النقد

بلاغة السينما الصامتة في الفيلم الجورجي «جزيرة الذرة»

نحتاج إلى جُزر تجنبنا حروب اليابسة، لكن إن أنقذتنا الجزر من حروب البشر هل سننجو من غضب الطبيعة؟!
«جزيرة الذرة» (Corn Island)، فيلم جورجيّ، عُرض في 2014. في رصيد مخرجه «جورج أوفاشفيلي» ثلاثة أفلام تتناول بعضها موضوع الحرب من منظور غير مباشر، كما هو حال هذا الفيلم الذي يغلب عليه الصمت، ما عدا سبعة مشاهد تقريبًا موزعة على ساعة وأربعين دقيقة وهي مدة الفيلم. شخصيات الفيلم محدودة ويشار إليها بالصفة لا بالاسم: الشيخ، الفتاة، الجندي، الضابط الأبخازي... ويؤدي الدورين الرئيسين «إلياس سلمان» بدور الشيخ و«مريم بوتروشفيلي» بدور الفتاة.
يبدأ الفيلم بتمهيد مكتوب: «مع سيل الربيع السنوي، يجرف نهر إنغوري التربة والحجارة من جبل القوقاز إلى البحر الأسود مخلفًا وراءه جزرًا صغيرة. تعتبر هذه الجزر نعمة للفلاحين الذين يتركون ضفاف الأنهار الرطبة من أجل تربة الجزيرة الخصبة. يمكنهم زراعة ما يكفي من الذرة بين فصليّ الربيع والخريف ليطعموا عائلاتهم خلال فصل الشتاء الطويل. فقط في حالة كانت الأجواء مناسبة لذلك». يصف هذا التنويه المكتوب ظاهرة طبيعية ويُخفي – مضافًا إلى قصة الفيلم في الواجهة – دلالات عن تطويع الإنسان للطبيعة وصراعه معها، وقصة أخرى في الخلفية، بتقنية «خارج الحقل»، عن صراع البشر ضد بعضهم.

الجزيرة، واحة سلام واستراحة مُحارب

المكان الرئيس جزيرة صغيرة وسط نهر، أرضها منبسطة وجرداء، ثم وهي مزروعة بالذرة بواسطة الشيخ وحفيدته. وفي الهامش ثمة يابسة، مخفية بالأحراش، وتبدو لمن ينظر إليها من الجزيرة كغابة تخفي صراعًا بين خصمين. ولجوء الشيخ والفتاة إلى الجزيرة وزراعتها، ثم الجندي الروسي المصاب، ومرور الجنود الجورجيين للشرب، يجعلها أشبه بواحة سلام واستراحة مُحارب.
تبدو الجزيرة آمنة، لكن سرعان ما يبدأ النهر بمناوشات على أطرافها، يعالجها الشيخ والفتاة بحاجز من القش للحيلولة دون انجراف التربة. تستمر مناوشات الطبيعة بموازاة مناوشات غير مرئية تجري على اليابسة بين البشر، وتنتهي قصة الفيلم بتحالف النهر والمطر والعاصفة في معركة تنتصر فيها الطبيعة على الإنسان، في دورة لا تنتهي عند هذا الحد، ومعركة أخرى ينتصر فيها إنسان على آخر.

دائرة الماضي والمستقبل

 يُفتتح الفيلم بشيخ وهو على متن قارب خشبي مجدفًا نحو الجزيرة. يتفحص تربتها، ثم يشرع في بناء كوخ خشبي وزراعة الذرة بمساعدة الفتاة. يعملان بصمت ويتواصلان أغلب الوقت بالنظرات. في هذا السياق يقول فران فينتورا إن «النظرة هي الجزء الأكثر تعبيرًا للجسد البشري، قادرة أن تربط من دون كلمات ما يمكن أن يكون باستخدام الكلمات حشوًا مطولًا»1 .
في البداية تعمل الفتاة بيدٍ وباليد الأخرى تمسك دمية. تعمل من دون رغبة، وكأنها مجبرة، وعلى وجهها ترتسم ملامح هي مزيج من الغضب والحزن. بمضي الوقت، واستجابةً لإكراهات الواقع الجديد، تتخلى عن الدمية وتتخفف من ثيابها التي تعيقها عن العمل، وشيئًا فشيئًا تعتاد على البيئة والحياة البرية. تمر بين الحين والآخر دورية جنود جورجيين على قارب بالقرب من الجزيرة. يكتشف الشيخ جنديًا جريحًا ممددًا بين نبات الذرة. نكتشف لاحقًا أنه جندي روسي مطارَد من قبل الجنود الجورجيين. يقوم الشيخ والفتاة بإخفائه في الكوخ وعلاجه إلى حين يتعافى ويغادر. ولأن الجزيرة صغيرة فهي معرضة للخطر، وهذا ما يحدث، ففي يوم الحصاد تسقط أمطار غزيرة وتهب عاصفة فتغرق الجزيرة.
يتمكن الشيخ بمساعدة الفتاة من إنقاذ بعض المحصول. تصعد الفتاة، ويأتي الشيخ بصندوق معدات الزراعة والنجارة ويضعه على القارب. وترحل الفتاة ويبقى الشيخ متشبثًا بالكوخ الذي سرعان ما تحطمه العاصفة ويجرفه الماء. وفي مشهد الختام، يأتي شيخ آخر على متن قارب خشبي، يقوم بفحص ما تبقى من تربة الجزيرة، وبينما هو يحفر بيديه يعثر على دمية الفتاة، يغسلها، ثم يجلس على قيدوم القارب متأملًا ما حوله.
ظهور هذا الشيخ في نهاية الفيلم يذكرنا ببداية ظهور الشيخ الأول. وبهذا السيناريو الدائري تتصل النهاية بالبداية، في إشارة إلى محاولة أخرى تلخص رحلة الإنسان على الأرض وصراعه مع الطبيعة. موت الشيخ ومغادرة الفتاة على القارب يرمز إلى تعاقب الزمن برحيل جيل الماضي وبقاء جيل الحاضر والمستقبل. لكنه مستقبل محفوف بالمجهول الذي جاءا منه وتعود إليه الفتاة لوحدها، فعلى اليابسة ما زالت الحرب قائمة، ويشير قدوم الجنود الروس إلى الجزيرة، للبحث عن الجندي قبل غرق الجزيرة، إلى أن الحرب سجال بين طرفين، مثلما هو حال الإنسان والطبيعة.

لغة الحرب ولغة السلام

نظرات الشيخ والفتاة غامضة وحزينة، ولا توجد معلومات مباشرة تفسرها أو تؤكد طبيعة العلاقة بينهما في الدقائق العشرين الأولى. ثمة حاجز يعوق التواصل بينهما يتمثل في أحد الكادرات بعمود من الظل يقطع المسافة بينهما وهما مستلقيان على الأرض. صورة وجهيهما تشير إلى ماضٍ لم نشهده وأحداث لم نطّلع عليها وربما للحرب الدائرة خارج الحقل علاقة وطيدة بها. النظرات، بحسب فينتورا: «لا تعبر عن مشاعر الشخصية فقط، وإنما أيضًا تعطينا معلومات حول ما نرى لما هو خارج الحقل. تحدد نظرة الشخصية علاقتها مع الأشياء أو الشخصيات في محيطها، تعطينا معلومات عن وجودها، تَمَوقُعِها وحركتها»2 .
تلك النظرات تشي بآثار الحرب على وجهيهما، لكن حدثًا صغيرًا سيُخرج ما في النفس من حزن وألم مكتومين. وهي تحصد الذرة، تجرح الفتاة راحة يدها. جرح سطحي يجعلها تجهش ببكاء مكتوم وهي تلعق جرحها. الجرح وقطرة الدم يكشفان عن جرح أعمق وأشد يظهر على وجهها بلغة صامتة، وسِيلتُها الدموع.
يمكن تقسيم مشاهد الفيلم إلى خطين رئيسين: أحدهما طويل ويعبّر عن السلام، وهو الظاهر في واجهة الحدث، يقطعه خط قصير يشير إلى حرب تدور في الخلفية. ولكل خط لغته وسماته المعبرة عنه، فالجزيرة والصمت والزراعة يرمزون إلى السلام، والكلام والرصاص والجنود والأحراش يرمزون إلى الحرب. وتحليل الحوار المقتضب في الفيلم سيكشف أكثر ما بين سطور اللغتين.
مشهد (الدقيقة 20)
بعد مرور ثلاثة جنود على قارب حربي، تسأل الفتاة الشيخ:
«هل هم جورجيون؟» (يهز رأسه إيجابًا).
«جدي، هل هذه الأرض – الجزيرة – ملك للجورجيين؟»
«لا. تلك الأرض لهم». (ويشير إلى اليابسة).
«ملك من هذه الأرض إذن؟»
«إنها ملك خالقها».
بعد صمت يدوم عشرين دقيقة، منذ بداية الفيلم، يكشف الحوار عن العلاقة بين الشيخ والفتاة، فهو جدها وهي حفيدته. واللافت أن حديثهما عن الجورجيين يتم بضمير الغائب، وفي ذلك تلميح إلى غربة نفسية وهوية مفقودة لعلها دفعتهما إلى الاستقرار في الجزيرة. لغتهما المحايدة، سنجدها في حوارات تالية. الحياد يعبر عن السلام بهويته الإنسانية التي لا تعترف بالحدود الجغرافية، فعلى الرغم من استقراره في الجزيرة وزراعتها بالذرة، فإنه لا يعتبرها ملكًا لأحد وإنما ملك لخالقها. والعبارة الأخيرة فيها تورية تشير إلى خالقين: ظاهريًا إلى الله، وجوهريًا إلى الطبيعة، والمقدمة المكتوبة في بداية الفيلم تؤيد المعنى الثاني. فبما أن الطبيعة هي التي كوَّنت الجزيرة، فبقاؤها أو زوالها مرهونان برحمتها أو غضبها، وهذا ما يتحقق في النهاية.
مشهد (د 55)
يسأل الجد حفيدته:
«هل أنهيت دراستك؟» (تهز رأسها إيجابًا).
«وشهادتك الجامعية؟»
«سأكون مستعدة السنة القادمة».
«لم يستطع والداك حضور حفل تخرجك. أرجو من الله أن يمد في عمري حتى ذلك اليوم».
يبدد الحوار مزيدًا من الغموض. يسود الصمت عادة بين شخصين يجهلان بعضهما، وأسئلة الجد تكشف جهله بكثير من الأمور عن حفيدته. والجملة الأخيرة تلمح إلى أنها كانت تعيش مع والديها، لكن شيئًا ما حدث اضطرها إلى العيش مع جدها، فيُحتمل أن تكون الحرب قد سرقت أبويها مثلما سرقت طفولتها وجعلتها تتشبث بالدمية. والملابس النظيفة التي تظهر بها في بداية الفيلم تشي بحالها المديني مقارنة بالاتساخ الواضح على ياقة ثوبها لاحقًا. وظهور الدمية في آخر مشهد فيه دلالة تفاؤل يؤيدها قولها إنها ستلتحق بالجامعة السنة القادمة.
مشهد (د 62)
خمس مرات هي عدد مرات مرور دورية الجنود الجورجيين بالقرب من الجزيرة وتبادل النظرات مع الجد وحفيدته. نظرات الضابط مشوبة بالشك، تقابلها نظرات مشوبة بالحذر من قبل الجد ونظرات خائفة وغاضبة من قبل الفتاة. في المرة الثالثة يخاطب الضابطُ الشيخَ:
«طاب يومك أيها الجد». (يرد الجد التحية برأسه، بلا مبالاة).
«لقد اخترت مكانًا خطيرًا لتستقر فيه». (يصمت الجد).
«هل رأيت أحدًا بالقرب من هذا المكان؟» (يهز الجد رأسه نفيًا).
«هل أنت متأكد؟» (يهز الجد رأسه إيجابًا).
«إذا لمحت شخصًا أخبرني».
اللافت أن الجد يقابل الكلام بالصمت، وصمته يُعبّر عن حالة سلام. الكلام غير مجدٍ، كما أنه مرادف للحرب. من منظور سيميائي، وبحسب يوري لوتمان في كتابه «مدخل إلى سيميائية الفيلم»، يقوم الكلام بدور نظام الاتصال الأساسي: «إنه نظام كلمي يهدف إلى الاتصال مع إنسان آخر. أما الأنظمة الأخرى اللاكلمية أو تلك التي تتشكل في دارة مغلقة فتجد نفسها بطريقة أو بأخرى مسحوقة تحت وطأة هذا النظام السائد»3. ويُعبّر الصمت عن عدم رغبة في التواصل أو عن عدم جدوى، وصمت الجد يجعل الحوار من طرف واحد. ويكشف كلام الضابط ازدواجيته، فهو يدرك الخطر الذي تشكله الجزيرة على حياة الجد، لكنه يعمى عن خطر الحرب ودورها في لجوء الشيخ إلى الجزيرة، خلافًا لمعرفة الشيخ بذلك وإدراكه أن الجزيرة هي أهون الشرين.
مشهد (د 72)
بعد تماثل الجندي الروسي للشفاء، يخرج للجلوس بجانب الكوخ. تتأمله الفتاة بطريقة تكشف عن رغبة في التواصل مع إنسان فتسأله:
«استرح قليلًا، ألست متعبًا؟» (يلتفت إليها صامتًا).
«تشعر بالحر، أليس كذلك؟»
(يرد الجندي): «لا أفهم لغتك الأبخازية…»
يعجز الكلام عن تحقيق التواصل، فتلجأ الفتاة إلى لغة بصرية يفهمها الجميع: تدلقه بجردل ماء بارد. يفهم الجندي الرسالة فيجري وراءها مبتسمًا، وتضحك هي ضحكتها الوحيدة في الفيلم. والمشهد يعبر عن لحظة طفولية بين شخصين وجدا في اللعب لغة للتواصل، وهو شاهد على حياد الفتاة وجدها وعدم شعورهما بالضغينة تجاه أحد. ويمكن مقارنة موقف الفتاة من الجندي الروسي بخوفها من الجنود الجورجيين الذين تحرشوا بها وهم على ضفة النهر.
مشهد (د 76)
يمر قارب الجنود الجورجيين مرة أخرى. يقول الضابط:
«كيف أنت أيها الجد؟» (يكتفي الجد بهز رأسه).
«ما الذي جرى؟! لا تبدو سعيدًا لرؤيتنا!» (يحرك الجد كتفيه في حيرة، فيتدخل ضابط آخر قائلًا):
«يكفي يا بوريا. لا تزعج الشيخ». (ويوجه حديثه للجد):
«أيها الجد، هل لديك شيئًا نشربه؟»
«لدي بعض النبيذ».
«بارك الله فيك».
ينزلون من القارب ويقدم لهم الجد النبيذ. يقول الضابط للجد وهو يهم بشرب النبيذ:
«هذا نخبنا». (ويضيف الضابط الآخر):
«نخبنا. أنت رجل طيب أيها الجد. مذاق هذا النبيذ طيب، هل يوجد منه كثير؟»
ولأنه قد اعتاد على صمت الجد، يشرع في الغناء وينضم إليه البقية في كورال. يصيح الضابط: «يكفي»، ثم يخاطب الجد: «فليباركنا الرب. بصحتك أيها الجد». وقبل أن ينصرفوا، يلقي الضابط نظرة متفحصة داخل الكوخ ثم يقول:
«استقريت هنا بشكل جيد، أتعرف ذلك؟» (يصمت الجد، ثم يسألهم وهم على القارب):
«ألن تخبرني عمّ تبحثون؟» (يرد الضابط):
«هرب منا الكلب. لكنه جريح، لا يمكنه الهرب، احذر سنعود قريبًا».
ندرك من خلال المشهد السابق أن مجيء الجنود إلى الجزيرة لم يكن للشراب ولكن للبحث عن الجندي. وفي المرة القادمة يأتي الروس، لكن تحذير الضابط الجورجي يدل على أن بقاء الروس مؤقت، والحرب بينهما سجال.
مشهد (د 83)
يأتي ثلاثة جنود روس على قارب، ويتضح من الحوار أنهم أصدقاء الجندي الجريح، الذي كان قد غادر الجزيرة. يسأل قائدهم:
«مرحبًا. نحن نبحث عن صديق».
(يرد الجد): «إن كنت لا تبحث عنا فأنت في المكان الخطأ».
«أهذا يعني أنك لم ترَ أحدًا هنا؟» (يصمت الجد، فيقول الضابط):
«حسنًا فهمت ذلك، مع السلامة».
يدل ظهور الروس على أنهم قد سيطروا على المنطقة. لذلك، يتَعاملَ الجد معهم مثلما تعامل مع الجورجيين، فكلهم جنود. والسيناريو الدائري يعني أن الحرب لا تنتهي، ومع أنها تدور خارج الحقل، فإنها المحرك للأحداث.
تم توزيع زمن الفيلم على الخطين – الحرب والسلام – على نحو يناسب تواترهما في الواقع، فأعطى للحرب حوالي سبعة مشاهد، وللسلام البقية، بطريقة جعلت رموز الحرب تقاطع رموز السلام. تعيدنا قصة الفيلم إلى الإنسان الأول، الذي بدأ كل شيء من الصفر. لقد أراد الجد لجزيرة الذرة أن تكون واحة سلام وسط صحراء الحرب، لكن رمالها تلاحقه من جهة والطبيعة من جهة أخرى.

الصمت البليغ في جزيرة الذرة

يجمع الفيلم المعاصر بين نوعين رئيسين من السرد: الصوري والكلمي؛ يُضاف إليهما عناصر أخرى أهمها الموسيقي. ويمكن أن تنشأ بينها روابط على درجة عالية من التعقيد. وخلو أي فيلم من الحوار والموسيقى، يعقد بناء الدلالات 4، لكن الأهم أن غياب هذين العنصرين له دلالات تحرض على الكشف عنها. ففي الوقت الذي تُفسِّر فيه الموسيقى التصويرية الصورَ المصاحبة لها، تعمل بحكم طبيعتها التجريدية على خلق إحساس بصري وصور ذهنية قد تشوش الصور التي تنقلها الكاميرا. من أجل ذلك استُعملت أصوات تصدر من مصادر عالم الفيلم نفسه: أصوات المياه والريح والطيور والحشرات والرعد والبرق، مع موسيقى محدودة جدًا في بعض المشاهد.
وحين تكون الصور حية ومصحوبة بموسيقى تصويرية من تأليف الطبيعة، تكون بألف كلمة وتحل محل الحوار. وما يدور خارج الحقل قد يبدو هامشيًا، لكنه في الحقيقة متن أو محرك الحدث. يقول فيديريكو فيلليني موضحًا أهمية ما يبدو هامشيًا:
«إن أصوات البط في المزرعة في فيلم "الاحتيال" قد تحمل رسالة أهم من كلمات الحوار القليلة. إن سماع حوار قصير من خارج المشهد يمكن أحيانًا أن يخلق جوًا، ويقدم تعليقًا، ويمكن أن يكون مغزاه أهم من مغزى حوار يجري داخل المشهد. والمثال على ذلك هو البحّار الأمريكي السكران في خلفية أحد مشاهد النادي الليلي في فيلم "حياة حلوة". إن هذا البَحَّار يصرخ من وراء الشاشة ومارشيلو ووالده جالسان هناك: "اعزفوا لحن (الطقس العاصف)!" ويكاد صراخه لا يُسمع. ويقال لي إن الجمهور الإنجليزي قادر على فهم الصرخة المنطلقة من الخلفية، وحين يفهمها يستظرفها، لأن مُطلِقها يبدو أنه في (الداخل) وأنه يعرف سرًا»5.

خارج حقل الذرة

ما ذكره فيلليني يُعرف بتقنية «خارج الحقل» أو «خارج الإطار - Hors-champ»، وهي تقنية سردية تتمثل في إخفاء درامي لحدث أو لشخصية، أو «كل صوت أو ضجة أو كلمات في الحوار تسمعها الأذن ولا تدري العين مصدرها في الصورة المرئية، أثناء العرض على الشاشة»6. ولهذه التقنية استخدامات متعددة ونتائج تعبيرية متنوعة مرتبطة بالسياق، فهي تجعل المتفرج مشاركًا أكبر وتدفعه لاستعمال خياله وذكائه؛ فيقارن ما لا يراه بما يراه، كما تتطلب من المتفرج «مستوى من الفعالية العقلية مماثلة للمستخدمة في الأدب. يصنع خارج الحقل متفرجين أذكياء، لا يحتاجون أن يأخذوا كل شيء على طبق من ذهب»7. أو كما قال تاركوفسكي: «ينبغي أن نضيف التفكير لكي نرى بشكل صحيح»، وكأن في مقولة تاركوفسكي جواب على مقولة فيم فيندرز: «أنا لا أفكر، أنا أرى»8 .
ما يدور خارج الحقل في فيلم «جزيرة الذرة» هي الحرب التي لا تظهر إلا من خلال أصوات رصاص وبضعة جنود على قارب بخاري وآخرين يظهرون على ضفة النهر مرتين وهم يتحرشون بالفتاة من بعيد.
استُعمل الحوار في الفيلم للضرورة القصوى، ليزودنا بمعلومات من شأنها إكمال الصورة، كما رأينا في تحليل الحوارات أعلاه. فالوظيفة التقليدية للحوار هي تزويد المتفرج بمعلومات حول أسماء الشخصيات وصفاتها ومكان وزمان الأحداث. «بإمكان أسماء الشخصيات أن تكون في غاية الأهمية في عملية السرد. فربما نستطيع من خلال الاسم استكشاف انتماء هذه الشخصية لعائلة نبيلة مثلًا أو أصول ما جغرافية أو عرقية»9.
وحين يكون الحوار هامشيًا فهذا يعني أن الأولوية للموضوع الذي يمكن إيصاله بالصور وبقليل من الكلام. وعدم وجود أسماء للشخصيات، يعني أنها غير مهمة، فالأسماء تتضمن معلومات هوَوِيَّة وغيابها يهدف إلى تعميم موضوع الفيلم ليشمل الإنسان. وارتباط القصة بالجغرافيا أو بزمان ومكان محددين لا يحول دون مخاطبتها للإنسان إن تمكنت من ملامسة قضاياه، وهذا ما حققه هذا الفيلم.
الحوار هو الطريقة المباشرة للمعلومات، وهناك طرائق غير مباشرة يحصل بها المتفرج على معلومات حول الشخصية، «تارة، نتيجة قوانينها الثقافية، وتارة نتيجة لقوانينها الجسدية، وتارة أخرى من خلال المعايشة الاجتماعية. إن ما هو وحيد في كل الحالات: هو الغياب الكامل تقريبًا للغة الفعلية. البحث عن أسلوب سردي مختص عن طريق الصور. إن العلاقات السببية فيما بينها تذكرنا بسلوك بدائي، محرض ومجيب، (السبب-الأثر). هذه العلاقات بين الصور هي التي تصنع أشكال المعنى السينمائي البحت»10.

سينما الحقيقة العارية

بحسب لوتمان، متحدثًا عن فيلم «سينسو» (Senso) لفيسكونتي: «لا بد من توفر قدر كبير من الثقافة للتوصل إلى إدراك وفهم فن الحقيقة العارية، هذا الذي يهدف إلى التحرر من كل النماذج السائدة للاصطلاحية الفنية. إنه فن ديموقراطي بأفكاره، لكن لغته الخاصة تجعل منه فنًا ذهنيًا إلى درجة تُدخل الضجر إلى نفس المتفرج غير المتمرس. والنضال ضد هذا الموقف يقودنا إلى إعادة الاعتبار للغة فنية ذات صفة بدائية وتقليدية متعمدة. والسينما أخذت تتجه، بعد أن بلغت ذروة الطبيعية، نحو البساطة البدائية للغات التي يعرفها المتفرج منذ طفولته»11. وهذا وصف ينطبق تمامًا على فيلم «جزيرة الذرة».
الرسالة التي يمكن استخلاصها من الفيلم: في الحرب، قد تنتصر على غيرك مؤقتًا، لكن الطبيعة تعلمك كيف تنتصر على نفسك حتى وهي تنتصر عليك في الأخير. والفارق بين الحربين أن الطبيعة لا تحمل ضغينة للإنسان، فهي إذ تقتله تحييه. والفيلم مثال على إمكانية اكتفاء السينما باللغة البصرية وعودتها إلى أصولها وقد حُمِّلت بتقنيات تَواصُل تخدم تلك الجذور. كما ينبه الفيلم إلى احتمال عودة الإنسان إلى جذوره الأولى متخليًا عن حمولته التقنية التي دمرت الإنسان والطبيعة معًا.
يذكرنا هذا الفيلم بأفلام أخرى، عن صراع الإنسان والطبيعة. أذكر منها:
Cast Away (2000)
Into the Wild (2007)
Life of Pi (2012)
Track (2013)
Hours (2013)
Wild (2014)
Against the Sun (2014)
All is Lost (2014)
وما يميز هذه الأفلام الروائية هو حضور الصورة وهامشية الحوار بدرجات تتفاوت من فيلم لآخر، مع وجود أفلام حديثة صامتة تمامًا، وبالأبيض والأسود، مثل الإسباني (Blancanieves)، الذي عُرض في 2012، والمقتبس عن قصة «بياض الثلج». وفيلم «الفنان» (The Artist)، وهو فيلم فرنسي صامت أبيض وأسود، عُرض في 2011. ومن فرنسا في عام 2013، خرج فيلم الأنيميشن الصامت (Minuscule The Valley Of The Lost Ants).
وقائمة الأفلام الصامتة – بعد ظهور الصوت – طويلة، وهي تعبر عن وفاء أو حنين لعصر السينما الصامتة، وتدل على قدرة هذه الأفلام على منافسة السينما المزودة بالموسيقى وأشكال الإبهار. والأهم أن للسينما الصامتة لغة بصرية، تختلف عن لغة الكلمات، وستظل وسيلة تعبيرية تفرضها بعض الموضوعات، كفيلم «جزيرة الذرة».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
:الهوامش

1.فران فينتورا: الخطاب السينمائي، لغة الصورة، ترجمة: علاء شنانة، منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما – دمشق، ص 29
2.فينتورا، ص 30
3.يوري لوتمان: مدخل إلى سيميائية الفيلم، قضايا علم الجمال السينمائي، ترجمة: نبيل الدبس، مطبعة عكرمة دمشق 1989، ص 88
4.لوتمان، ص 96
5.ش شاندلر: أنا فيلليني، ترجمة: عارف حديفة، المدى 2012، ص 328
6.جيل دولوز: الصورة الحركة أو فلسفة الصورة، ترجمة: حسن عودة، منشورات وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما، دمشق 1997، هامش 27
7.فينتورا، ص 202
8.من محاضرة لتاركوفسكي في إيطاليا بعنوان "السينما والزمن، ماهية السينما ومشكلاتها".
9.فران فينتورا: الخطاب السينمائي، لغة الصورة، ترجمة: علاء شنانة، منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما – دمشق، ص 20
10.فينتورا، ص 21
11.يوري لوتمان: مدخل إلى سيميائية الفيلم، قضايا علم الجمال السينمائي، ترجمة: نبيل الدبس، مطبعة عكرمة دمشق 1989، ص 34
أ. رياض حمادي
مواد الكاتب

اقرأ ايضًا