من منا لا يعرف قصة «بينوكيو» صاحب الأنف الطويل الذي كلما كذب طال أنفه؟ لا يوجد أحد منا لم تُحكَ له تلك القصة في صغره أو حكاها هو للأطفال آملًا أن يتعلموا منها التمسك بالقيم الإيجابية والبعد عن العادات السلبية وأولها الكذب، ولذلك أصبحت قصة «بينوكيو» تشبه الأسطورة، وهذا يعود لما دار حولها من شعبية عالية.
كُتبت «مغامرات الدمية بينوكيو» في عام 1883م وهي من تأليف الإيطالي «كارلو كولودي»، ويقال إن قراء بينوكيو في إيطاليا فقط تخطوا 35 مليون طفل، ما جعل إيطاليا تشتهر بأدب الطفل، وأصبحت القصة مشهورة عالميًا وكادت تكون أسطورة في شعبيتها كما ذكرنا سلفًا، وتم تحويلها إلى أعمال سينمائية عديدة منها «بينوكيو» من إنتاج «والت ديزني» عام 1940م و«بينوكيو» -فيلم خيالي موسيقي أمريكي- عام 2022م من إخراج «روبرت زيميكس»، وسيناريو وتأليف «زيميكس» و«كريس ويتز»، ومن إنتاج شركة «والت ديزني بيكتشرز»، وهو مقتبس من فيلم الرسوم المتحركة لعام 1940م. وفي العام نفسه -2022م- أطلقت منصة «نتفليكس» Netflix فيلم رسوم متحركة من إخراج المكسيكي الشهير «غييرمو ديل تورو» كما أنه شارك في كتابة السيناريو مع «باتريك مكهيل» و«ماثينو روبنز»، وقام بالتمثيل كلٌّ من: «إيوان مكغريغور»، «ديفيد برادلي»، «غريغوري مان»، كما شارك «مارك غاستافسون» في الإخراج، وحصد الفيلم جائزة الأوسكار لأفضل فيلم رسوم متحركة لعام 2022م.
ومن يعرف «غييرمو ديل تورو» يعرف أنه ليس بالمخرج العادي، بل على العكس تمامًا، فقد اشتهر «ديل تورو» بالأفلام المميزة التي لها طابع فلسفي ورؤى واسعة مختلفة، وهذا ما نراه في فيلم الرسوم المتحركة «بينوكيو ديل تورو».
على الرغم من أنه فيلم موجه للأطفال في المقام الأول، استطاع «ديل تورو» حَبْكَ بعض الرؤى الفلسفية والفنية، بالإضافة إلى الآراء الإنسانية وعلامات التمرد وعلاقة الآباء بالأبناء وما تفعله الحرب في حياة الناس، فهل أجاد «ديل تورو» في وصفته السينمائية حين صنع فيلمًا يحمل كل تلك القضايا والرؤى؟ هذا هو ما نحاول تفكيكه وتحليله في هذا المقال.
كيف رسم «غييرمو ديل تورو» شخصيات فيلمه؟
يعيد «غييرمو ديل تورو» تصوير القصة الكلاسيكية الشهيرة للدمية الخشبية «بينوكيو» التي دبت فيها الحياة من خلال رؤية جديدة ممزوجة بموسيقى مذهلة وسيناريو بديع، يبدأ الفيلم بتقنية stop motion -تحريك الرسوم باستخدام الإطارات الثابتة المتعاقبة- ويأخذنا صوت راوٍ ليسرد بداية حياة «جيبيتو» وابنه «كارلو» وتلك الحياة المثالية التي كانا يعيشانها. «جيبيتو» صاحب حرفة النحت المشهور في بلدته الصغيرة في إيطاليا، والذي كرس حياته كلها لابنه بعد وفاة زوجته، وفي إحدى اللقطات نجده يحكي لابنه قصة ما قبل النوم، فيقول: «لا تكذب وإلا سيطول أنفك أكثر وأكثر» في إشارة لما نحن في صدد الحديث عنه، ألا وهو أسطورة «بينوكيو»، وفي يوم عادي ترمي إحدى الطائرات أثناء الحرب العالمية الأولى قنابلها لتخفيف أحمالها، فتسقط على الكنيسة وداخلها «كارلو» وخارجها «جيبيتو» الذي لا يتبقى له من ابنه الصغير سوى ثمرة الصنوبر التي كان يمسكها في يده وطارت منه بعد الانفجار.
يدفن «جيبيتو» ابنه الوحيد ويدفن بجانبه ثمرة الصنوبر، التي تصبح فيما بعد شجرة كبيرة، ويصيب «جيبيتو» الحزن والكآبة ويصبح سكّيرًا، وفي إحدى لحظات غضبه يكسر الشجرة وهو يتمنى أن يصنع ابنه مرة أخرى، وعندما يذهب إلى البيت يصنع دمية. في تلك الليلة، تدخل إحدى الجنيات وتمنح الحياة لتلك الدمية من أجل تخفيف الحمل على «جيبيتو» الحزين، وتقول لتلك الدمية أن تكون ابنًا له وأن يكون هو -«جيبيتو»- أبًا لها، وفي الصباح يستيقظ «جيبتيو» ليجد الدمية التي صنعها تتحدث وتجري هنا وهناك وتناديه قائلة: «بابا.. بابا». يندهش «جيبيتو» ولا يقبلها بسهولة، ونجد تخبُّط الدمية هنا وهناك وسؤالها عن كل شيء كما هي عادة الأطفال: «ما تلك؟» «ساعة» «وما هي الساعة؟ وما فائدتها؟» وغيره وغيره..
نجد «ديل تورو» قد بدأ بما قبل القصة الشهيرة -أي ما قبل وجود «بينوكيو» أصلًا- في محاولة لتبرير وجود «بينوكيو» والحاجة لهذا الوجود، من خلال إيمان «ديل تورو» بالأساطير وتدخُّل العوالم الأخرى في الحكايات ذات الطابع الأسطوري، كما أن موت «كارلو» ذاته كان إشارة من «ديل تورو» لعبث الحروب بالناس حينها، بحيث تسقط القنابل بغرض تخفيف حمولة الطائرات فقط! ولا يهتمون بالبلاد والقرى التي ستسقط عليها تلك القنابل.
راوي الفيلم هو «سيباستيان»، صرصور متنقل يحب الكتابة والتدوين، يعيش في شجرة الصنوبر التي تتحول لتصبح الدمية، وتوصيه الجنية في لحظة تحويل الدمية أن يساعد تلك الدمية ويكون مرشدًا لها، في مقابل تحقيق أمنية من اختياره في نهاية الرحلة.
وجود الصراعات في رحلة «بينوكيو»
بدأ «ديل تورو» بخلق أكثر من صراع حقيقي في حياة «بينوكيو» الفتى الخشبي -كما يطلق عليه أهل القرية- وإذا أردنا توضيح تلك الصراعات نجد الأول صراع التقبّل، وهو عدم تقبّل أهل القرية لـ«بينوكيو»، وذلك يبدأ من أول ظهور له في الكنيسة، فهناك من يسميه مسخًا وهناك من يقول إنه الشيطان، كما أنهم يتذمرون ويغضبون من «جيبتيو» لأنه متمسك به، وفي لقطة مهمة نجد «بينوكيو» مع «جيبيتو» في الكنيسة أثناء استكمال «جيبيتو» لمنحوتة السيد المسيح. يسأل «بينوكيو» أباه: لماذا يحبه أهل القرية -في إشارة إلى المنحوتة- ويكرهونه -«بينوكيو»- على الرغم من أن الاثنين مصنوعان من الخشب؟ وهذا دليل على أن «ديل تورو» لم يكفّ عن وضع الإشارات أيًا كانت.
أما الصراع الثاني فهو متمثل في علاقة الأب بابنه، وعدم تقبّل «جيبيتو» لاختلاف «بينوكيو» الذي يمثّل فكرة عامة وطرحًا قائمًا، ألا وهو ضرورة طاعة الأولاد للآباء، وعدم تقبّل كثيرين من الآباء لاختلاف أبنائهم، بسبب الخوف عليهم تارة والخوف من المجتمع تارة أخرى، فنجد هذا متمثّلًا في أكثر من موضع، أهمُّها طلب «جيبيتو» أن يذهب «بينوكيو» إلى المدرسة، والقول له إنه يريده مثل «كارلو» وإنه صُنِع ليكون مثل «كارلو». في البداية يتحمس «بينوكيو» لأن يكون مثل «كارلو» حتى يطفئ نار أبيه ويكون محبوبًا لديه مثل «كارلو»، لكنه في النهاية يسأم من الأمر ويقول له إنه لا يريد أن يكون مثل «كارلو» في ثورة على إطار معين يريد «جيبيتو» أن يضعه فيه، ومن ثم يستيقظ «جيبيتو» فلا يجد «بينوكيو»، فيخبره «سيباستيان» أنه ذهب للعمل في المهرجان بهدف إرسال المال له لحل المشكلات المادية التي أوقعه فيها، ولكي يرتاح الأب منه. في تلك اللحظة يفيق «جيبيتو» ويقرر البحث عن «بينوكيو» لكي يقول له إنه يحبه كما هو، في إشارة للعلاقة المعقدة التي توجد أحيانًا بين الآباء والأبناء.
الصراع الثالث من الممكن أن نطلق عليه صراعًا في مواجهة الاستغلال من قِبَل «الكونت فولبي»، صاحب مهرجان مسرحي يقدم عروضًا للدمى يريد استخدام «بينوكيو» لأنه من المبهر وجود دمية متكلمة بين الدمى التي يجب تحريكها، كما أنه يَعِد «بينوكيو» بتحقيق أحلامه الطفولية، ثم يكذب عليه ولا يحقق أهدافه ولا يرسل المال لأبيه، والاستغلال الثاني من قِبل «بوديستا» الذي يريد استغلال الدمية التي لا تموت في الحرب لتكون جنديًا فاشيًا لا يهزمه الموت، ليجعله فداء لـ«موسوليني» ولإيطاليا، فنجد الإشارات السياسية كامنة في الفيلم بشكل كبير، فعند دخول «بوديستا» الكنيسة على «جيبيتو» وهو يعمل على منحوتته ويلقي عليه تحية «موسوليني» المعروفة، يريد «جيبيتو» أن يرد له التحية بسرعة كبيرة فتطير من يده فرشاة بها لون أحمر كان يرسم بها الدم على تمثال المسيح الخشبي، لتسقط الفرشاة على قدم «بوديستا» الممثّل للنظام الفاشي، وكأن قدمه مملوءة بالدماء! ثم نرى صراع «بوديستا» مع ابنه عندما يتّحد مع «بينوكيو» ويعصي حديثه حتى يكاد يقتل ابنه في إشارة لجحود هؤلاء السادة حينها وتسلّطهم، لدرجة تجعلهم يأخذون الأطفال والمراهقين لتجنيدهم إجباريًا في الجيش.
أما الصراع الرابع فنجده أثناء ابتلاع وحش البحر لـ«جيبيتو» و«سيباستيان» أولًا ثم «بينوكيو»، ومحاولة إنقاذ «بينوكيو» لهما عن طريق حيلة يقوم بها، وهي استمراره في الكذب لكي يكبر أنفه ليصبح جذع شجرة كبيرًا ليتسلّقوه ويخرجوا من أنف هذا الوحش الهائل، فينجون من تلك الأزمة، ومن هذا الصراع ننطلق لصراع آخر ألا وهو تضحية «بينوكيو» بالحياة الأبدية لكي يعود وينقذ أباه من الغرق، وبعدها يموت «بينوكيو»، إلا أن «سيباستيان» يستغل أمنيته عند الجنيّة ويتمنى أن يعيش «بينوكيو» مرة أخرى، وبالفعل يعود «بينوكيو» ويعيش مع أبيه وأصدقائه حياة سعيدة حتى يودعهم واحدًا تلو الآخر ويعيش بمفرده في نهاية الأمر.
يبدو الفيلم أعمق من الأفلام التي تُقدَّم للأطفال، ربما لأن رؤى «غييرمو ديل تورو» كانت واضحة فيه، رؤى جعلت من «بينوكيو» أسطورة حقيقية وملموسة جوارها لمسات إنسانية عميقة، وعلاقات معقدة، وسياسة قاسية، وحروب دامية، وتلك هي السينما، مرآة الواقع وأفق الخيال العالي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش