«هل يمكن اكتشاف شيء فني في العِلم؟» ربما يبدو أن هذا السؤال يكتسب مشروعيته من صرامة العلم المتمثلة في منهجياته وقواعده التي قد لا تتناغم مع الفن والذي بدوره يكتسب دهشته من الخروج عن المألوف في أغلب الأحيان. لا يميل عالِم الفيزياء الشهير «ستيفن هوكينغ» إلى الرأي الذي يقول بأن أفلام الخيال العلمي قد تستشرف شيئًا ما جديدًا في العلم، ويعتبرها أعمالاً تستند في مجملها إلى اكتشافات موجودة من قِبل العلماء، ولكن هذا ليس دور السينما المعروف، فليس عليها اختراع شيء علمي، وإنما على الأغلب البحث عن الأماكن التي يُفترض أن تكون مدهشة ولم يُسلَّط الضوء عليها بَعدُ، وهكذا الأمر عند مشاهدتنا فيلم «بين النجوم» (2014) فإذا نظرنا إلى القواعد الفيزيائية التي استند إليها الفيلم، سنلحظ أنه لم يقدّم سوى نظريات يعود اكتشافها إلى زمن سابق تقريبًا -رغم أهميتها في علم الفلك- لتصير وظيفة الفيلم البحث عن الجزء المفقود فيها، وهو العالَم المحتمل ما إذا أسقطنا هذه النظريات الغريبة عليه.
يتناغم العلم في الفيلم مع حياة أسرة «كوبر» ويتخلل حتى أعمق النقاط الشاعرية فيها، فاسم الفتاة «مورف» نسبة إلى قانون «مورفي». ترى مورف أن والديها قد سموها باسم ذي معنى سيئ، تخبر أباها بذلك فيوضّح لها أن قانون مورفي لا يعني شيئًا سيئًا، فالقانون ينص على أن «أي شيء بإمكانه أن يسير في الاتجاه الخاطئ، سوف يسير في الاتجاه الخاطئ»، وتمتد هذه الحوارات إلى فك شفرة مورس من قِبَل الطفلة وحبهما للفيزياء معًا.
يُحْسَبُ للفيلم أنه أورد أحداثه في البدء على شكل استفهام: «ما مصير الحيوات الإنسانية البسيطة من هذه الإجابات الكونية؟» يعتقد كوبر مع زوجته التي رحلت أنهم لم يوجدوا إلا ليصيروا ذكريات لأطفالهم؛ إذن إن البشريين يصغرون أمام الكون وتصير الحياة التي أولوها جل اهتمامهم أقل من أن تصير ذات معنى. لا يجيب الفيلم عن هذا السؤال، بل يطرحه بكامل قساوته وواقعيته، فأجواء الفيلم متوتّرة ومغبرّة والشخصيات قليلة والزحام المعتاد على الأرض غير موجود نهائيًا وكذلك الحرائق التي نشبت في مقربة من نهاية الفيلم، ليصير كل هذا عبارة عن إيحاءات على الوضع القائم من تدهور المقوِّمات الطبيعية في كوكب الأرض.
ونحن هنا ما زلنا في البداية، فالمأساة، مع كل دورة زمنية للفيلم، تتفاقم إمكانية تحمُّلها، فوكالة ناسا ستطلب من كوبر أن يقود مركبة فضائية، وهذا الحدث في الفيلم يوقع المتفرج في فخ الإثارة، هي إثارة سوداوية وانتظار أمل لقلق وجودي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فتتداخل التقنيات العلمية كالمختبر والمركبة الفضائية وتفاصيل الجاذبية مع وهج الإثارة الفنية، إنه إذن التحام مع قطبين يصعب التوفيق بينهما: العلم والفن.
حسب نسبية أينشتاين المُثبتة علميًا، فكل ساعة سيمضيها كوبر وزملاؤه من فريق الفضاء تعادل سبع سنوات في الأرض بسبب الجاذبية، وهي ليست فكرة عادية حسب ما سيفصح عنه الفيلم، إذ إن هناك حيوات أخرى في ذلك الكوكب الصغير المدعو الأرض، وكلما قضوا ساعات أكثر سيعيش البشر في الأرض سنوات أكثر، إنها إذن مقاربة أقل ما يقال عنها إنها مخيفة، فقد استطاع «بين النجوم» أن يُخرج النظرية من بُعدها النظري إلى واقعها السينمائي لكشف الآثار المترتبة عليها من جهة، ومن جهة أخرى عرض التساؤل لكيف ستبدو حياتنا ما إذا تحققت النظرية. استفاد هذا العرض بما يمده الفضاء من لوحات بصرية تصنعها الكثافة الهائلة للنجوم ذات الألوان المتعددة والتي لا تخلو من دهشة، وهي نفسها التي حاول البشر فهمها سابقًا عن طريق العلم، ليصبح العلم والفن دخيلين يمران من باب الفضاء المشترك، ولا يتزاحمان بل يستعين كلٌ منهما بالآخر لتكملة الصورة الحيوية للنظريات الفيزيائية التي حتى وإن بُسطت كما فعل «ستيفن هوكينغ» وغيره معها، لن تستطيع إضافة الحيوية للفكرة كما ستفعل السينما، و«بين النجوم» بالأخص.
ويبدو أن الفيلم يشجع نفسه مع المتفرج لتجربة ذلك الخيار: «ساعة مقابل سبع سنوات»، وهو دافع يميل إلى الفضول متناسيًا قلقه الوجودي، والفضول علمي وفني في الوقت نفسه؛ إنه صفة مزدوجة تجمع العالِم والفنان، وعندما يستجيب الفيلم لهذا الخيار تحصل ذروة الفيلم وتتحول الإجابة إلى تراجيديا لا يمكن وصفها سوى بأنها من ضمن أجمل القطع السينمائية، يتقنها «ماثيو ماكونهي» إلى حد التماهي مع قصة لامعقولة ويستحيل تقمص دورها، ليصير «ماكونهي» ممثلاً في هذا العمل للإنسان.. ليس الإنسان المكتشف والفضولي فحسب، بل القادر على اختلاق حيوات لم يعشها، وهو إذن الخيال الفائق للإنسان نفسه الذي صنع به السينما ومضى قدمًا في العلم.
حقق الفيلم مُفارقة فنية بين كوكب يعيش أفراده سبع سنوات مقابل ساعة في كوكب آخر، فالزمن في هذه الحالة والذي تثبته نسبية أينشتاين يبدو مخيفًا إذا افترضنا أن أبناءً من جنسنا البشري يعيشون هناك ويرتبطون بالأرض، والمفارقة مساحة أعطت الفيلم إمكانية لإثارة الدهشة التي لا تقترب من الرعب أكثر من الاندهاش، الاندهاش المحايد الذي لا يمكن منحه صفة السلبية أو الإيجابية، لتصير جملة مثل «الزمن مجرد وهم» التي قالها يومًا أينشتاين لتعزية أبناء عمه في وفاة عمهم، جملة محققة في هذا الفيلم، فالزمن يرتبط بالمكان لا بالساعة، والساعة تشير إلى المكان لا إلى الوقت.
لا يتوقف الفيلم هنا، بل يَعتبر -استنادًا إلى نظريات فيزيائية- أن الزمن بُعد آخر مادي «ويمكنك النزول إلى الماضي»، لتصبح الجملة الشهيرة والبسيطة «ليت الزمان يعود يومًا»، أو غنائية أم كلثوم «قول للزمان ارجع يا زمان» موضوعًا قابلاً للتحقيق، فالفيلم يصنع جسرًا بين التمنيات الإنسانية البسيطة -المستحيلة- عن عودة الزمن وبين واقع مبني على الفيزياء الحديثة، فالصورة السينمائية التي استفادت من العلم استطاعت تحقيق كل الأمنيات المستحيلة دون أن تفقد جمالية الفكرة وهي تنتقل من جانب الدماغ الذي يختص بالخيال إلى الجانب الآخر الذي يختص بالحقائق.
تقول «براند» بعد أن قضت ساعات قليلة مقابل 23 سنة: «اعتقدتُ أني مستعدة لذلك. كنت أعرف النظرية، لكن الحقيقة مختلفة تمامًا»، وهكذا قامت السينما -بسماتها المعتادة بالتخيل وكذلك تجسيد هذا الخيال في واقع لا يقل أبدًا عن الواقع الحقيقي، خصوصًا وإن كان يستند إلى نظريات فيزيائية مثبتة علميًا كما هو الحال في هذا الفيلم- باختبار النظرية النسبية وتقاطعاتها مع الحياة الإنسانية البسيطة وهمومها كالأطفال، كما هو الحال بالنسبة إلى كوبر، والعائلة بالنسبة إلى براند.
لم تذهب بنا مَشاهِد الفيلم كثيرًا إلى الأرض، هناك حيث قضت عائلتا كوبر وبراند 23 سنة، بل انحازت لما هو مفاجئ، وَجرَت المَشَاهد متابِعة لكوبر الذي يقضي ساعات فقط على أحد الكواكب ويعود لينتظر مع المتفرج -الذي كان ضمنيًا معه في هذه الرحلة- كل الذكرى التي تؤرخ لثلاث وعشرين سنة. وهكذا كبرت مورف الصغيرة خلال ساعات فقط، ليجرب كوبر (ماكونهي) شعورًا لم يسبق لأي بَشَري تجريبه.
ينتقل الفيلم إلى ما يُعرف في الفيزياء بالأبعاد، حيث الزمن هناك بُعد ثابت ويمكن لكوبر التسلل إلى كل لحظة في الماضي، وهكذا لم يقم الفيلم باستعراض لتبسيط الفيزياء، بل تغلغل داخلها واقترب من النظريات الصارمة والمادية ليُخرج منها ما هو فني، بغض النظر عمّا إذا كان تراجيديًا أم كان مفرحًا، فلا فرق بالنسبة إلى الفن بين تناوله للمأساة أو الفرح، فكل معنى خلاله سَيُحوَّل عن طريقه إلى مناظِر سينمائية محتملة وعجيبة بالنسبة إلى المتفرج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش
1. الثقوب السوداء، ستيفن هوكينج، ترجمة: مصطفى إبراهيم فهمي.