كنتُ قد دونتُ في أحد الأزمنة التي كنت بها متحررًا من المؤثرات العاطفية رأيًا يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ. كتبت: الحب غير المكتمل الأركان، لا سيّما ذلك الذي لا يمتلك رؤية مستقبلية، لا تجتمع به رزانة العقل ولا رشد القرار، هو حالة إنكار وسموم أفكار، والسيئ في ذلك كله هو أنه خارج عن إرادتنا، إذ تأخذنا دروب أقداره الظرفية صوب الغباء رغم ما نتسم به من دهاء. ولعلي قد قسوت قليلًا في تشبيهه بالغباء؛ هو أقرب للعمى المؤقت لبصيرة أجهرها الوهج المخفي للحقائق الكثيرة، ولكنني اتهمته بصفة بديلة بغرض توبيخ ذاتي كوسيلة وقائية تقيني شر تكرار التجارب الفاشلة.
فالحب الصادق بالنسبة إلى الشخص العاطفي لا يتكرر كالتجربة الدونجوانية التي تستمر دائمًا في رحلة البحث عن بديل محطِّمة القلوب من خلفها، فـ«دون جوان» يعاود فكرة التجريب كون فعله لم يكن مرتبطًا بالحب، بل وبعض المفكرين يعتقدون أن تكرار محاولاته تعبر عن العجز في الحب، كما أنه يُعتبر نموذجًا لعوبًا غير محدَّد الجنسية في أمثلتنا هنا.
وهذا ما حصل في فيلم «500 يوم مع سمر» المقتبَس من تجربة المؤلف الحقيقية مع حبيبته، الصادر عام 2009، فمنذ البداية ستشدّك الرسالة التنبيهية التي قد تُشعرك بخيانة مبطونة. تقول الرسالة: «القصة في الفيلم خيالية، أيُ تشابُه مع أشخاص أحياء أو أموات هو صدفة محضة. والكلام موجه لكِ خصوصًا يا جيني بيكمان، أيتها العاهرة».
إلا أن الفيلم لم يتناول الخيانة ولا العهر، ولكنه تناول شر اللايقين البغيض، وحالة التوافق المؤقتة بين الاحتياجات الجسدية والمشاعر الوجدانية، وهذا التنافر قال عنه باومان: «الحب بطبيعته يسعى إلى إدامة الرغبة، وأما الرغبة فطبيعتها تهرب من قيود الحب»، حيث تحضر البطلة سمر بهيئتها الحيوية المستفزة من البداية مجسِّدةً الرغبة، مقدِّمةً فكرة الصداقة ذات المنفعة لزميل عملها الخجول توم الذي كان بحاجة إلى أن تملأ حياته حبًا، متملصة بعرضها من المسؤوليات والتبعات التي قد تحصل، وكأنها قد دأبت على هذا التنقل المسبق بشروطه غير الآمنة، ليقع توم في شباكها مباشَرةً وذلك بعد أن يتشارك معها في بعض الهوايات السطحية، كالإعجاب بالفرقة الموسيقية نفسها والأغنية نفسها، وهذا يطابق ما وصفته كاثرين جارفي في صحيفة الغارديان الأسبوعية، شارحةً لحظة الوقوع في الحب، قائلة: «تلتقي أعينكما عبر غرفة مزدحمة، تشتعل شرارة الجاذبية، تتجاذبان أطراف الحديث، ترقصان، تضحكان، تتناولان الشراب أو تمزحان وفي طرفة عين يسأل أحدكما الآخر: "عندك أم عندي؟"، ولا يُلقي أي منكما بالًا لِما قد يحدث ولكن بطريقة أو بأخرى قد تتحول ليلة واحدة إلى أسبوع ثم إلى شهر وإلى سنة أو أطول. وتلك هي النتيجة المفاجئة لتَوَهُج الرغبة الجنسية التي تخمدها ليلة واحدة».
وهكذا رسم البطل توم أحلامه برفقة سمر المختلفة عنه بتوافق يستطيبه وكأن لسان حاله يقول: تزوج من يتفق معك على نقطة ويختلف معك بالتعريف، من يجتمع معك بقاعدة ما. أوجِد نظيرك بتشابه، فإن كان ذا فكر مثلك ستجد مُتّسعًا لوجهات النظر، وإن لم يكن فبالعادات، لكون مَن لا يمتلك فكرًا لن يتبنى تقاليدَ دخيلة. هناك دائمًا تشابه تقبل به تطلعاتنا، فالاختلاف التام نهاية غير مأسوف عليها، والنهاية لهذا الاختلاف، محفز على الانعتاق، فمن لا يجد نقطة اتفاق عند الاختصام، لن يجد سببًا واحدًا ليستكمل الالتزام!
لعلي توهمت الحديث -الخارج مني- أعلاه على لسان البطل توم، متوهمًا كعادتي أسباب الارتباط، فكما قال صديق لي مفندًا ببساطته ومن دون فذلكة: ليس كل من يتفق معك على حب عصير الرمان يشبهك!
وهذا ما يكشف عنه الفيلم، بعد أن افترق الصديقان، فقد اتضحت الفروقات العاطفية في اختلاف محاولة المضي قدمًا، حيث حضرت عملية التعويض السريعة من قِبَل الطرف النفعي الدونجواني الذي تشكل في شخصية الصديقة سمر، ليبقى البطل توم الذي كان يتوق لجدية العلاقة الوطيدة وليس للمعاشرة الجنسية فحسب، حبيسًا وعالقًا في ذكرياته معها، في حين كانت سمر تعيش حياتها على اتساع، غير مكترثة لتخبطات صديقها الطامع الذي افترقت عنه مُطبِّقةً كل ما فنّدته سابقًا، مثل إقبالها على الزواج من شخص آخر وقع اختيارها عليه على نحو عبثي، لم يتسنَّ لها حتى معرفته تمامًا، فكما تقول في إحدى اللقاءات التي جمعتها مع توم بالصدفة وبتصرف: ما جمعني بزوجي حديثٌ عن كتاب!
وهذا الفعل كانت قد استنكرته سابقًا مع توم، وهذا ما زاد إحباطه أكثر، ليستحضر إثر ذلك أحداثًا منفصلة، بعضها حادٌّ رغم قصرها، ولكن أغلبها كان حميميًا وهذا ما كان يعذبه، رغم أنه حاول أن يُقنع نفسه في أكثر من مشهد بالكراهية، التي حضرت كما لو كانت وعيًا مفاجئًا؛ كان يعيب من شكلها وطباعها لدى أصدقائه بل وظهر وهو يشتمها مستحضرًا كافة مثالبها الجسدية، ساخرًا من أسنانها المعوجة وقَصّة شعرها الستينية ورُكبتيها المدورتين والوحمة التي أصبح يشبّهها بالحشرة على رقبتها، مطبقًا قاعدة مارتن هايدغر التي تقول: «إن الأشياء لا تكشف عن نفسها للوعي إلا عن طريق الإحباط الذي تسببه، أي إفلاسها، اختفائها، ومخالفتها لِما هو متوقع منها، أو عدم وفائها بوعودها».
وهذا الفعل من توم في محاولة لكره صديقته التي يعشقها بغرض طردها من ذكرياته أشبه بفعلة جويل الذي قام بدوره الممثل جيم كيري، في فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف» من كتابة تشارلي كوفمان، المشتق عنوانه من قصيدة للشاعر ألكسندر بوب المستلهمة من قصة حب مخذولة والتي يقول فيها: «ما مدى سعادة الراهبات الطاهرات؟ نسوا العالم والعالم نسيهم، إشراقة أبدية للعقل الطاهر. قُبِلتْ كل الصلوات، ورُفِضتْ كل الأمنيات».
يحاول جويل في الفيلم محي ذكريات حبيبته كليمنتين التي انفصل عنها بصورة كيدية بعد أن علم أنها لجأت هي بدورها وبمحض أنانية خالصة إلى عيادة مختصة لتمحي وجوده من ذاكرتها، لتعود إلى الحياة بصفاء ذهن الراهبات بالقصيدة أعلاه. قال للطبيب المسؤول وهو يبرر مسح وجودها: هي ذكية ولكنها ليست متعلمة، لا يمكنني الحديث معها عن الكتب، تقرأ المجلات، مفرداتها تترك شيئًا ما مفقودًا، إنها خدعة متقنة فحسب، الطريقة الوحيدة التي تعتقد كلمنتين أنها تجذب بها الناس هي أن تمارس معهم الجنس أو على الأقل تعطيهم إمكانية أن يروها تمارسه، هي بائسة وغير آمنة بحيث إنها عاجلًا أم آجلًا ستمارس الجنس مع كل الرجال!
وعلى الرغم من هذا المبرر الكاذب، يحضر الحب في هذا الفيلم رغم الاختلاف التام بين البطلين اللذين لا يكفان عن اللجوء إلى فكرة محي ذكرياتهما وحبهما لبعضهما بغرض الارتياح من الماضي، فكما قال الدكتور الذي لجأ إليه جويل قبل الشروع بالعملية: هناك لب عاطفي لكلٍ من ذكرياتنا وعندما نستأصل هذا اللب تبدأ عملية التحلل، وعندما تصحو في الصباح، كل الذكريات المستهدفة ستذبل وتختفي كالحلم الذي لا يمكنك استحضاره!
وأثناء العملية التي تتطلب من جويل أن يتم تنويمه وأن يتجول في ذكرياته، يقع في حب حبيبته كليمنتين مجددًا -أثناء رقاده- ليحاول إنقاذها من كل ذكرى ملغمة زرعها الطبيب كفخٍ لها، مفندًا كل ما قاله حيال كرهها، قافزًا من مكان إلى آخر من ماضيه مجترًا إياها من يدها، منقذًا إياها من ممسحة الطبيب، ليخبئها حتى في ذكريات طفولته التي يشعر حيالها بالخزي، وكأنها هي أفضل مكتسبات حياته التي تستحق الاكتناز، معاودًا تجربته الحسية وسط بيئة ديستوبية تتهاوى بها العوالم وتُطمس بها الملامح. تتداعى الذكريات كأوراق أشجار الخريف، ويقتنع جويل بضرورة إعطاء حبه لها فرصة جديدة، رغم التوجس الذي كان يُذكّرني بأبيات البردوني التي قال فيها: «نطير إلى الآتي ونخشى غيوبه، نفر من الماضي، ونهفو إلى الرجعى».
ينتهي بهما الحال بعد أن يئسا من الفرار، في منزل من الذكريات، كان يمثل نواة مشروع إعجابهما ليعبر كلاهما عن أسفهما على ما تسببا به لبعضهما، لتترسخ جملة «ارجع وودعني على الأقل» التي قالتها كليمنتين وهي تشاهد جويل يركض هاربًا من تاريخه الذي تعب من الاستمساك به، ليطفو وجودها من بين ذرّات الذاكرة، كما لو كان ينفض غبار زمانه.
ولعل المشهد الأخير للمنزل المتهدم قادني لمشهد من فيلم الخيال العلمي «اِزْدِراع» الصادر عام 2010 للمخرج كريستوفر نولان، من بطولة ليوناردو دي كابريو، البطل الذي كان يزرع الأفكار في أحلام الآخرين مستغلًا اللاوعي بداخلهم محققًا المستحيلات، ولكنه عجز رغم احترافيته كلها عن أن ينتزع وجود زوجته المتوفاة على الواقع من عقله الحالم، حتى قرر في إحدى المهام التي كادت أن تؤول بالفشل أن يتجاوزها ويتخلص من ذكرياته معها كارهًا، في مشهد متطابق مع نهاية فيلم تشارلي كوفمان، حيث أخذ المَسكنُ الذي جمعهما يتصدع ويتشرخ ويتهاوى، مع كل مواجهة لزوجته في الحلم، كصراع يظهر به الحب المستمسك بالماضي السحيق، وهو يتقوى أخيرًا، مختلقًا لذاته عملية انتزاع عوضًا عن الازدراع، فكما يقول ليفيناس: «الحب علاقة مع ذات أخرى، مع المجهول، مع المستقبل، مع الغائب عن العالم الذي يحوي على كل ما هو كائن، فعاطفة الحب تكمن في الازدواجية المنيعة التي يتسم بها البشر».
كثيرة هي الأفلام التي تغذي بواقعيّتها الهشاشة والكابوس المزعج والشعور بعدم الأمان، وكثيرة هي الأفلام المتغذية على النظرة الحالمة مثل «في مزاج للحب» للمخرج وونغ كار واي، وثلاثية المخرج ريتشارد لينكليتر، ولكن تبقى برأيي الأفلام المذكورة أعلاه -رغم فانتازية بعضها- هي الأكمل في تناول هذا الشأن، كونها تناولت الحب وهو يتجول على جرف الهزيمة، وهو في حالة تفكك صادمة، وهو يتحول إلى الملجأ غير المؤتمن، ملتصقًا بالتسلط الذي يتفوق على قدرتنا على المضي قدمًا ولا يقبل إلا بالخنوع لذكرياتنا التي لن تتكرر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش