الطموح السينمائي في السعودية لا يعرف الحدود، جهود كبيرة وخلاقة تُبذل في سبيل أن تكون الصناعة السينمائية في المملكة رائدة في المنطقة والعالم، بالرغم من كل التحديات التي تواجهها كصناعة ناشئة لم تكمل عقدها الأوّل. وقد توّجت هذه الجهود على مستويات مختلفة بنجاحات هامّة، لم يكن الوصول إليها ممكناً بدون الشغف الكبير بالسينما الذي يحرك كل الفاعلين في هذا الوسط نحو تقديم أفضل ما لديهم.
في سياق هذه الجهود، جاء مشروع «بيت السينما»، أوّل سينما فنّية دائمة في المملكة، بهدف تقديم منصة لعرض الأفلام الفنية من جميع أنحاء العالم، ولتكون وجهة يلتقي تحت سقفها الجمهور وصناع الأفلام لتبادل الآراء والخبرات والأفكار حول السينما.
المشروع الذي دشنه المنتج والموزع السينمائي السعودي «فيصل بالطيور» بدعم ورعاية الصندوق الثقافي، بدأ كفكرة صغيرة قبل عدّة سنوات، فيما كان يتنقل بين دول العالم، ويشاهد التجارب المختلفة من مختلف الثقافات شرقاً وغرباً، ويراوده الحلم بأن يصنع شيئاً مشابهاً على أرض الوطن، مدركاً للمساحة الكبيرة التي تتوفر في سوق السينما السعودية لمشروع يحمل هذه الرؤية، نظراً للاهتمام الواسع لدى شريحة كبيرة من المجتمع بالأفلام الفنية التي تقدم رؤى تختلف في النوع والشكل عن محتوى السينما التجارية.
بين السينما الفنية والتجارية، والتحديات التي تواجهها صناعة السينما في السعودية على مستوى الاستدامة والعوائد المادّية والقدرة على اجتذاب الجمهور، وفي إطار الحوار المهم حول الأسلوب الذي يجب أن تسير عليه الصناعة السينمائية، بين الأفكار التي تدفع باتجاه مزيد من البساطة لصناعة أفلام تجارية تصل إلى الجمهور بسهولة، والأفكار المضادة التي تهيمن على الوسط وتنتج أفلاماً أقرب لصناعها من الجمهور، أتى مشروع «بيت السينما»، ليقدم رؤية جديدة تتمثل في المزج بين التجاري والفني، ولتسويق مفهوم جديد عن نوع الأفلام التي يمكن اجتذاب الجمهور إليها.
في «ميم السينمائية» منذ اليوم الأول كان لدينا تصوّر بأهمية حضور السينما الفنية على جميع المستويات ونشر ثقافتها مجتمعياً، ويأتي خبر افتتاح «بيت السينما» في قلب اهتمامنا.
احتفاءً بهذا المشروع الناشئ حديثاً، واحتفاءً بالفن السينمائي في المملكة بصورة عامّة، حرصنا على استضافة الأستاذ فيصل بالطيور في حوار كاشف لجوانب المشروع، نشأته، الأفكار التي تحركه، وأبرز التحديات التي تواجهه، وما هي التطلعات التي يضعها القائمين عليه أمامهم لبلوغها وتحقيقها.
منذ سنوات وأنت تعمل في مجال التوزيع والانتاج السينمائي، وقدّمت أفلاماً تجاريّة وفنّية على حدٍ سواء، فمتى تشكّلت لديك فكرة تدشين سينما فنّية تقدّم أفلاماً محليّة وعالمية لها طابعٌ خاص؟
فيصل بالطيور:
بالرغم من إيماني بأهمية الأفلام التجارية لتحقيق الاستدامة في الصناعة السينمائية، إلا أنني دائماً أميل إلى الأفلام الفنية وأعي أهميتها في سياق الثقافة السينمائية بشكل عام.
مضت سنوات طويلة، منذ أن بدأت بالسفر إلى خارج المملكة، وتحديداً رحلتي إلى أستراليا في عام 2008، حيث كنت أرتاد الكثير من السينمات الفنية، ثم تكرر الأمر في بريطانيا، والولايات المتحدة، وفرنسا وألمانيا، والعديد من الدول الأخرى، رحلات جاءت في وقت كنت أفتقد فيه وجود السينما بشكل عام في المملكة خلال تلك الفترة، والسينما الفنية على وجه الخصوص. في عام 2017، ولله الحمد، عادت حركة السينما في المملكة للدوران من جديد. وقد سعدت، آنذاك، بإدارة سينما مركز الملك عبدالعزيز الثقافي (إثراء)، التي يمكن اعتبارها أول سينما فنية في المملكة، وكنت حينها أدرك بشكل أكبر مدى أهمية وجود سينما من هذا النوع، لأنني لمست شغف الجمهور إلى الأفلام الفنية. وكنت أرى بأن عدم وجود سينما فنية دائمة في الرياض هو تحدي بالنسبة لي على المستوى الشخصي، فمبادرات عرض الأفلام الفنية في الرياض، كانت دائماً مؤقتة وتنتهي بنهاية الفعالية. وبرغم أننا، في هذه الأثناء، قد حاولنا عبر «سينيويڤز» تقريبَ السينما الفنيّة بشكل أكبر، من خلال عرض ما يقارب الـ65 فيلمًا سعوديًّا، تنوعت بين الفيلم القصير والروائي الطويل، إلا أن هذه المحاولات كشفت لنا عن الحاجة للتخصص في السينما الفنيّة؛ وهكذا وُلدَ «بيت السينما».
فكرة مشروع «بيت السينما» نشأت لديك منذ فترة طويلة، والإعداد لها حتى ترى النور تطلّب الكثير من الوقت والجهد، نودّ أن تضعنا في صورة هذا العمل الذي قمتم به بالتعاون مع الصندوق الثقافي؟
فيصل بالطيور:
مشروع «بيت السينما»، بكل تأكيد ولد قبل سنوات، كفكرة وحلم وطموح مستقبلي. غير أن البداية الفعلية كانت منذ سنتين ونصف، منذ أن بدأنا محادثاتنا مع الصندوق الثقافي، الجهة التي تشاركنا الاهتمام بالمشروع، نظراً لوعيهم لأهمية وجود السينما الفنية. وهنا بدأ التحدي الحقيقي لإنشاء عالم مختلف وفريد، يحتفي بالأفلام الفنية، ويحتفي بالمواهب والسينمائيين، يجمعهم، وتكون له روح مختلفة.
كان هذا بالتأكيد طموحنا على الورق، لكن تنفيذه تطلب جهدًا ووقتًا مضاعفين، أكثر مما كنا نتخيل، فقد تواصلنا مع 5 شركات تصميم لوضع تصاميم لهذه السينما. وبكل أسف لم نوفّق للحصول على تصميم يمثل الروح التي نطمح إليها. لذا قمنا بتحويل الجهود داخلياً للعمل على تصميم خاص بنا. وضعنا رؤية شاملة تضع في اعتبارها كل التفاصيل، من أثاثٍ، واختيارٍ للمقاعد، وأنظمة الإضاءة والألوان، وعملنا عليها بعناية حتى نصل إلى الشكل الذي يرضينا، ونتمنى اليوم أن يلاقي استحسان الجمهور.
أما من الناحية التقنية، فالأمر كان أسهل إلى حد ما، حيث أن التقنيات متعارفٌ عليها، ولا علاقة لها بالجوانب الذوقية. حرصنا أن تكون جميع شاشات «بيت السينما» الثلاثة محققة لأعلى معايير الجودة العالمية. صورة العرض تمّ اعتمادها لأن تكون بدقة وضوح 4K عبر أحدث أجهزة العرض بالليزر، وعلى مستوى الصوت فقد وفرنا نظام «دولبي أتموس» بتقنيات الصوت المحيطي، حتى نبلغ أفضل التجارب السمعية والبصرية في قاعات السينما حول العالم.
الصناعة السينمائية في المملكة تواجه تحدّياتٍ كبيرة على المستوى المادي، فمن واقع خبرتك، كيف يمكن لمشروع السينما الفنيّة أن يحقق الأرباح حتّى يصبح مستداماً؟
فيصل بالطيور:
نعم، صناعة السينما السعودية تواجه تحديات كبيرة على المستويين المادي والفني، ويأتي هذا رغماً عن مبادرات الدعم الكبيرة من القطاعات الحكومية والخاصة التي تتظافر لدعم هذه الصناعة، «بيت السينما» على صعيد آخر، هو مشروع سينمائي بطبيعة مختلفة.
من المعروف عالمياً أن السينما الفنية ليست مدرّة للأرباح كما هو الحال مع السينما التجارية، إذ يتم دعمها من خلال الصناديق الثقافية أو وزارات الثقافة والسياحة أو البلديات أو ما شابه لضمان استدامتها. ولهذا عدةُ أسباب: منها أنها مخصصة للسينمائيين الذين قد يصنعون أفلاماً فنية وتجارية تساهم مساهمة حيوية ودائمة في الحراك السينمائي، فكثيرة هي أسماء المخرجين السينمائيين العالميين الذين بدؤوا من السينما الفنية، انطلاقا من انتاج الأفلام القصيرة ثم الأفلام الفنية الطويلة وانتهاءً ببروزهم كأفضل الأسماء العالمية في صناعة الأفلام التجارية التي تحظى بوزن فني كبير، ولسنا بحاجة لأن نعدد هذه الأسماء، فلدينا جيمس كاميرون، ومارتن سكورسيزي، وكريستوفر نولان، لدرجة أن أفلامهم صارت تدرس، فالسينما الفنية هي داعم لصناع الأفلام وصناعة الأفلام بالدرجة الأولى، وهي محفز وقيمة ثقافية، تبين ازدهار هذه المنطقة أو هذا البلد بالمكونات السينمائية والثقافية فيه، من خلال المشاريع المختلفة، وهذا كان طموحنا من البداية في بيت السينما، بوضع مثال مختلف، مثال يكون جاذب سينمائياً، وثقافياً، وسياحياً على حدٍ سواء في قلب الرياض.
تلقّى المهتمّون بالسينما في المملكة وخارجها خبر تدشين "بيت السينما" بحماس بالغ، كيف استقبلتم ردود الأفعال المختلفة، وهل كانت متوقعة بالنسبة لكم؟ وهل تضعكم هذه الحماسة تحت الضغط؟
فيصل بالطيور:
بصراحة، كنا قد توقعنا حماسة المهتمين بالمجال السينمائي وردود فعلهم؛ إلا أن ما تلقيناه من ردود فعل وحماسة وابتهاج فاق سقف توقعتنا بمراحل. بل، وقبل الإعلان حتى؛ فمن سمع عن إعدادنا للمشروع -قبل سنة ونصف أو سنتين- كان يتابع معنا باستمرار وإلحاح. إن هدفنا هو تلبية طموح هذا الجمهور، وفي الوقت نفسه نحاول قدر الإمكان خلق جمهور جديد، بحيث نحببه ونعرفه على السينما الفنية وأبعادها بالشكل اللائق.
أعلنت عن عددٍ من الأفلام سيتزامن عرضها مع تدشين «بيت السينما»، نودّ أن تشاركنا جزءً من خططكم المستقبلية للأفلام التي ترغبون بعرضها، وهل هناك تصوّر لأن يكون النشاط السينمائي في «بيت السينما» تفاعلياً، بحيث يتيح للجمهور المشاركة في عملية اختيار الأفلام؟
فيصل بالطيور:
نعم، بالنسبة للأفلام التي أعلنا بأنها ستتزامن مع تدشين بيت السينما، حرصنا أن تكون من ثقافات مختلفة، وفي نفس الوقت أعمال لها احتفاء أو حققت انجازاتٍ كبرى، مثل الأعمال التي تم ترشيحها أو فازت بجوائز الأوسكار، أو الأعمال التي وصلت إلى أكبر المهرجانات العالمية مثل مهرجان كان السينمائي ومهرجاني فينيسيا وبرلين الدوليين وغيرها. أيضاً حرصنا أن تكون الأفلام من مختلف الدول حول العالم، ثمة أفلام من اليابان، وكوريا، وإيران، ومن أوروبا، والعالم العربي، وكذلك أفلام من المملكة العربية السعودية، أفلام لم يشاهدها الجمهور السعودي بصورة عامة، وجمهور الرياض على وجه الخصوص.
وبالتأكيد تحقيق التفاعل الإيجابي مع الجمهور هو مسألة محورية بالنسبة لنا، وقد قمنا بوضعها كأحد أسس البرمجة السينمائية في «بيت السينما»، ولهذا قمنا بتكوين فريق البرمجة من الشباب السعوديين الذين يعيشون في الرياض، للمساهمة في برمجة الأفلام التي تعرض في «بيت السينما»، لأنهم أقرب من الجمهور السينمائي. وبالفعل، قد لاحظنا، في لفتة بديعة على وسائط التواصل الاجتماعي، تفاعل الجمهور بُعيد التدشين؛ حيث وصلتنا طلبات لعرض أفلام بعينها. الجميل في الأمر أن بعض هذه الأفلام قد اقتُرحت مسبقًا من فريق البرمجة لدينا قبل ذلك بشهر أو شهرين، وهذا يعني أننا نسير على الطريق السليمة في سبيل تلبية تطلعات جمهور «بيت السينما».
ستقومون، كما أُعلِنَ ضمن خطط مشروع «بيت السينما»، بإقامة ورش وجلسات حوارية تتزامن مع عرض الأفلام؛ فما الأهداف المبدئية التي وضعتموها لهذه الجلسات؟ وهل نتوقع منكم استقطاب نقّاد محليين وعالميين لإثراء تجربة المشاهدة السينمائية؟
فيصل بالطيور:
بكل تأكيد، ورش العمل والجلسات الحوارية، هي محور هام ورئيسي ضمن خطة أنشطة بيت السينما، فنحن لا نستهدف عرض الأفلام فقط، وإن كان هذا هو النشاط الأساسي لنا، إلّا أننا نستهدف أن يصبح بيت السينما منصة للتفاعل بين صناع هذه الأفلام والجمهور.
سيكون لدينا العديد من الأفلام التي تعرض بحضور صناعها سواءً كانوا سعوديين أو أشقاءَ عربًا أو عالميين، ومن الآن بدأت التحضيرات لأسابيع مخصصة لعرض أفلام من دول بعينها مع الإعداد لاستضافة الصناع بشكل متزامن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش