منذ بداية مسيرته في أواخر التسعينيات، اعتُبرَ المخرج دارين أرونوفسكي واحدًا من أفضل أبناء جيله، ومن أكثر مخرجي هوليوود موهبة وتجديدًا وطموحًا. وبرغم أن سينما دارين أرونوفسكي «داخلية» من حيث إنها ميلودراما نفسية، ينعكس هذا الألم النفسي بشكل أساسي على الجسد، وتبدو فلسفة أعماله ليست، فحسب، تمرينًا على الألم الجسدي والعاطفي لشخصياته، ولكنها أيضًا كتجربة عاطفية ونفسية مشتركة بين تلك الشخصيات والمشاهد.
أوهام الشهرة والسعادة والحلم الأمريكي
بعد ما يزيد قليلاً على خمس عشرة دقيقة من فيلم «مرثية حلم» (2000) للمخرج دارين أرونوفسكي، تظهر لقطة علوية قريبة لوجوه الزوجين الأساسيين في الفيلم، هاري غولدفارب (جاريد ليتو) وماريون سيلفر (جنيفر كونيلي)، وهما مستلقيان على الأرض. قبل هذه اللحظة مباشرة، قدّم هاري لماريون أحد أحلامهما: أن يفتح لها متجرَ ملابسٍ خاصًا بها بتصميمات من رسوماتها الشخصية.
يركز السيناريو، الذي يُنسب إلى سيلبي وأرونوفسكي، على أربع شخصيات: الأرملة الوحيدة سارة غولدفارب (إلين بورستين)، التي يبدو أن حلمها بالظهور في إعلان تلفزيوني هو ارتباطها الوحيد بالحياة، وابنها هاري (جاريد ليتو) مدمن الهيروين الحالم بالنجاح، وصديق هاري وشريكه في المخدرات تيرون (مارلون وايانز)، وصديقة هاري ماريون (جنيفر كونيلي)، التي قدم لها والداها كثيرًا من المال ولكن لم يمنحاها الحب. هذا البؤس كافٍ لأكثر من فيلم واحد، وأرونوفسكي، الذي يكسر السرد بحِيَل ذكية، يفعل كل شيء باستثناء تحقيق الخلاص لأيٍّ من شخصياته، حيث إنه يعتمد على «مونتاج الهيب هوب» من الناحية الأسلوبية، ليمزقنا، ويحافظ على اهتمامنا. في هذه العملية، يستخدم الشاشة المقسمة، والقَطع المفاجئ، والإيقاع السريع. والنتيجة النهائية هي فيلم يتكشف مثل مجموعة من الصور والأصوات والهواجس التي تعلق فيها شخصياته، بعضها آسر للغاية وبعضها الآخر تراجيدي. ومع عدم وجود بطل واحد، فإن هاري هو الشخصية المحورية التي تربط بين الموضوعات الأربعة: سارة هي والدته، وماريون هي صديقته، وتيرون هو صديقه وشريكه التجاري.
تعيش سارة والدة هاري بمفردها، وتقضي أيامها في مشاهدة التلفزيون. تأمل سارة، بعد أن خدعها الحلم الأمريكي وغسل دماغها، أن تظهر في برنامج الألعاب المفضل لديها، لكنها، أولًا، تحتاج إلى إنقاص وزنها لتتمكنَ من ارتداء فستانها الأحمر. من أجل هذا، تزور بنفسها الطبيب الذي يصف لها وصفة طبية، ولكن سرعان ما تصبح مدمنة على حبوب الحمية، وتخرج حياتها عن نطاق السيطرة، ومن هنا تصبح مهووسة بشخصيات البرنامج حتى أصبحت تراهم في غرفة معيشتها، وينتهى بها الأمر في مصحة للأمراض النفسية. يهبط أرونوفسكي بجميع شخصياته إلى الجحيم، فلا يتحقق أي نوع من الخلاص، وبرغم ارتباطهم بالعائلة والصداقة والحب، العزلة الصارخة لكل شخصية لا يمكن اختراقها بسهولة عن طريق الحب أو الإيمان أو الرصانة.
أثناء تعاطي هاري المخدرات مع صديقه تيرون وحبيبته ماريون هربًا من الواقع، تلمع في رؤوسهم فكرة بيع الهيروين، للارتقاء في العالم تجّارًا للمخدرات، ولكنهم يتعاطون كل المخدر ويغرقون في نهايات مروعة. تُصاب ذراع هاري بالغرغرينا، وتأخذ ماريون جسدها الجميل، بسبب تأخر هاري عن جرعتها على إثر إصابته، في رحلة مهينة إلى الدعارة. بالنسبة إلى النساء، اقتصاد الشارع جنسي بوضوح، حيث تحصل على الهيروين بأبشع الطرائق الممكنة؛ فبدلًا من بالمال، ستقايض جسدها بالمخدرات. هكذا، توافق ماريون على ممارسة الجنس الجماعي مع النساء في غرفة مليئة بهتاف رجال. الذكريات المنهكة لهذا الحدث تدمرها، بحيث أصبحت تتعاطى الهيروين في شقتها، لا لتجربة الابتهاج، بل لمحو صور الانحطاط التي تطاردها.
يصور أرونوفسكي صورًا قريبة جدًا للهيروين أثناء طهيه، وغليه، ودخوله في الوريد، ثم مروره إلى الجسم. تتكرر اللقطات المقربة لتَوَسُّع حدقة العين والأصوات نفسها على نحو متكرر في مشاهد قصيرة متناوبة لكل شخصية. توفر هذه الصور عروضًا مرئية حية ومرعبة للإدمان، فيما تقدم في الوقت نفسه دليلًا صارخًا على سيطرة الهيروين على العقل والجسد والقدرات الأخلاقية. هذه الصور بمثابة وثائقي عن الرعب الخالص. تتفكك شخصياتنا الأربعة الرئيسة من خلال عملية التحول إلى مدمنين بحثًا عن السعادة والشهرة والمجد الزائف. شعور الوحدة الفردية يخنق كل الشخصيات وينهش أحلامها. يُحاصَر مدمنو أرونوفسكي كلٌّ منهم في كآبة ذاتية، وتُغيّرهم تجارب الهيروين جسديًا وعقليًا واجتماعيًا. في النهاية، يتم بتر ذراع هاري بسبب الغرغرينا، ويُنتهك جسد ماريون وتُدنّس صورتها الذاتية عن نفسها، ويُسجَن تيرون.
هاري وماريون وتيرون هم ثلاثة أشخاص من الناس العاديين، الذين بدا لهم الحلم الأمريكي والنجاح بعيد المنال، وأن إمكانية تحقيقه تتأتى بالانخراط في تجارة المخدرات، وبيع نزاهتهم لتحقيق ذلك. هذا السعي لتحقيق ذاك الحلم نفسه، حتى بالنسبة إلى الأم سارة، ليس أمرًا عديم الجدوى فقط، ولكنه مدمر للذات، حيث يقضي على كل شيء في حياتهم.
سينما الجسد
يروي فيلم «المصارع» (2008)The Wrestler حياة المصارع الخيالي راندي روبنسون «ذا رام» (ميكي رورك)، الذي كان واحدًا من أكثر المصارعين إثارة وشعبية في الثمانينيات. يبدأ الفيلم بعد عقدين من تلك الأيام المجيدة، حيث يتحول راندي إلى ظل باهت. يخوض نجم الثمانينيات نزالات صغيرة رغم معاناته الصحية الواضحة، ويعيش في مقطورة داخل غابة بالكاد يدفع إيجارها الشهري، ويُضطر للعمل لساعات إضافية بدوام جزئي في سوبر ماركت، ويخضع للسلوك المهين لرئيسه، ولعل الأسوأ من ذلك، أن يتم الاعتراف به من قِبَل أحد المعجبين به سابقًا. لا أصدقاء، ولا عائلة: هكذا يرسم أرونوفسكي صورةً محزنة لمقدار الوحدة التي يعانيها رجل كان فيما مضى معبود الجماهير والمعجبين ووسائل الإعلام وألعاب الفيديو. وكما هو الحال في أفلام أرونوفسكي، فإن الهوس بالمجد والشهرة والرغبة في العودة إلى اللعبة لا يمكن التخلص منه بسهولة دون ضريبة مهلكة.
بشكل خاص، ارتبط أُفول نجم ميكي رورك بهوليوود أكثر منه في قصة المصارع. كان رورك أحد أكثر الممثلين الواعدين في الثمانينيات، وقد استنفد نفسه في سلسلة من الاختيارات السيئة للأفلام، والتي تُوجت في مطلع التسعينيات بفشله، ومن ثم تخلى عن التمثيل ليمارسَ مهنة الملاكمة، الأمر الذي وفّر على أرونوفسكي بذل أي جهد لإظهار شخصيته بهذه الصورة، لأنه كان يلعب دور نفسه. وبرغم أدواره الثانوية، طوى النسيان ميكي رورك، ولهذا السبب كان اختيار أرونوفسكي لرورك، النجم الذي أهملته «الصناعة»، بمثابة مخاطرة، ولكنها مخاطرة مستحقة، إذ قدّم رورك أداءً استثنائيًا وخالدًا في مسيرة السينما الأمريكية بأكملها، وليس خلال مسيرته فقط.
يتعامل كل فيلم من أفلام أرونوفسكي مع الموضوع الرئيس وهو الهوس، حيث يؤرخ كل فيلم أنواعًا مختلفة منه. يدور فيلم «باي» حول الهوس المباشر بالأرقام والأنماط، ويصور فيلم «قداس الحلم» الهوس العميق بالإدمان والنشوة والمجد، ويُبرِز فيلم «البجعة السوداء» الهوس بالكمال. هكذا تتكرر الثيمة ذاتها، في حين يتناول في فيلم «النافورة» الهوس الوجودي بالفناء والميتافيزيقا. وعلى غير أفلامه السابقة، يتخفف أرونوفسكي من الحِيَل البصرية التي ميزت فيلمَي «قداس حلم» و«باي»، ويتعامل مع هوس أكثر ارتباطًا بالمصارع، ذاك الهوس بالماضي الذهبي، بالمجد الضائع، بالصورة الشابة من نفسه، وها هو الآن قد صار عجوزًا لا مكان له في العصر الحديث.
بعد مباراة واحدة، أصيب روبنسون بنوبة قلبية واضطر إلى الخضوع لعملية جراحية، وبعد ذلك أخبره طبيبه أنه عليه التوقف عن المصارعة. أثناء محاولته اتخاذ قرار بشأن الامتثال أو المخاطرة بحياته ومواصلة مباراة العودة، نرى سعيَهَ إلى التقارب مع ابنته التي تركها في طفولتها ستيفاني (إيفان راشيل وود) وعلاقته الشخصية مع المتعرية كاسيدي (ماريسا تومي). عاش راندي على الإثارة والهتاف والتشجيع والقتال، وعشق بقية معجبيه، أولئك الذين يتذكرون مباراته الكلاسيكية، ولكنه الآن بحاجة إلى جهاز تنظيم ضربات القلب أكثر من حاجته إلى مباراة أخرى. لذلك يحاول إعادة الاتصال بابنته. في غياب ضجيج الجمهور، يدرك راندي مدى فراغ حياته. إنه لا يريد أن يموت متشردًا وحيدًا غير محبوب في مقطورة معزولة.
تعيش أيضًا صديقته كاسيدي سنوات أُفول مجدها، حيث يطالب عملاؤها الشبان براقصةِ تعرٍّ أصغر سنًا. التشابه بين مسارات سيرتهما الذاتية ووضعهما الاجتماعي يُولّد التفاهم المتبادل والتعاطف. يكسب كل من كاسيدي المتعرية ورام المصارع عيشهما من جسديهما. جسداهما بمثابة فنّهما، ولكن بمرور الوقت والعمر يصبحان مهددَين، حيث باتا من الماضي، وهي إشارة سيناقشها أرونوفسكي كثيرًا وسيعود إليها في أفلامه اللاحقة عن رفض المجتمعات الحديثة لكبار السن. تُحقِق استعارة «آلام المسيح» التي تخبره بها بام: «يقول المسيح: لا بد أن نصاب بجروح لتُغفر لنا خطايانا وتمحي شر أعمالنا، العقاب دائمًا سوف يجلب لنا السلام، وبالجراح يكمن شفاؤنا»، مقاربةً دينية بين عذابات المسيح والمصارع الجريح والمصلوب في كل قتال. ونظرًا لوضعهما الاجتماعي المشترك، يقدّر راندي رفقة المتعرية ونصيحتها له بإعادة التواصل مع ابنته ووضع حدٍّ لمسيرته القتالية.
في واحدة من أكثر اللحظات تأثيرًا يعترف رام لابنته قائلًا: «أردت فقط أن أخبرك أنني الشخص الذي كان من المفترض أن يعتني بكل شيء. أنا الشخص الذي كان من المفترض أن يجعل الأمور على ما يرام للجميع. لم ينجح الأمر على هذا النحو. ورحلتِ. لقد تركتكِ. أنتِ لم تفعلي أي شيء خاطئ. حاولتُ أن أنساكِ. حاولت التظاهر بأنكِ غير موجودة، لكني لا أستطيع. أنتِ فتاتي. أنتِ فتاتي الصغيرة. والآن، أنا قطعة لحم قديمة مكسورة.. وأنا وحيد، وأستحق أن أكون وحيدًا. أنا فقط لا أريدك أن تكرهيني». وبعد ذلك، تمنحه ابنته فرصة لإعادة ترميم علاقتهما، حيث يتّفقان على اللقاء في نهاية الأسبوع، لكنه يتخلف عن موعده بسبب إفراطه في الخمر، فتقول له ابنته: «لا أريد رؤيتك مرة ثانية، لا أريد رؤيتك، لا أريد سماعك، لقد انتهيت». ومن ثم تطرده. ترفضه ابنته، ترفضه صديقته كاسيدي، ويتخلى عنه جسده. وتبعًا لهذا، يبدو إغراء القتال جذابًا أكثر من أي وقت مضى، فيعود إلى جمهوره وحلبة القتال مرة أخرى، ليخوض مبارزة مع جسده العجوز وقلبه المنهك. وعلى عكس الغُرَز التي يستخدمها المسعفون لتقطيب الجروح الجسدية التي يتلقاها في الحلبة، فإن جروح راندي العاطفية أصعب بكثير في الشفاء.
يسعى رام، الضعيف جسديًا ونفسيًا، إلى الخلاص، ولكن ليس من خلال إعادة التواصل مع ابنته أو الارتباط بكاسيدي، بل عن طريق الجمهور، فهو لا يشارك في الحلبة من أجل القتال فحسب، بل لأن هذا المكان هو ما يجعله يشعر بأنه حي. أخيرًا، تأتي فرصة لواحدة من أكثر المباريات شهرة في حياته المهنية مقابل مبالغ كبيرة من المال. بالنسبة إلى رجل مُنع للتو من دخول مقطورته المتهالكة بسبب تأخره في دفع الإيجار، ورفضه من قِبَل ابنته وصديقته، وإنذاره من طبيبه، فهذه هي الفرصة المناسبة للعودة إلى القمة، ولكن من غير ضمانات صحية مؤكدة. تسارع كاسيدي إلى كواليس الحلبة لإنقاذه من خوض هذه المباراة، فيخبرها بأن «المكان الوحيد الذي يؤلمني هو بالخارج هناك، العالم لا يهتم بأمري»، وتخبره هي: «أنا هنا فعلًا، ماذا تدعو ذلك؟»، ولكنه سرعان ما ينجذب إلى هتاف الجماهير. قبل بدء المباراة، يتوجه راندي إلى الجمهور الذي سيشهد نهاية الفيلم المفتوحة، من دون أن نعرف إذا كان سيعيش أم لا، بالقول: «أريد أن أقول في هذه الليلة إنني في غاية الامتنان لوجودي هنا. كثيرٌ من الناس أخبروني بأني لن أصارع مرة أخرى، وهذا كل ما أفعله. تعرفون، إذا كنتَ تعيش حياة صعبة ومباراة صعبة، عليك أن تدفع ثمن ذلك. في هذه الحياة يمكن أن تخسر كل ما تحب، وكل مَن يحبك. الآن لا أسمع أي شيء جيد كما اعتدت، وأنسى أشياء، ولم أعد جميلًا كما كنت من قبل. لكن اللعنة، لا أزال أقف هنا فأنا "الضارب"، وبينما يمر الوقت، يقولون: "لقد ضعف، وانتهى، وهو فاشل، وقد انتهى أمره"، ولكن أتعرفون ماذا؟ الوحيد الذي يقول لي إنني انتهيت، هو أنتم أيها الناس، لأنكم عائلتي، أحبكم، شكرًا».
ٱلام الجسد والروح.
«في لحظة ما، قبل صناعة «المصارع» The Wrestler، كان هو و«البجعة السوداء» Black Swan فيلمًا واحدًا عن العلاقة بين مُصارع وراقصة باليه، وحين بدأ العمل في التطور والتشكّل اكتشفتُ أن عالمَيْ المصارعة والباليه أكبر من احتوائهما في فيلم واحد، فقررت الفصل بينهما، لذلك حلمي أن بعض دور العرض يمكنها مستقبلًا أن تعرض الفيلمين كجزئين متتابعين»1.
يعتبر بعض الناس المصارعة أدنى الفنون -إن كانوا يسمونها فنًا- ويعتبر بعضهم الآخر الباليه الفن الأعلى، لكن ما يبعث على الدهشة هو مدى تشابه المؤدّين في كلا العالمين. كلاهما يصنعان شيئًا لا يُصدَّق باستخدام أجسادهم للتعبير عن أنفسهم. يبدأ فيلم «البجعة السوداء» في الحلم، ومع انتقال المشهد الأول من المسرح إلى غرفة نينا (ناتالي بورتمان)، نكتشف اهتمام أرونوفسكي بإخراج حيرة البطلة بين الأحلام والواقع. يركز أرونوفسكي على هذه الازدواجية ليس لتصوير معارضة صارمة، بل ليقترح أن شخصيتها البريئة يجب أن تستوعب شخصيتها الشريرة، من أجل أداء شخصيتَي البجعة البيضاء والبجعة السوداء في معالجة جديدة لرائعة تشايكوفسكي «بحيرة البجع». تحصل نينا بعد طول انتظار على الدور الرئيس، لكنها تفتقر إلى شهوانية وعفوية الشخصية البديلة للدور. يبدو التحدي الأكبر لشخصية نينا المأخوذة تمامًا بهاجس الكمال، أن عليها أن تؤدي بأقصى إتقان وبراعة شخصيتَي البجعة البيضاء والسوداء. يحاول ليروي (فنسنت كاسيل) إطلاق عواطف نينا، خصوصًا حياتها الجنسية المكبوتة، لتوجيهها إلى أدائها، لكن لا يزال من الصعب إقناعها. وهكذا، أصبحت نينا مهووسة بفكرة أن ليروي سيختار شخصًا آخر من الراقصات ليحل محلها، مثل ليلي (ميلا كونيس)، التي يبدو فهمها للحياة الجنسية سهلًا بالمقارنة مع نينا.
في المنزل، تعامل والدة نينا المستبدة (باربرا هيرشي) ابنتها كطفلة هشة ستنكسر تحت الضغوط، مما يشير إلى مشكلات نفسية سابقة تجعل من نينا غير قادرة على الاعتماد على نفسها. تظهر خدوش على ظهر نينا، ونتوءات تحت جلدها. بعض هذه العلامات الجسدية متخيَّلة، وبعضها الآخر ليست كذلك. مع تقدمها في دورها، يسيطر جنون العظمة لدى نينا، وتتوقع الخيانة عند كل منعطف، مما يدفعها إلى قرارات عنيفة ومدمرة للذات. ولكن بما أن كل ما نراه يأتي من وجهة نظر نينا، فلا يمكننا أن نثق بأعيننا، بل يجب أن نثق فقط في كيفية ربط الفيلم لنا بذكاء بحالة نينا العقلية، رغم أنها قد تكون في حالة هلوسة تامة. يجسد المصور السينمائي لأرونوفسكي -ماثيو ليباتيك- الحيرة المظلمة لنينا عبر الكاميرات الرقمية المحمولة باليد مع خفة حركة تشبه حركة الراقصات. كثيرٌ من «الحركة» تَحدُث على وجه نينا، حيث تكشف كل حركة تقوم بها عن شعور آخر بعدم الأمان أو الخوف. الكاميرا تترنح وتقفز وتدور، وفي بعض المشاهد، يبدو الأمر كما لو أن الكاميرا تُقذف على المسرح مع الممثلة ناتالي بورتمان.
يحمل مشهد النهاية ثيمة مشابهة لفيلم «المصارع»، حيث يكابد البطل آلامًا جسدية ونفسية، ففي حالة رام بطل «المصارع» كان قلبه سيتوقف من التعب ولكن خاض النزال على أي حال، أما في حالة نينا في «البجعة السوداء» فإنها تغالب ألم قطعة زجاج أصابتها في البطن وهي في حالة هلوسة، وفي الحالتين، ينتهي المشهد النهائي للفيلم بهتاف الجماهير، من دون أن نعرف إذا ما سيعيش البطلان أم لا.
العجز في المجتمعات الحديثة.
«المصارع»، من نواحٍ عديدة، قصة مناهِضة لعودة كبار السن، ويسلط الفيلم، بطريقته الخاصة، الضوء على النبذ الذي يمارسه المجتمع على كاسيدي الراقصة ورام المصارع. يواجه الاثنان رفضًا اجتماعيًا وعليهما استغلال كل لحظة من مكانتهما المهمشة ووضعهما الاجتماعي حتى لا يُنبذان نهائيًا حينما يكبر عمرهما. يستحضر أرونوفسكي الثيمة نفسها في المَشاهد المبكرة في فيلم «البجعة السوداء»، حيث تستنكر إحدى الراقصات عودة الراقصة «بيث» لأنها كبيرة بالسن، وتقول: «لن يأتي أحد لمشاهدتها». تدافع عنها نينا بالقول: «هذا مؤسف، فبيث راقصة في غاية الجمال». ترد الأخرى باستحقار: «نعم، كذلك جدتي» وترد نينا: «فاونتين رقصت وهي في الخمسينيات من العمر». أما سارة في فيلم «مرثية حلم»، وهي الأكبر سنًا من جميع شخصياته، تنتهي بالجنون. يبرز أرونوفسكي إشكالات المجتمع الغربي الحديث تجاه كبار السن والعاجزين والمهمشين، ويثبت لنا بشكل أو آخر أن الغرب يستخدم كبار السن فقط لضمان أصواتهم في الانتخابات، لكنه في الحقيقة لا يبدي حيالهم أي اكتراث. وهكذا يسيطر كابوس العجز الجسدي على جميع شخصيات أرونوفسكي في أفلامه الأربعة: «قداس حلم» (2000)، «المصارع» (2008)، «البجعة السوداء» (2010)، وأخيرًا «الحوت» (2022).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1.دارين أرونوفسكي – مقابلة مع (2010) MTV