وأصبحت من الأفكار الرئيسة في تفسير الاضطرابات النفسية لعقود، بل ارتبطت بأمراض أكثر تعقيدًا مثل التوحد، إذ اعتُبر مرض التوحد نتيجةً لاضطراب في الأم يجعلها غير قادرة على التواصل العاطفي مع أطفالها، ما يؤدي إلى إصابتهم بالتوحد، الفكرة التي ثبت زيفها لاحقًا، واعتُبر التوحد من الأمراض الجينية بصورة رئيسة، فهذه الرؤية للأمراض النفسية التي تربط كل شيء بالأم استُبدلت بها اليوم رؤيةٌ أكثر تعقيدًا تضع في الاعتبار العوامل الجينية والبيئية الأخرى، ولا تقصر ما يحدث للأبناء بأنماط علاقات سلبية مع الأمهات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش